معايير مزدوجة.. هكذا يتعامل الغرب مع الروس الفارين من التعبئة العسكرية

لندن - الاستقلال | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بعد فرض الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، "التعبئة الجزئية" الاحتياطية لمواطني بلاده، بات الرجال والشباب ممن يطالهم قرار التجنيد أمام خيار واحد، الفرار إلى الخارج لتجنب الزج في معارك أوكرانيا.

وجاء قرار التعبئة بغرض تعديل موسكو كفة موازين الحرب في أوكرانيا، إثر تراجع مساحة الأراضي التي يسيطر عليها الجيش الروسي هناك وتقهقره المتسارع ميدانيا.

تجنب التجنيد واحتمال الزج بهؤلاء المجندين الجدد في ساحات المعارك على طول جبهة ألف كيلومتر في أوكرانيا دفع آلاف الشباب لاتخاذ قرار مغادرة روسيا على الفور عبر المعابر الحدودية البرية أو جوا.

فرار بالجلد

وأعلن بوتين عن "التعبئة الجزئية" في 21 سبتمبر/أيلول 2022، محذرا الغرب من أنه "ليس من قبيل الخداع" أن تستخدم روسيا كل الوسائل المتاحة لها لحماية أراضيها.

وتطمح روسيا لتجند في "التعبئة" 300 ألف مجند، وفق رقم حددته مبدئيا وزارة الدفاع، ممن تتراوح أعمارهم من 35 إلى 70 عاما، حسب الرتبة والمؤهلات العسكرية.

وما هي إلا ساعات من إعلان بوتين حتى امتلأت الرحلات الجوية خارج البلاد بسرعة، وغصت منافذ روسيا البرية بالسيارات لعبور البلاد هربا من عمليات التجنيد.

وأمام ذلك لم تبق الحكومة الروسية صامتة إزاء الغضب الشعبي من عمليات "التعبئة"، والتي كان لها مظهر واضح لرفضها، عبر المظاهرات المنددة بالقرار.

الأمر الذي دفع السلطات لشن عمليات اعتقال بحق المئات في مظاهرات أعطت دليلا على تململ الشارع من كلفة الحرب التي طالت الجميع في روسيا، وسط رغبة موسكو بجعلها "حربا مفتوحة وطويلة" رغم مرور سبعة أشهر على اندلاعها.

وفي مشهد غير مسبوق تدافع الآلاف من الروس اليائسين للفرار من بلدهم لتفادي الاستدعاء.

ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل ابتكر الروس طرقا جديدة لتفادي الاستدعاء.

ومنها ما شاع بعد ساعات من خطاب بوتين، تكرار عمليات البحث على محرك "غوغل" عن "كيفية كسر ذراع في المنزل''.

ونقلت صحيفة "ديلي ميل" عن زوجة في منطقة سيبيريا قولها: "لن أترك زوجي يرحل، سأكسر ساقيه، واجبه هو تربية أبنائه".

لكن رغم ذلك، فقد ظهرت مجموعات على وسائل التواصل الاجتماعي تقدم النصائح حول كيفية الخروج من روسيا، بينما أعد موقع إخباري روسي قائمة "إلى أين تهرب الآن من روسيا؟".

وأمام ذلك التهافت الكبير "للنجاة بالنفس" من قبل الروس ارتفعت أسعار تذاكر الطيران بشكل كبير بسبب ارتفاع الطلب عليها.

وبحسب موقع "كابيتال" الفرنسي فإن أداة الإحصاءات الخاصة بـ"غوغل تريندز" (Google Trends) تظهر أكثر الكلمات التي بحث عنها الروس على موقع غوغل وهي "تذاكر" و"طائرة".

كما سجلت الرحلات الداخلية نحو المدن القريبة من الحدود الروسية ارتفاعا في الأسعار، مثل الرحلات من موسكو إلى فلاديكافكاز التي يبلغ سعر تذكرتها 750 دولارا مقابل نحو 70 دولارا في السابق.

كما قال مسؤولو شركة تنظيم الرحلات السياحية بروسيا، إنه رغم ارتفاع سعر تذكرة الذهاب إلى أنطاليا التركية إلى 70 ألف ليرة تركية (3800 دولار) في بعض الرحلات يكاد يكون من المستحيل العثور على مقعد، وفق ما ذكر موقع "حريت دايلي نيوز" التركي.

في حين أن أولئك الذين لم يتمكنوا من العثور على مقعد على متن الطائرات انطلقوا إلى أنطاليا عن طريق البر.

كما أكد الموقع التركي أن الروس الذين قدموا إلى أنطاليا في إجازة ولأغراض تجارية ألغوا رحلاتهم إلى روسيا عقب "قرار التعبئة".

وأشار المسؤولون إلى أن بعض شركات الطيران الروسية حظرت بيع التذاكر للرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و65 عاما المؤهلين للخدمة العسكرية.

كما يفر الروس إلى دول أخرى، مثل الإمارات وجورجيا، وفنلندا وأرمينيا وأذربيجان وكازاخستان، وفقا لموقع "أفيا سيلز" (Aviasales) الذي يحظى بشعبية كبيرة في روسيا لشراء تذاكرها.

عبور الآلاف

ويحاصر المطلوبون للتجنيد في روسيا بورقة الاستدعاء التي بمجرد استلام الشخص لها يصبح خروجه من البلد شبه مستحيل عبر المنافذ الرسمية، كونها تعرض الهارب في حال القبض عليه للمحاكمة العسكرية وعقوبة بالسجن تصل لـ10 سنوات، وفقا للقوانين النافذة في هذا الشأن.

وفي رصد لعمليات الفرار من روسيا أكد حرس الحدود الفنلندي في بيان أن حركة المرور إلى البلاد عبر حدودها كثيفة، مع تزايد عدد الروس الذين يعبرون بشكل مطرد منذ أن أمر بوتين بتعبئة عسكرية.

وأفاد حرس الحدود في 23 سبتمبر 2022 بأن نحو سبعة آلاف شخص دخلوا من روسيا خلال يوم واحد، منهم نحو ستة آلاف روسي، مما يعني زيادة بنسبة 107 بالمئة مقارنة باليوم نفسه قبل أسبوع.

وأكد حرس الحدود الفنلندي أن بعض الروس تقدموا بطلبات لجوء في هذا البلد، الذي بقيت معابره الحدودية البرية مع روسيا من بين نقاط الدخول القليلة المتاحة إلى أوروبا بالنسبة للروس.

يأتي ذلك بعد أن أغلقت عدد من الدول الحدود، وأيضا المجال الجوي أمام الطائرات الروسية، عقابا لموسكو إثر شنها غزوا واسع النطاق على أوكرانيا فجر 24 فبراير/شباط 2022.

وفي هذا الشأن أكد المسؤول الحدودي الفنلندي، ماتي بيتكانيتي، أن السيارات اصطفت لمسافة تصل إلى 400 متر في فاليما، المعبر الأكثر ازدحاما.

وأوضح بيتكانيتي لوكالة "رويترز" البريطانية أن 4824 روسيا وصلوا إلى فنلندا عبر الحدود الشرقية في 21 سبتمبر مقارنة بـ3133 قبل أسبوع من التاريخ المذكور.

مواقف الغرب

وأمام بدء موجة فرار ضخمة من روسيا، يبقى السؤال الأكثر حضورا هو مدى إمكانية فتح دول الغرب باب اللجوء للمواطنين الروس أسوة بالأوكرانيين.

وفي هذا السياق فإنه وعلى الفور أعلنت ألمانيا استعدادها لمنح اللجوء إلى الروس الفارين من الجيش الذين يعارضون قرار التعبئة.

وأكدت وزيرة الداخلية، نانسي فيزر، في تصريح لصحيفة "فرانكفورتر العامة" في 22 سبتمبر إنه يمكن للمنشقين المهددين بمواجهة قمع شديد أن يحصلوا على الحماية الدولية في ألمانيا.

وأضافت: "أي شخص يعارض بشجاعة نظام بوتين ويقع لهذا السبب في خطر كبير يمكنه التقدم بطلب للحصول على اللجوء في ألمانيا على أساس الاضطهاد السياسي".

وأوضحت فيزر أن بلادها ومنذ أشهر تقبل لجوء المنشقين الروس الذين تعرضوا للاضطهاد والتهديد.

أما المفوضية الأوروبية فقد وجهت في 24 سبتمبر 2022 تنبيها إلى حكومات الدول الأعضاء في الاتحاد البالغ عددها 27، بوجوب التوصل سريعا لموقف موحد من طلبات اللجوء التي بدأت تتوالى من الروس الفارين بالآلاف هربا من التعبئة.

كما نبهت المفوضية إلى رفض طلبات اللجوء قبل النظر فيها، وفقا للمعايير والإجراءات المتبعة قبل اتخاذ القرار برفضها أو قبولها.

وأكدت فنلندا أنها ستدرس طلبات اللجوء من المواطنين الروس، قبل اتخاذ قرار بشأنها.

من جانبه، أعلن وزير الخارجية الليتواني، غابريليوس لاندسبيرغيس، أن بلاده ستنظر في طلبات اللجوء بشكل فردي وفقا للقواعد المرعية.

لكنه قال إن ليتوانيا التي لا يزيد عدد سكانها عن ثلاثة ملايين ليست عازمة ولا قادرة على منح تأشيرات إنسانية لكل المواطنين الروس الذين يطلبونها.

بينما الحكومة التشيكية، التي تتولى حاليا الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، أعلنت أنها "لن تمنح" تأشيرات إنسانية إلى الروس الهاربين من التعبئة.

والقواعد الأوروبية تسمح للدول الأعضاء برفض دخول الأجانب إلى أراضيها لأسباب تتعلق بالنظام العام أو الأمن القومي.

لكن رغم ذلك تجد الدول وعلى رأسها ألمانيا، التي تطالب بمساعدة الروس الهاربين لأسباب إنسانية، فجوة لفتح تلك الحدود ذراعيها لاحتضان الروس الفارين أسوة باللاجئين الأوكران.

ويرتكز هؤلاء في دعواهم إلى أن الإجراءات على الحدود الخارجية للاتحاد تخضع لأحكام اتفاقيات جنيف.

تنص الاتفاقيات على أن الأشخاص الذين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية، بمن فيهم أفراد الجيش الذين نزعوا سلاحهم أو أصبحوا خارج المواجهات العسكرية بسبب المرض أو الاعتقال أو أي أسباب أخرى، يخضعون لمعاملة إنسانية.

قبول مشروط

وتتضارب الآراء داخل أوروبا حول منح الروس اللجوء، إذ يرى رئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال، أن على أوروبا فتح أبوابها أمام الروس الهاربين من التعبئة التي أعلنها بوتين.

وطالب ميشال أوروبا بإظهار "انفتاح لهؤلاء الذين لا يريدون للكرملين أن يستغلهم"، بحسب ما أورده موقع "بوليتيكو" الأميركي.

فيما ترى رئيسة الوزراء الإستونية، كاجا كالاس، التي أكدت أن بلادها لن تقبل أي فارين روس من التجنيد الإجباري، أن "جميع الناس يتحملون المسؤولية عن تصرفات دولهم".

وأفادت بأن "الرجال الروس يجب أن يقفوا ويعبروا عن معارضتهم لإجراءات بلادهم في أوكرانيا بدلا من البحث عن ملجأ في الدول الأجنبية"، وفق ما قالت خلال مقابلة مع شبكة "سي إن إن" الأميركية.

وقررت بولندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا، التي تشترك جميعها في الحدود البرية مع روسيا، عدم السماح للفارين من التعبئة بدخول أراضيها.

وكان وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي اتفقوا في 31 أغسطس/آب 2022 على تعليق اتفاقية مبرمة عام 2007 لتسهيل إصدار تأشيرات إقامة قصيرة في دول التكتل للروس.

الأمر الذي صعب من حصول الروس على تأشيرات كانت يسيرة قبل بدء الحرب على أوكرانيا.

لكن رغم ذلك، فإن جميع دول الاتحاد الأوروبي متفقة على إبقاء الباب مفتوح على مصراعيه للروس، من أعضاء المجتمع المدني وللمعارضين والحالات الإنسانية الأخرى.

وللمقارنة تلقت دول فضاء شنغن الـ26 (22 دولة من الاتحاد الأوروبي والنروج وأيسلندا والسويد وليشتنشتاين) ثلاثة ملايين طلب تأشيرة دخول عام 2021، بينها 536 ألف طلب من مواطنين روس رفضت حوالي 3 بالمئة منها.

باب مغلق

في أحد الحانات في جورجيا، يجب على الروس التوقيع على نموذج يقرون فيه أنهم يعتقدون أن بوتين "ديكتاتور" وأنهم يدينون تصرفات موسكو ضد أوكرانيا.

وذهب ثلث الفارين من روسيا وفقا لاستطلاعات أجرتها منظمة "أوك روسيانز" إلى تركيا وجورجيا وأرمينيا، ومعظمهم من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و34 سنة، في حين أن 14 بالمئة فقط ممن غادروا كانت أعمارهم فوق 45.

وقال حوالي 68 بالمئة من المشاركين الروس في الاستطلاع أنهم غادروا "إلى الأبد أو لفترة طويلة"، بينما قال 55 بالمئة إنهم شعروا ببعض الضغوط السياسية في روسيا قبل مغادرتها.

وأمام ذلك، رأى مايكل كيميج، الذي خدم في فريق تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية، أن "بعض الأبواب للدول الأوروبية قد تظل مغلقة أمام المهاجرين الروس إلى أن تغير موسكو توجهاتها في جهودها ضد أوكرانيا".

وألمح كيميج في حديث لمجلة "نيوزويك" الأميركية إلى أنه "إذا شعرت الدول بتهديد وجودي من موسكو، فإنها لا ترى في قبول الشباب الروس كحل".

وختم بالقول: "لدى تلك الدول موقف أكثر عقابية، ليس فقط ضد الكرملين والحكومة الروسية، ولكن موقف عقابي ضد المجتمع الروسي ككل".

وخلاصة القول، فإنه مع مغادرة نحو نصف مليون روسي البلاد منذ بداية غزو أوكرانيا، فإنه يغادر ألمع الناس وأكثر الأشخاص موهبة في مجالات واختصاصات متعددة.

وحول هذه النقطة هناك من يفتح النقاش حول ما إذا كان المهاجرون الروس سيتمكنون من الاندماج في اقتصاد جديد في مكان ما في أوروبا.

وقالت الأستاذة في جامعة كورنيل، إيلين ديفولت، لمجلة "نيوزويك"، إنه سيكون "من الصعب معرفة تأثير المهاجرين الروس على الدول الأوروبية، لذا فإن التأثير سيختلف في كل حالة على حدة، ولا سيما أننا لا نعرف ما هي مهارات الروس".