من نماذج العدالة الانتقالية.. أيرلندا الشمالية

أحمد ماهر | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

أثناء المد الثوري يصبح أي حديث عن العدالة الانتقالية هو حديث أشبه بالهزلي وغير المقبول من الجماهير الثائرة، وكذلك الحال أيضا في التجارب التي بها الكثير من القمع والدماء، تكون فكرة الانتقام الفردي أو الجماعي هي المسيطرة، وكثيرا ما يظلم الكثيرون تحت شعارات التطهير، خصوصا الذين كانوا يعملون في دوائر البيروقراطية وينفذون الأوامر بدون مناقشة، فيطالهم الانتقام ضمن موجات المحاسبة والتطهير.

وكثير من التجارب الثورية انتهت إلى الفشل أو عودة النظام القديم أو انتصار الثورة المضادة عندما استطاعت الحكومات السابقة تنظيم صفوفها في الخفاء أو استغلال أخطاء الثوار أنفسهم، وهناك ثورات كانت أكثر راديكالية ودموية وأبادت كل أفراد وشخصيات النظام القديم، ولكن ارتكب الثوار بعد ذلك جرائم أكثر فظاعة مما كان يفعله من تم الثورة عليهم، ولذلك من المهم أن نستمر في دراسة وقراءة تجارب العدالة الانتقالية، ومن أهم نماذجها في وجهة نظري تجربة أيرلندا الشمالية.

فمعاهدة الجمعة العظيمة (10 أبريل 1998) أقرت نظام لاقتسام السلطة بين فريقين متقاتلين لسنوات طويلة، فريق أنصار استقلال أيرلندا الشمالية وانضمامها لجمهورية أيرلندا ضد أنصار الوحدة مع بريطانيا والبقاء تحت التاج البريطاني، فقد استمرت الحرب الأهلية والعنف السياسي والطائفي في أيرلندا الشمالية أكثر من 30 عاما قبل إقرار المعاهدة، وقد خلفت تلك الحرب أكثر من 3500 قتيل بالإضافة لعدد مهول من الجرحى نتيجة وحشية القوات البريطانية والقوات الأيرلندية الموالية لها، أو نتيجة التفجيرات التي كان يقوم بها الجيش الجمهوري الأيرلندي في الداخل البريطاني بهدف إجبار بريطانيا علي الاستسلام، بجانب وجود أكثر من 25 ألف سجين منذ اندلاع أحداث العنف في نهاية الستينيات.

وقد أقرت تلك المعاهدة امتيازات جديدة واستقلالية أكثر لأيرلندا الشمالية، مثل إنشاء برلمان مستقل لأيرلندا الشمالية، وحق سكان أيرلندا الشمالية في حمل جنسية أيرلندية أو بريطانية، مع الاستمرار كجزء من التاج البريطاني وإنشاء مجلس سياسي بريطاني أيرلندي، وإنشاء حكومة محلية وتقاسم السلطة بين البروتستانت والكاثوليك، واللجوء إلى الاستفتاءات قبل الإقدام على أي قرار يخص أيرلندا الشمالية.

وفي تجربة المصالحة في أيرلندا بعض الأمثلة التي يجب دراستها، فقد مضى على معاهدة الجمعة العظيمة أكثر من 20 عاما، وهي التي لا تزال سارية حتى الآن رغم كل التعقيدات الموجودة في العلاقة بين الأيرلنديين والبريطانيين منذ عدة قرون. ورغم كل العنف المتبادل والدماء التي سالت، فالمشكلة لها  جذور عميقة بدأت منذ احتلال إنجلترا البروتستانتية لأيرلندا الكاثوليكية كنوع من أنواع التمدد الاستعماري ابتدء من القرن الـ12 وتولية الأمير جون "البروتستانتي".

وفي القرن الـ15 مُنعت الأغلبية الكاثوليلكية من الوصول للبرلمان، وأصبحت هناك هيمنة بروتستانتية بجانب هجرة وتنجنيس للبروتستانت إلى أيرلندا بهدف إحداث تحول ديموجرافي.

توازى مع ذلك ما يشبه التمييز ضد الأغلبية الكاثوليكية، وحدثت بالطبع العديد من الحروب الأهلية بين البروتستانت الموالين لبريطانيا وبين الكاثوليك، وفي نهاية القرن الـ19 حدثت الكثير من المناوشات عندما حاولت بريطانيا زيادة سيطرتها على جزيرة أيرلندا وإلغاء البرلمان الأيرلندي وإعطاء امتيازات أكثر للأقلية البروتستانتية.

ثم قامت حرب استقلال أيرلندا عن بريطانيا (1919-1921) بين الجيش الجمهوري الأيرلندي (الشين فين)، وأسفرت تلك الحرب عن عدد ضخم من الضحايا من الجانبين، إلى أن تم التوقيع على معاهدة السلام التي تنص على انسحاب بريطانيا من أيرلندا ما عدا المناطق التي بها وجود بروتستانتي، فيتم إعطاؤها حكم ذاتي تحت التاج البريطاني (أيرلندا الشمالية)، وهو ما ترتب عليه بدء الحرب الأهلية المريرة بين الأيرلنديين أنفسهم ورفاق النضال من قادة الجيش الجمهوري الأيرلندي (1922-1923)، بين الموافق على المعاهدة مع بريطانيا واعتبارها خطوة على طريق الاستقلال، والرافض للاتفاقية باعتبارها خيانة لحلم الاستقلال التام وإقامة جمهورية أيرلندا المتحدة المستقلة.

ورغم اختلاف قصة أيرلندا الشمالية عن تجربتنا في مصر أو تجارب الثورات العربية بشكل عام، إلا أنه يمكن الخروج ببعض النقاط المفيدة؛ منها مثلا أن الجيش الجمهوري الأيرلندي الذي ظل يصنف كجماعة إرهابية محظورة لعدة عقود، تم الاعتراف به من قبل بريطانيا والعالم كله كشريك سياسي وكطرف في المفاوضات، رغم كل العنف الذي تم استخدامه من اغتيالات وتعذيب وتفجير لمراكز الشرطة الموالية لبريطانيا في أيرلندا الشمالية، أو حوادث الإرهاب والتفجيرات التي نفذها الجيش الجمهوري الأيرلندي داخل لندن، التي قتل فيها عشرات الأبرياء وكذلك موافقة الطرف الأيرلندي على التفاوض والتصالح مع الجانب البريطاني والأحزاب الأيرلندية الموالية لها رغم كل ما تم ارتكابه من جرائم وقتل واعتقالات وتعذيب.

الاعتراف بالآخر وأن له حقوق، بالتأكيد يكون خيارا صعبا خصوصا على من تربى على أنه هو الأفضل وأنه هو الأكثر تميزا وأنه فقط هو صاحب الحق، وأن الآخر هو الشر المطلق وليس له الحق في الوجود، ولكن الاعتراف بالآخر هو المفتاح وهو بداية الطريق، فالجلوس مع العدو على طاولة التفاوض أو النقاش تكون دائما جلسات مؤلمة وغير مريحة، وربما مثيرة للغثيان. وكثيرا ما يكون بها الكثير من الاستفزاز والضغوط، ويكون بها كذلك مساومات وشد وضغط وأحيانا تنازلات في قضايا كانت تعتبر في الماضي من المسلمات غير القابلة للنقاش.

يتطلب كذلك الأمر قرارات شجاعة من قادة شجعان، فكل فريق به صقور وحمائم، هناك من يرى أنه لا تنازل وأنه بمواصلة الصراع والحرب والضغط سوف ننتصر حتما ونستريح من تلك القضية للأبد، ويختفي الطرف الآخر تماما من الوجود، مهما كلفنا ذلك من أموال وأرواح في سبيل الانتصار التام.

وهناك الفريق الذي يمكن وصفه بالأكثر عقلانية أو الأقل تعصبا، الذي يرى أن تلك الحرب أو الصراع استنزاف للجميع، وأن الثمن باهظ جدا، وأنه يمكن الوصول لحل يرضي الطرفين بقليل من التنازلات منهما من أجل وقف نزيف الأموال والأرواح.

المشكلة في أن الخطاب الشعبوي المتعصب له جمهور أكبر، وأن نشر خطاب كراهية أسهل بكثير، ولذلك كثيرا ما يوصف دعاة السلام والتفاوض والمصالحة والوصول لحل وسط بالخونة، خصوصا في أوطاننا التي لا تزال منذ قرون تتغذى على الخطب العصماء الشعبوية التي تمجد في الذات والتاريخ الفائت، وتقتات على كراهية الآخر وتحميله كل المسؤولية عن أي إخفاقات.

في أيرلندا الشمالية تحول الرأي العام إلى فكرة التعايش المشترك بدلا من فكرة الاقتتال المبني على الكراهية والطائفية، لم يكن هذا التحول مجرد حدث مفاجئ، بل كان نتاج مجهود طويل ومحاولات من عقلاء ودعاة سلام، ولا يعني هذا أنه لا يزال يوجد من هو ضد معاهدة السلام والتعايش المشترك في أيرلندا، ومن يحاول بين الحين والآخر تزكية الخطاب الطائفي ضد الآخر.

ولا يمكن إغفال فكرة الحافز السياسي للخصم، أتذكر أني قرأت ذات مرة مقولة لسفير بريطانيا في لبنان منذ عدة سنوات يقول: لو كان أنصار الوحدة مع بريطانيا قد طلبوا من الجيش الجمهوري الأيرلندي أن يلقي السلاح أولا قبل بدء التفاوض لكانت المفاوضات قد فشلت قبل أن تبدأ.

ولذلك يجب أن تفكر في الحافز السياسي قبل أن تطلب من خصمك إلقاء السلاح أو التوقف عن القمع أو العنف، ويجب أن تفكر في المزايا والامتيازات التي يخشي عليها خصمك إن سمح لك بأن تشاركه في السلطة.

وأخيرا يمكن القول: إن فكرة المصالحة الوطنية لا تعني نسيان الماضي بمنتهى البساطة، ولكنها عملية معقدة طويلة الأجل تلجأ لها الأطراف المتنازعة بعد اقتناع الجميع بأن استمرار النزاع والعنف يعني النزيف المستمر والخسارة للجميع، ولذلك يجب أن يكون الماضي موجودا بهدف تفادي تكرار التجربة المؤلمة وليس بهدف إشعال الكراهية مرة أخرى.

وكذلك ليس المقصود بالمصالحة والعدالة الانتقالية أن يعفو المنتصر عن الطرف المهزوم، أو أن يرضخ المهزوم لشروط المنتصر، بل هي تعني الانطلاق الجديد نحو إعادة البناء استنادا على مبدأ الشراكة والتعايش المشترك والتحول الديمقراطي وليس الانتقام والثأر والكراهية.