هل تم استئصال سرطان العصابة؟

ادريس ربوح | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لأول مرة منذ إزاحة عبدالعزيز بوتفليقة عن الحكم تطفو على سطح المشهد السياسي الجزائري تناقضات العصب المتصارعة داخل النظام وذلك بمناسبة إنشاء لجنة الحوار والوساطة، التي حاولت أن تكون قريبة من الحراك الشعبي بمطالبتها لرئيس الدولة عبدالقادر بن صالح بمجموعة من إجراءات التهدئة متعلقة بإطلاق سراح المعتقلين وتخفيف الترتيبات الأمنية الخاصة بالجزائر العاصمة.

وكان الرد بالسلب من طرف المؤسسة العسكرية عبر خطاب قائدها الفريق أحمد قايد صالح وافتتاحية مجلة الجيش الناطقة باسم المؤسسة لتقضي هذه الردود على أي فرصة نجاح لهاته اللجنة في قيادة الحوار الوطني، الذي يحتاج إلى توافقات كبيرة بين مكونات وعصب النظام قبل إقناع الحراك بجدية مسعى الحوار الذي لا يزال لم يبرح نقطة البداية ومرحلة التصريحات وإبداء حسن النية التي لم تترجم لحد الآن إلى واقع عملي.

طريقة الحوار وإنشاء اللجنة ثم التضييق على أي محاولة لتاطير الحراك من طرف نشطاء الحراك الشعبي توحي بما لا يدع مجال للشك بأن السلطة الفعلية غير مستعدة في هذه المرحلة لبداية حوار حقيقي يفضي إلى حل الأزمة السياسية. 

في المقابل لا يزال الحراك يحافظ على ديمومته وسلميته وتغلبه على مناورات العصب من جهة وعلى محاولات الركوب وحشر القضايا الهامشية التي حاولت جميع التيارات الإيديولوجية والسياسية إقحامها كأولوية في الحراك من جهة ثانية. 

وهي مناورات وقضايا تخدم فريق دون آخر، وهي بعيدة كل البعد عن الهدف المركزي للحراك وهو ذهاب هذا النظام الفاسد واستبداله بنظام ديمقراطي يختاره الشعب الجزائري بنفسه دون أي تدخل لأي قوة داخلية أو خارجية.

وذلك في محاولة جديدة من قوى التحرر الوطني لاستئناف معركة الاستقلال الذي تم الانقضاض على نتائجها الطيبة عشية استعادة السيادة الوطنية في 5 جويلية (تموز) 1962 من طرف مجموعة من الجزائريين، الذين أقصوا بقية مكونات الساحة السياسية آنذاك ليحكموا الجزائر عن طريق الحزب الواحد والمنهج الاشتراكي، الذي لا رجعة فيه، وبقي طيلة ثلاث عقود شعارا لهذا النظام الوطني الذي ورث حكم الجزائر من النظام الاستعماري الفرنسي بعد ثورة تحريرية مظفرة شارك فيها الجميع.

هذا الخيار السياسي والاقتصادي والثقافي لم يصمد أمام انهيار أسعار البترول سنة 1986، لتنفجر بعد ذلك أحداث قسنطينة سنة 1987 لتليها انتفاضة شعبية أكثر شمولا في 5 أكتوبر 1988. ليبدأ ربيع الجزائر السابق لأشقائه في الوطن العربي وتدخل البلاد في أجواء الحرية والديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية والجمعوية وتنظيم انتخابات ديمقراطية في 1990 و1991 جاءت بالمقصيين من الحكم طيلة ثلاث عقود وعلى رأسهم الإسلاميين واليساريين الجهويين. 

إلا أن مناورات عصب النظام استطاعت أن تجهض التجربة وفي تحالف ضمني مع المتسرعين والمتهورين في التيار الإسلامي من جهة ومع الحاقدين عليه من التيارات اليسارية من جهة أخرى. لتدخل البلاد في أزمة سياسية وأمنية قاسية عطلت مشروع التغيير لأكثر من ربع قرن. 

ويأتي الحراك الشعبي المسلح بتجربة الانتفاضة الشعبية مستوعبا للحظة التاريخية كاشفا لمناورات النظام: هذا الأخير الذي اضطر لأول مرة في تاريخه أن يُقدم على تنازلات مؤلمة وذلك بتطهير نفسه من أسوأ عناصره؛ وهي العناصر التي قادت الانقلاب على الإرادة الشعبية في جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1992 ممثلة في القادة العسكريين وزير الدفاع الأسبق خالد نزار ورئيس مديرية الاستعلام والأمن (المخابرات الجزائرية) محمد مدين والقائمة مفتوحة لكل من تورط في مأساة الجزائريين من نظام "انقلاب جانفي".

بالإضافة إلى المجموعة الفاسدة المفسدة التي جاء بها إلى الحكم نظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة من رؤساء حكومات ووزراء وولاة ومسؤولين عسكريين وأمنيين وحزبيين وهي قائمة مفتوحة هي الأخرى، حيث تتواصل المتابعات القضائية والمذكرات الدولية لملاحقة كل من ثبت تورطه في سرقة المال العام وتعريض أمن واستقرار البلاد للخطر.

أمام هذه التطورات التاريخية التي شهدها النصف الأول من سنة 2019 الذي ينتظر منه الشعب الجزائري أن يكون آخر سنوات الاستبداد والفساد، ليبقى الحراك والجيش اللاعبين الرئيسيين في المشهد الجزائري اللذان يحظيان بالاحترام والهيبة داخل الوطن وخارجه، وكل طرف حريص على إتمام أجندته. 

الحراك الشعبي يريدها ديمقراطية حقيقية والجيش يريدها عملية استئصالية لسرطان الدولة العميقة ليرتب المشهد من جديد دون اضرار بدوره المركزي في الشأن الوطني.

تصفية رموز العصابة المدنيين والعسكريين يلهم الحراك على مواصلة الزحف مهما كانت نتيجة المتابعات القضائية التي باشرتها الجهات القضائية المدنية والعسكرية، فإن إدانة النظام قد تمت وسنشهد في الأسابيع القادمة مزيدا من الإدانات لنظام ارتكب مآسي في حق الشعب الجزائري، نظام أفقد الأمل لأبناء الوطن في أنفسهم ودولتهم ودفعهم إلى خيارات صعبة غصبا عنهم فاختار الكثير من أبناء وطني الهجرة والحرقة (الهجرة غير الشرعية) والانزواء والابتعاد عن الشأن العام في حين كان من المفروض أن يكونوا من روافع  نهضة الوطن وفداءا لمجده. 

هذا النظام الذي دمر الأسرة والمدرسة والجامع والجامعة والفعل الثقافي والنادي الرياضي وغيرها، من مناحي الحياة ليضعف بذلك نسيجنا الاجتماعي وموروثنا الثقافي والإحساس بالانتماء إلى وطن ضحى من أجله الآباء والأجداد بالغالي والنفيس ليعيش أبنائهم و احفادهم تحت راية الإستقلال الوطني ويتنعموا بخيرات سقاها شهداء الثورة التحريرية المباركة بدمائهم.

حلفاء الحراك داخل السلطة يواصلون عمليات استئصال سرطان الدولة العميقة، فمنذ بداية الحراك الشعبي أدرك الجميع بأن نشطاء الحراك ليسوا فقط في شوارع الجزائر وساحاتها بل هناك الكثير منهم متواجد في مؤسسات الدولة، أنتظر هذه الفرصة التاريخية ليتجاوب مع مطالب شعبه لعلمه واطلاعه على حجم الفساد الذي تركته العصابة والدولة العميقة.

فاستغل أبناء الجزائر المخلصين هذه التغطية المطلوبة ليباشروا عملياتهم الجراحية الدقيقة في استئصال سرطان الدولة العميقة وتفرعاته الرهيبة، التي مازالت متواجدة في دواليب الحكم وهي في اغلبها الأدوات التنفيذية للعصابة الواجب تنحيتهم وتعويضهم ممن ثبتت نزاهته طيلة هذه السنوات الاخيرة والتي سقط فيها الكثير في أحوال الفساد ونهب المال العام وضرب القيم،  بل والتآمر على مستقبل البلاد مع أطراف خارجية لا تهمها إلا مصلحتها ومصالح الدول التي تمثلها.
  
هذا السرطان نشأ وتجذر منذ مجئ انقلابي جانفي (يناير/ كانون الأول) 1992 ليحمي نفسه دوليا باستقدام عبد العزيز بوتفليقة الذي مكن للفاسدين في السياسة والمال والإعلام والأحزاب والمجتمع المدني والزوايا والرياضة ولم يترك أي مجال إلا ولوثه بالفساد والمفسدين،لتتورط شرائح واسعة من المجتمع.

إلا أن هذه العمليات الاستئصالية تحتاج إلى حراك شعبي متواصل وسلمي لتتم عملية تنقية دواليب الدولة بطريقة هادئة تمهد للرئيس القادم المنتخب الانطلاق مباشرة في النهضة السياسية والاقتصادية الشاملة.