القادم أسوأ.. هذا هو شكل مصر بعد إنشاء سد النهضة الإثيوبي

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

إذا أردنا أن نعرف النموذج الذي يمكن أن تؤول إليه مصر في حالة انخفاض مياه النيل، فعلينا أن نرجع إلى التاريخ، ونقرأ "الشدة المستنصرية"، التي ضربت مصر في عهد الخليفة المستنصر الفاطمي، من عام 1064 إلى 1071 ميلاديا، بسبب نقص مياه النيل.

في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، ذكر المؤرخ المصري القديم "ابن تغر بردي" عن هذه المحنة قائلا: "وجلا عن مصر خلق كثير لما حصل بها من الغلاء الزائد عن الحد، والجوع الذي لم يعهد مثله في الدنيا، فإنه مات أكثر أهل مصر، وأكل بعضهم بعضا. وظهروا على بعض الطباخين أنه ذبح عدة من الصبيان والنساء وأكل لحومهم وباعها بعد أن طبخها".

مضيفا بردي: "وأُكلت الدواب بأسرها، فلم يبق لصاحب مصر، أعني المستنصر، سوى ثلاثة أفراس بعد أن كانت عشرة آلاف ما بين فرس وجمل ودابة. وبيع الكلب بخمسة دنانير، والسنور بثلاثة دنانير".

وتابع: "ونزل الوزير أبو المكارم وزير المستنصر على باب القصر عن بغلته وليس معه إلا غلام واحد، فجاء ثلاثة وأخذوا البغلة منه، ولم يقدر الغلام على منعهم لضعفه من الجوع فذبحوها وأكلوها، فأُخذوا وصُلبوا، فأصبح الناس فلم يروا إلا عظامهم، أكل الناس في تلك الليلة لحومهم".

"حابي" مصر

مصر والنيل، ارتباط أزلي بين الدولة كأساس وماهية وبين رافدها الأساسي، وشريان حياتها الأبدي، النابع من القارة السمراء، والممتد إلى أقصى الشمال حيث الموطن القديم.

المصريون القدماء وصلت علاقتهم بالنيل إلى حد التقديس، وعلى جدران المعابد الفرعونية، كتبت النصوص المتعلقة بماء النهر، بل خصوا له في معتقداتهم البائدة إلها خاصا، أطلقوا عليه اسم "حابي".

النيل لم يكن فقط من روافد الخير والرزق، بل سبب رئيسي في تأسيس الدولة، والتجمعات البشرية، والحضارة القديمة، فالذين هاجروا وجاءوا واستوطنوا الأرض، حضروا من أجل النيل، وعلى طول الوادي، فلا عجب أن 97% من الشعب المصري يعيش على حدود وادي النيل والأراضي المحيطة به التي تمثل نحو 4% فقط من سائر أرض مصر، بحسب الدراسات الميدانية.

وتعد المعركة التي تخوضها مصر حاليا، المتعلقة ببناء سد النهضة الإثيوبي، هي الأخطر في التاريخ المصري الحديث، بل تصل أن تكون معركة بقاء، لأن التبعات المتعلقة ببناء السد، وإنقاص حصة مصر من المياه، هي تبعات وجودية، لا تتعلق بالاقتصاد فقط، بل بمتغيرات ديموغرافية واسعة، تتعلق بملايين الأشخاص.

في 5 مايو/ أيار 2017، نشرت الجمعية الجيولوجية الأمريكية، دراسة تؤكد أن دلتا نهر النيل بمصر، التي تعد سلة غذاء البلاد، ذات التربة الخصبة، تتعرض لخطر شديد نتيجة الظروف الطبيعية التي تتعرض لها، وتشمل مخاطر مرتبطة بتدفق مياه النيل العذبة بسبب إنشاء سد النهضة، ونقل الرواسب من إثيوبيا عبر السودان ومصر حتى البحر الأبيض المتوسط.

وأكدت الدراسة، أن: "تزايد النشاط البشري، إلى جانب الزيادة السكانية الكبيرة في مصر إضافة إلى الخطر المتمثل في سد النهضة الإثيوبي، من شأنه أن يحدث أزمة في مياه الشرب بمصر بحلول عام 2025".

وأضافت الجمعية الأمريكية أن: "مصر تستمد حوالي 70% من تدفقاتها المائية من النيل الأزرق ونهر العطبرة وكلاهما يستمد مياهه من الأمطار التي تسقط على هضبة الحبشة في إثيوبيا، وأن ما بين 20 إلى 40 كم من سواحل دلتا النيل بمصر ستغمرها مياه البحر بنهاية هذا القرن، جراء ارتفاع مستويات سطح البحر". 

وحسب الدراسة: "تقع دلتا نهر النيل على ارتفاع متر واحد فقط فوق مستوى سطح البحر، ويتعرض الثلث الشمالي من الدلتا لعمليات انخفاض سنوية بمعدل 4 إلى 8 ملليمترات سنويا، نظرا لضغط الطبقات الباطنية الكامنة أسفل السهل الفيضي، والحركات الزلزالية، إضافة إلى النقص الحاد في كمية الرواسب اللازمة لإنعاش هامش الدلتا بالرواسب، في ظل تعرض ساحله للتآكل المتواصل بفعل موجات البحر المتوسط".

وذكرت أنه: "على مدى الـ200 سنة الماضية، أدت التغيرات السريعة في النشاط البشري إلى تغيرات كبيرة في ظروف تدفق المياه بنهر النيل".

وحسب الدراسة فإن: "سد النهضة سيمثل أكبر سد في إفريقيا لتوليد الطاقة الكهرومائية، ومن المتوقع أن يستغرق ملء خزان السد من 3 إلى 5 أعوام، في غضون ذلك فإن مصر والسودان ستتعرضان لنقص شديد في التدفقات المائية".

وتحذر من أن: "هذا الانخفاض الكبير في تدفقات المياه العذبة بالنهر سيؤدي إلى تعرض مصر والسودان إلى ظروف صعبة، ففي مرحلة ما قبل إنشاء سد النهضة كانت مصر تلبي 97% من حاجاتها المائية من مياه النهر بمعدل 660 مترا مكعبا للفرد سنويا، وهو ما يعد أحد أدنى حصص المياه السنوية للفرد عالميا".

صورة من الدراسة توضح تأثر منطقة الدلتا جراء المتغيرات الحادثة

غرق مرتقب

وفي 19 سبتمبر/ أيلول 2018، كشفت الدراسة التى أعدها الدكتور أسامة سلام، الأستاذ المساعد بالمركز القومى لبحوث المياه بوزارة الموارد المائية والرى، عن: "تعرُّض الأراضى الزراعية لخسائر فى دلتا النيل بسبب انخفاض التدفقات المائية بسبب التخزين المتوقع لسد النهضة الإثيوبى للمياه بنسبة تصل إلى 38.937٪، وذلك وفقا للسيناريوهات المحتملة لنقص مياه النيل نتيجة لبناء السد الإثيوبى".

وفي 30 أغسطس/ آب الماضي، نشر موقع "دوتش فيله" الألماني تقرير لجنة الأمم المتحدة حول التغير المناخي، عن التقلبات المناخية العالمية، وتأثيرها على مصر، حيث قال: "توشك مدينة الإسكندرية العريقة، التي أسسها الإسكندر الأكبر قبل أكثر من 2000 عام وصمدت في وجه الحروب والحرائق والكوارث، على مواجهة كارثة طبيعية تهددها بالكامل، فالإسكندرية، وبسبب موقعها الجغرافي الفريد، حيث يحيط بها البحر الأبيض المتوسط من 3 جهات وتقع بحيرة في جنوبها، مهددة بالغرق بحلول عام 2100". 

وأشار تقرير اللجنة إلى أنه، ومنذ عام 2012، فإن الأراضي التي أقيمت عليها المدينة ودلتا النيل المحيطة بها تغرق بمعدل 3.2 مليمترات سنويا، وهي نسبة كافية لتهديد أساسات المباني والتسبب بكارثة كبرى.

وحسب الموقع الألماني: "أوضحت دراسة نُشرت عام 2018 أن نحو 734 كيلومتر مربع من دلتا النيل قد تغمرها المياه بحلول عام 2050، وأن تزيد هذه المساحة مع نهاية القرن إلى 2660 كيلومتر مربع، ما سيؤثر على ملايين المصريين". 

صورة من الفضاء لمنطقة الدلتا المصرية المتاخمة للبحر المتوسط

القادم أسوأ

تحت عنوان "أطول أنهار العالم في ورطة" نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرا في 1 أبريل/ نيسان 2018، أكدت خلاله أنه: "ثمة مشكلة تواجه المزارعين، وهي قلة الرواسب اللازمة للحفاظ على خصوبة الدلتا، والتي يحملها النهر إلى أراضيهم، إذ تعترض السدود (مثل السد العالي وسد أسوان) الموجودين بالقرب من مدينة أسوان بجنوب البلاد، هذا التدفُّق الطبيعي، وتهدد صحة الزراعة بالقرب من ساحل البحر المتوسط على المدى الطويل".

وشددت: "القادم ربما يكون أسوأ، فعلى بعد آلاف الأميال من الدلتا، أوشكت إثيوبيا على إكمال بناء سد النهضة على النيل الأزرق، الذي يعد الرافد الأساسي لنهر النيل، وسيكون السد فور اكتمال بنائه، أكبر محطة توليد هيدروكهربائي للماء في القارة ويمكن أن يحجز، بشكل أكبر، تدفق الماء العذب ومواد التغذية الأساسية الضرورية للزراعة في الدلتا".

كما ذكر أنه: "بسبب تسارع الزيادة السكانية في مصر والتغير المناخي وسوء منظومة تصريف النفايات والصرف الصحي والتلوث، باتت هذه المنطقة الخصبة مهددة، فالنهر بالكاد قادر على توفير احتياجات السكان من الماء، ومن المتوقع أن يتضاعف عدد سكان مصر بحلول عام 2050، وبالطبع فإن هذه الزيادة تصحبها زيادة في الطلب على الغذاء والمزارع". 

وقال محمد عبدالقادر الباحث بمركز البحوث الزراعية جامعة القاهرة، لـ"الاستقلال": "سد النهضة وبلا شك سوف يؤثر على البيئة الزراعية، ومن ثم الاقتصادية للدولة المصرية، وليس في دلتا النيل فقط، فقائمة المحاصيل الزراعية سوف تختلف بحسب وفرة المياه المتاحة، وستنتهي زراعة الأرز إلى الأبد، بالإضافة إلى قصب السكر، والكتان، بالإضافة إلى أن الدولة سوف تضطر إلى الاعتماد على المياه الجوفية، وكثير من المحاصيل والتربة في مصر لن تتحمل وستهلك".

وأضاف عبد القادر: "على الدولة أن تبدأ بإجراءات على المستوى القريب والمتوسط، قبل أن تحل الكارثة، من خلال إرسال لجان متخصصة لتوعية الفلاحين، في التعامل مع نقص المياه، وزراعة محاصيل آمنة، وأن تجد طريقة لاستصلاح الأراضي التي سوف تصاب بالعطب في السنوات المقبلة". 

واختتم الباحث المصري حديثه: "الطريقة الحالية المتبعة في مصر المتعلقة بالزراعة والعائدات الزراعية، بحيث أن كل مزارع له الحق في زراعة ما يريد، شديدة الخطورة، في ظل وضع مصر المائي، واحتمالية الدخول في أزمة غذائية، فلا بد من وضع خطة لإنتاج المحاصيل بالغة الأهمية كالقمح والرز والبقوليات، والخضروات، وتخزينهم، ولا يترك الأمر بهذه العشوائية، التي ستؤدي إلى تفاقم الأزمة".

صورة من القاهرة توضح مدى نقص منسوب مياه النيل

مصر قاحلة

في 20 أغسطس/ آب الماضي، أصدر المركز الديمقراطي العربي، للدراسات الإستراتيجية والاقتصادية والسياسية، دراسة بعنوان "أزمة سد النهضة وتداعيتها على مصر (سياسيا – واقتصاديا واجتماعيا – إحصائيا وجيولوجيا)".

وذكرت الدراسة مجموعة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية لبناء السد، تلخصت في:

  • يتسبب إنشاء سدود على الأنهر الدولية في نزاعات بين الدول، إلا أن قضية النيل بالنسبة إلى مصر مختلفة، إذ يعد المورد المائي الوحيد لها، ويزودها بـ 90 في المئة من احتياجها المائي.
  • يعيش معظم سكان مصر تقريبا في وادي النيل، و60 في المائة من مياه النهر تنبع من الأراضي الإثيوبية، وهو أحد الرافدين الرئيسيين.
  • مصر بالكاد تحصل على المياه التي لديها، وتشكل حصة الفرد فيها حوالى 660 مترا مكعبا من المياه سنويا، ومع توقع أن يتضاعف عدد السكان خلال 50 عاما، يرجح أن يزداد النقص حدة حتى قبل العام 2025.
  • سيعتمد مستوى مياه النيل على الطريقة التي ستدير بها إثيوبيا تدفق المياه بعد تعبئة خزانها الذي يسع 74 بليون متر مكعب من المياه.
  • مصر ستفقد 51% من أراضيها الزراعية إذا جرت تعبئة الخزان الإثيوبي خلال ثلاث سنوات، وعملية التعبئة البطيئة (ست سنوات) ستكلف مصر 17% من أراضيها المزروعة.
  • حوالي 200 ألف فدان من الأراضى الزراعية ستختفي مع كل بليون متر مكعب أقل من المياه، وتتضرر سبل معيشة مليون شخص، بمعدل عيش خمسة أشخاص.

الفقر المائي

في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قال رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي: "مصر دخلت مرحلة الفقر المائي وفق المعدلات العالمية، حيث وصل نصيب الفرد إلى 500 م3".

وقبله في 9 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، أعلن رئيس الحكومة مصطفى مدبولي في كلمته بالبرلمان: "طبقا لكل الأرقام الدولية، مصر دخلت مرحلة الفقر المائي، وكلما يزيد عدد السكان يتناقص نصيب الفرد من المياه، فنسبتنا من مياه النيل ثابتة وستظل ثابتة".

وأوضح أن: "نصيب الفرد من المياه لا بد أن يكون 1000 متر مكعب سنويا، إلا أن نصيب المصري الآن لا يتجاوز 700 متر مكعب"، مما يؤكد أن البلاد دخلت حزام الفقر المائي.

ودعا مدبولي إلى تدخل وسيط دولي في المفاوضات مع إثيوبيا، مضيفا أن: مصر بذلت كل الجهود الممكنة للتفاهم مع أديس أبابا، إلا أن المفاوضات وصلت إلى طريق مسدود.

وشهدت الجلسة، اعتراض عدد كبير من النواب، وفي مقدمتهم نواب المعارضة من (تكتل 25/30)، بسبب رفض رئيس البرلمان، منحهم الكلمة للتعقيب على بيان الحكومة.

وتعتمد مصر على النيل في الحصول على 90 في المئة من المياه، فيما تبلغ حصتها 55.5 مليار متر مكعب، وتستهلك الزراعة معظمها بنسبة 80%، في حين تبلغ المياه الجوفية والأمطار حوالي 4.5 مليارات متر مكعب سنويا، لكن الاحتياجات الحقيقية تبلغ نحو 114 مليار متر مكعب، وهو ما جعل مصر تعاني من شح المياه وتدخل في نطاق الفقر المائي، فى كل فدان.

وحسب البنك الدولي تتذيل مصر قائمة دول حوض النيل من ناحية نصيب الفرد في المياه، وتحل مصر في المرتبة الرابعة عالميا من ناحية الشح المائي للفرد بعد الكويت والبحرين والإمارات.