كيف تسللت المخابرات المصرية وأحكمت قبضتها على التلفزيون؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 1960، في الذكرى الثامنة لانطلاق الثورة المصرية، كان هناك حفل تدشين تاريخي لمبنى الإذاعة والتليفزيون المصري "ماسبيرو".

على ضفاف النيل انطلق أول بث مباشر بتلاوة آيات من القرآن الكريم، وإذاعة نشيد "وطني الأكبر"، وظهور الرئيس جمال عبد الناصر مخاطبا مجلس الأمة، في احتفال يليق بمنصة الإعلام المصري والعربي، التي سيكون لها الهيمنة واليد الطولى في السيطرة على الرأي العام من المحيط إلى الخليج لسنوات طويلة.

من ماسبيرو كانت الخطابات الرنانة لزعماء مصر على مر العصور، والأحداث المفصلية في تاريخها الحديث، عبد الناصر يلقي بيان التنحي عقب نكسة 5 يونيو/ حزيران 1967، وإعلان نبأ وفاته المفاجئ بصوت السادات، وخطاب الانتصار في حرب 6 أكتوبر 1973.

تفاصيل العرض العسكري الذي قتل فيه الرئيس الراحل أنور السادات في ذكرى الانتصار عام 1981، والسنوات الأخيرة التي سقط فيها مبارك عقب ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وكلمة عمر سليمان المقتضبة معلنا فيها تنحي مبارك بعد حكم استمر 30 عاما.

كثير من الأحداث عبر الزمن حوتها ذاكرة "ماسبيرو"، أرشيف مرئي لتاريخ مصر المعاصر، على مدار عقود أنتج مزيجا مركبا من الحالة السياسية، والأوضاع الإنسانية، بين قسوة السياسة، وشغف الدراما، وهدوء الوعظ الديني، ولحظات أخرى أكثر من أن يحصيها أحد، لكن في الوقت ذاته كان ماسبيرو الصوت الدائم لأنظمة عديدة حكمت مصر.

وفي 25 مايو/ آيار 2019، وقعت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المالكة لمجموعة إعلام المصريين، ومجموعة دي ميديا الإعلامية، التابعة لجهاز المخابرات العامة، بروتوكولا جديدا مع الهيئة الوطنية للإعلام، تستحوذ بموجبه على المحتوى، سواء ما تم إنتاجه سابقا أو حاليا من التلفزيون المصري، ويمتلك حقوقه الرقمية.

ويقضي البروتوكول بإتاحة ذلك المحتوى على المنصة الرقمية الجديدة Watch iT المملوكة للاستخبارات المصرية حصريا، والتي أطلقتها الشركة المتحدة للخدمات الرقمية لتقديم المحتوى في صورة متطورة، وحسب طرق العرض الحديثة للمحتوى الإعلامي بأنواعه، لتصل السطوة الأمنية أخيرا إلى كنوز لا حصر لها من تاريخ الأمة المدون مرئيا في ذاكرة "ماسبيرو".

صفقة مريبة

تحت مسمى بروتوكول وقعت الهيئة الوطنية للإعلام اتفاقية مع الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، يُتاح بموجبها أرشيف ماسبيرو الدرامي والتليفزيوني بشكل حصري على تطبيق "Watch iT" الذي أطلقته الشركة التابعة لجهاز المخابرات مؤخرا، بغرض عرض المسلسلات الرمضانية التي أنتجتها شركة "سينرجي".

والمتحدة للخدمات الإعلامية يترأسها تامر مرسي، تمتلك تحت مظلتها مجموعة "إعلام المصريين" مالكة قنوات on والحياة، وصحف ومواقع اليوم السابع وصوت الأمة وعين، وكذلك إدارة شبكة راديو النيل، وعدة شركات مثل "برزنتيشن" و"سينرجي"، وإيجل كابيتال، التابعة لصندوق استثماري تملكه المخابرات العامة، إضافة إلى مجموعة المستقبل المالكة لقنوات cbc، ومجموعة "دي ميديا" المالكة لقنوات dmc، والناس، وصحف "الوطن"، و"الدستور"، وموقع "مبتدا"، وراديو "9090".

جاء البروتوكول الجديد استكمالا لما تقوم به إدارة منصة Watch iT، بالحصول حصريا على حقوق محتوى مكتبة التلفزيون المصري، الذي يمتلك الكثير من المحتوى التاريخي المميز من أعمال درامية وإذاعية نادرة، غير متاحة في غيرها من المنصات.

الأمر أثار حالة من الجدل، خصوصا في أوساط صناع الإعلام والدراما، ومنهم الشاعر المصري والسيناريست أيمن بهجت قمر، نجل المؤلف الراحل بهجت قمر، الذي أعلن أنه سيتخذ الإجراءات القانونية كافة تجاه الحقوق الرقمية الحصرية لأعمال والده.

 

"إعلام المصريين"

برز هذا الاسم بقوة على ساحة الإنتاج في فبراير/ شباط 2018، عندما أعلنت داليا خورشيد، رئيس مجلس إدارة شركة "إيجل كابيتال"، المالكة لمجموعة "إعلام المصريين" التابعة لجهاز الاستخبارات، قبول استقالة المهندس أسامة الشيخ من رئاسة مجلس إدارة المجموعة، وتعيين تامر مرسي، رئيس مجلس الإدارة والعضو المنتدب، خلفا له.

ومرسي هو أحد أبرز منتجي الدراما التلفزيونية، في السنوات الأخيرة، وصاحب شركة "سينرجي للإنتاج الفني" التي هيمنت على سوق الدراما بشكل كامل، واستطاع من خلالها أن يقدم العديد من المسلسلات منذ العام 2007، كما أنتج عدة أعمال للفنان عادل إمام منها مسلسل "فرقة ناجي عطا الله"، كما أنتج برنامج "YES, I’M FAMOUS" الذي ظهر به العديد من النجوم العالميين على رأسهم لاعب كرة القدم العالمي ليونيل ميسي.

لكن جاء السباق الرمضاني خلال العام 2019، ليشهد انخفاض عدد الأعمال الدرامية إلى 24 عملا فقط، 15 منها من إنتاج "سينرجي" المملوكة لـ "تامر مرسي"، بينما كان يبلغ عددها 40 عملا سنويا سابقا.

شملت قائمة سينرجي لهذا العام مسلسلات: "لمس أكتاف" لياسر جلال، "بدل الحدوتة 3" لدنيا سمير غانم، "بركة" لعمرو سعد، "حكايتي" لياسمين صبري، "علامة استفهام" لمحمد رجب، "طلقة حظ" لمصطفى خاطر، "كلبش 3" لأمير كرارة، "قمر هادي" لهاني سلامة، "أبو جبل" لمصطفى شعبان، "زلزال" لمحمد رمضان، "الواد سيد الشحات" لأحمد فهمي، "ابن أصول" لحمادة هلال، "البرنسيسة بيسة" لمي عز الدين، "لآخر نفس" لياسمين عبد العزيز، و"هوجان" للفنان محمد إمام.

صناعة الدراما

أثار غياب شركات الإنتاج المعروفة مثل "العدل جروب" و"بي لينك" عن خريطة الدراما الرمضانية للعام الثاني على التوالي مزيداً من التساؤلات حول مصير صناعة الدراما في مصر في الفترة المقبلة، خاصة بعد توقف إنتاج 4 أعمال كبيرة على الأقل هذا العام الرمضاني من بينها أعمال لفنانين كبار مثل يسرا وعادل إمام اللذان غابا عن الشاشة لأول مرة منذ سنوات.

وفي 8 أبريل/ نيسان 2019 أعلنت "الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية" الاستحواذ على مجموعة "دي ميديا" الإعلامية المالكة لقنوات "دي إم سي" وتعيين تامر مرسي رئيسا لمجلس الإدارة، والشركة المتحدة هي المالكة لمجموعة "إعلام المصريين"، مالكة قنوات "أون" و"الحياة" وصاحبة الحصة الحاكمة في قنوات "سي بي سي".

وقتها أعلن مرسي أنه بدأ العمل على إعادة هيكلة القنوات الفضائية في المجموعة من أجل النهوض بالرسالة الإعلامية ورسم مستقبل أفضل للإعلام، وبدء الخطوات التنفيذية لهيكلة القنوات الفضائية التابعة لشركات "إعلام المصريين" و"دي ميديا".

هذا الوضع انتقده بعض الإعلاميين وصناع الدراما المصرية، منهم المخرجة كاملة أبو ذكري، التي صرحت في منشور عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، من أن تقليص الإنتاج سيؤثر على دخل أكثر من مليوني شخص يعملون في صناعة الدراما والمسلسلات وتساءلت "حد يفهمنا ليه حتقطعوا رزق 2 مليون مواطن بيشتغلوا ويدفعوا ضرائب وعايشين من المهنة دي"!

الصفقة الأخيرة

في منتصف عام 2017 في إطار خطتها الرامية إلى السيطرة على المنافذ الإعلامية قامت شركة "فالكون غروب" التابعة لجهاز الاستخبارات بشراء مجموعة تلفزيون قنوات "الحياة" بقيمة إجمالية بلغت مليارا و400 مليون جنيها مصريا، وترأس المجموعة التلفزيونية العقيد محمد سمير المتحدث السابق باسم للجيش المصري.

وقبل أن ينتهي العام 2017 أعلنت شركة "إيغل كابيتال للاستثمارات ش.م.م" التي تمتلكها داليا خورشيد وزيرة الاستثمار السابقة، شراء حصة رجل الأعمال المصري أحمد أبو هشيمة في شركة "إعلام المصريين للتدريب والاستثمارات الإعلامية ش.م.م"، وهي الكيان المالك لشبكة قنوات "أون تي في"، وغيرها من الشركات والمؤسسات الإعلامية الفعالة بشكل كبير في مجالات الإعلام المصري.

الصفقة الأخيرة كانت بمثابة إعلان عن تغيير كبير وتام في خارطة الإعلام المصري، فالشركة التي تمتلكها الوزيرة السابقة استحوذت على منصات إعلامية بالغة الأهمية، فبالإضافة إلى مجموعة قنوات "أون.تي.في" ، تملكت الشركة تلك المواقع الإلكترونية بداية من موقع اليوم السابع إلى موقع انفراد، ودوت مصر، وصوت الأمة وعين المشاهير.

وفي مجال الصحافة المطبوعة ضمت صحف اليوم السابع، وصوت الأمة، وعين، بالإضافة إلى مجلتي ( إيجيبت توداي، وبيزنس توداي).

توغلت الشركة "المخابراتية" واستحوذت على عدة شركات أخرى لها ثقلها بالسوق مثل "بريزنتيشن سبورت"، كبرى شركات التسويق الرياضى والدعاية والإعلان بمصر والمنطقة، وشركة مصر للسينما، وشركة "سينرجي" للإنتاج، و"سينرجي" للإعلان، وشركة "أي فلاي" التي أبهرت الجميع خلال الفترة الماضية من خلال التصوير الجوي سواء الأحداث العامة أو الرياضية.

وسائل إعلام الحرس القديم ظلت في يد كبار رجال الأعمال المحسوبين على النظام في مصر، فمحمد الأمين يمتلك قنوات "سي بي سي" بالإضافة إلى مجموعة بانوراما التي تضم 4 قنوات، ويمتلك جريدة الوطن الخاصة.

بينما يمتلك رجل الأعمال المقرب من السلطة محمد أبو العينين قناة صدى البلد، وتبقى قناة المحور مملوكة لحسن راتب وهو من القليلين الذين يمتلكون استثمارات داخل سيناء، بينما تقع قنوات "النهار" بحوزة رجل الأعمال علاء الكحكي.

قيود خانقة

في 3 أبريل/ نيسان 2019، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية تقريرا لها بعنوان " قبضة السيسي الحديدية تصل إلى التليفزيون"، التقرير ذكر أن مسلسلات رمضان ذات الخصوصية الهائلة في مصر والشرق الأوسط تواجه قيودا خانقة.

وأورد التقرير أن المخرجين والممثلين يخضعون لإملاءات نصية تلفزيونية معينة وتخفض أجورهم، بينما تولت شركة إنتاج مرتبطة بالجيش مسؤولية عدد من أكبر المسلسلات، في إشارة إلى شركة سينرجي.

وأضاف تقرير الصحيفة الأمريكية أن المخرجين تم إبلاغهم بضرورة أن تتبع مسلسلاتهم الأفكار التي جرى إقرارها مثل الإشادة بالجيش والشرطة، أو تشويه سمعة جماعة الإخوان المسلمين، ومن لا يلتزم بالقواعد لن يظهر على الهواء.

وكشفت نيويورك تايمز أن "الحملة ضد المسلسلات التليفزيونية هي الجانب الثقافي للنسخة الاستبدادية بعيدة المدى والمتسلطة التي ترسخت في مصر في عهد السيسي، حيث وصلت إلى مستويات جديدة حتى بالنسبة لبلد يحكمه رجال أقوياء يحظون بدعم الجيش منذ عقود".

سلاح فتاك

وفي 5 أغسطس/ آب 2015، وقف رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي في كلمة له خلال حفل تدشين محور تنمية قناة السويس ليقول: "الزعيم الراحل جمال عبد الناصر كان محظوظا، لأنه كان يتكلم والإعلام كان معاه".

وفي 24 فبراير/ شباط 2016، في خضم مؤتمر إطلاق إستراتيجية مصر للتنمية المستدامة "رؤية مصر 2030"، قال السيسي منفعلا: "أنا عارف مصر وعلاجها، لو سمحتوا متسمعوش كلام حد غيري، أنا لا بكدب ولا ليا مصلحة غيرها، أنا فاهم أنا بقول إيه"، في إشارة منه إلى أصوات إعلامية مخالفة لسياسته.

ومن مفردات غضب السيسي، وتململه الدائم من الآلة الإعلامية برمتها، قطع خطوات واسعة في تحجيمها، وتجلى ذلك في 11 من أبريل/ نيسان 2017، عندما أصدر قرارا، بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، برئاسة نقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد أحد أبرز مؤيدي النظام، بالإضافة إلى عضوية 12 آخرين.

وجاء المجلس بمثابة فزاعة السيسي التي يخوف بها كل من يخالفه الرأي، ويحكم من خلالها قبضته على النوافذ الإعلامية برمتها، الحكومي منها والخاص.

توجس السيسي كان نابعا من إدراكه أن بوتقة الإعلام ساهمت في إسقاط مبارك، واندلاع ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، وإطاحة الجيش بالرئيس محمد مرسي عبر انقلاب عسكري تم التمهيد له شعبيا، وفي تقديم السيسي نفسه في صورة المخلص والقائد الفذ.

الجنرال يخشى من أن يضرب بنفس السلاح الذي استخدمه من قبل، وهو ما جعله يتخذ تلك الإجراءات القابلة للتطور والتوسع، لتصل بصناعة الإعلام إلى حالة متردية فيما يخص قواعد العمل، والحقوق والحريات الأساسية.