لا يحترم التاريخ والقانون.. كيف تسحق جرافات السيسي آثار مصر وتراثها؟

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

منذ نحو 40 سنة، نشرت الجريدة الرسمية المصرية، قانون حماية الآثار باعتبارها "مظهرا من مظاهر الحضارات المختلفة التي قامت على أرض مصر"، قبل أن ينسف رئيس النظام عبدالفتاح السيسي كل ذلك.

ونصت المادة الأولى من القانون المنشور في 11 أغسطس/ آب 1983، على أنه "يعتبر أثرا، كل عقار أو منقول أنتجته الحضارات المختلفة، أو أحدثته الفنون والعلوم والآداب والأديان من عصر ما قبل التاريخ، وخلال العصور التاريخية المتعاقبة، حتى ما قبل 100 عام، متى كانت له قيمة أو أهمية أثرية أو تاريخية".

فبعيدا عن العاصمة المصرية القاهرة، بحوالي 670 كيلو مترا، حيث الصعيد، وتحديدا مدينة "الأقصر" التاريخية، عاصمة مصر الفرعونية، المدينة المقامة على بحر من الآثار والحضارة، لم تنج من أيادي عبث النظام المصري الذي أثار ضجة بإزالة أحد الآثار البارزة في المدينة، وهو قصر أندراوس باشا.

يطل هذا القصر على ساحل نهر النيل، وهو من الأماكن السياحية المميزة، التي يقصدها الوافدون من كل مكان. 

هدم معول الحكومة قصر أندراوس بالأقصر، فتح ملف ضرورة حماية المباني التراثية إلى الواجهة، وأعاد سوابق محو أماكن حضارية بالغة الأهمية في التاريخ المصري، مثل مقابر صحراء المماليك وغيرها، وهي قضية في الأساس تمس الأمن القومي للبلاد، فضلا عن الآثار الثقافية والاقتصادية السلبية من تلك الأحداث. 

الأيادي العابثة 

ضجة كبيرة أثيرت في مصر 23 أغسطس/ آب 2021، عندما فوجئ أهالي مدينة الأقصر، بالجرافات الحكومية، وهي تضرب قصر "أندراوس باشا" التاريخي.

يعود تأسيس القصر إلى عام 1897، وكان شاهدا على أحداث مهمة في تاريخ مصر ومحافظة الأقصر، ومن أبرز الشخصيات المهمة التي قطنت القصر، الزعيم سعد زغلول، خلال ثورة 1919، ضد الاحتلال البريطاني. 

كان صاحب القصر، توفيق باشا أندراوس، من الداعمين للحركة الوطنية، وتظهر مكانته من خلال حرص رئيس حكومة الوفد (آنذاك) الزعيم مصطفى النحاس على تقديم واجب العزاء في وفاته فيه، وقد سافر إلى الأقصر لحضور ذكرى الأربعين، عام 1935، وكان في استقباله داخل القصر عدد من كبار أعيان جنوب الصعيد. 

وقد تم تداول صور لعمال ومعدات في محيط قصر توفيق باشا أندراوس، الواقع في حرم معبد الأقصر، وكان الظن في بداية الأمر أنها لترميم القصر المترهل بسبب الإهمال، ولم يتخيل أن الأجهزة التنفيذية للسلطة قررت هدم القصر، وتسويته بالأرض، ومحوه من التاريخ. 

دعا الحدث مونيكا حنا، القائم بأعمال عميد كلية الآثار بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، للتدوين عبر صفحتها بـ "تويتر" معبرة عن دهشتها من قرار هدم القصر.

وقالت: إن "قصر أندراوس كان شاهدا على أحداث تاريخية مهمة، وكان المقر الذي اتخذه سعد زغلول، حتى إنه سماه بيت الأمة في الأقصر"، متسائلة كيف يهدم صرح بهذه القيمة؟!

وأضافت: "جرائم هدم التراث لن تسقط بالتقادم". 

القصر ده كان سعد زغلول نزل فيه لما راح الأقصر، ومن جوا كان في فريسكو تحفة للسقف وكان معمولا بالطوب الني، تحفة معمارية، شهدت تاريخ الأقصر الحديث، مفروض يتحول لمتحف لتاريخ الأقصر، مصر مش معابد بس، واللي بيمحي تاريخه الحديث بكره هيشيل الباقي! https://t.co/G9js8b71ET

المثير أن مواقع التواصل الاجتماعي نشرت وثائق بالغة الأهمية، عن رفض لجنة وزارة الثقافة عام 2009 بالإجماع على هدم قصر توفيق باشا أندراوس، لما يمثله من قيمة تاريخية ومعمارية متميزة. 

 

سوابق مجحفة

منهجية هدم الآثار والعبث بالمعالم الحضارية تعد آلية واضحة للنظام القائم، وهو ما ظهر بوضوح في 21 يوليو/ تموز 2020.

وقتها شهدت مصر حالة من الذهول والصدمة تلاها جدل عبر وسائل الإعلام، ومواقع التواصل الاجتماعي بعد انتشار صور لعمليات هدم المقابر التاريخية بالجرافات في منطقة صحراء المماليك، أحد أهم المعالم الأثرية في القاهرة.

وهي من الشواهد على الفن المعماري الإسلامي الرفيع لتلك الحقبة، ويعود عمرها إلى أكثر من 500 عام. 

كما تضم أكثر من 30 أثرا مسجلا، ودفن بها السلطان قايتباي وبرقوق، وغيرهم من سلاطين المماليك، بالإضافة إلى قبر شيخ الإسلام الإمام العز بن عبد السلام، وغيره من عظماء رموز العالم الإسلامي وكبار مؤرخيه وقادته في تلك الحقبة من تاريخ مصر.

ومن أبرز ما نقل في عملية الهدم المحزنة، صور لمقبرة سلطان العلماء العز بن عبد السلام، فالمقبرة تعرضت للهدم ضمن أعمال إنشاء الطريق الجديد، والتي أدت إلى هدم عدة مقابر تاريخية أخرى.

وفي 13 مايو/أيار 2018، جرى الإعلان عن قرار تفكيك ونقل 55 منبرا أثريا من مساجد القاهرة التاريخية، جلها يعود إلى العصر المملوكي في القاهرة الإسلامية تمهيدا لعرضها بالمتاحف القومية، بحجة أنها معرضة للسرقة.

إلى الآن لم يعرف مصير هذه المنابر العريقة والعتيقة، وأثار هذا الإعلان غضب واستياء الأثريين والفنانين التشكيليين المصريين، معتبرين أن من شأنه تدمير الآثار الإسلامية الفريدة بسبب التفكيك والنقل والإهمال.

وفي 22 مايو/أيار 2021، قدم كبير مفتشي الآثار بمنطقة قنا للآثار الإسلامية والقبطية "محمد فتحي الصاوي"، دعوى قضائية ضد خالد العناني وزير السياحة والآثار، ورئيس المجلس الأعلى للآثار، وذلك بسبب شطب "الحمام العثماني" بمنطقة القيسارية بمحافظة قنا، تمهيدا لهدمه. 

والحمام تم تدشينه في العصر العثماني في مصر ويشمل الملامح التخطيطية الأساسية للحمامات في هذا العصر، ويتميز بتخطيط المنطقة الداخلية التي تضم حجرات الاستحمام والمغطس، وهو أثر فريد من نوعه، ولا يوجد في صعيد مصر إلا 3 حمامات على شاكلته. 

كارثة قومية 

الباحث التاريخي وعضو جمعية الآثار بالإسكندرية خالد خيري، تحدث لـ"الاستقلال" عن هدم قصر "توفيق باشا أندراوس" قائلا: "ما حدث جريمة متكاملة الأركان والمعالم في حق مصر، فالقصر معلم أثري من جهة، وواجهة سياحية من ناحية أخرى، بالإضافة إلى كونه شهد العديد من الأحداث التاريخية، حتى أصبح من رموز المدينة".

وبتعريف المعلم الأثري بأنه ليس كل مبنى مضى عليه زمن طويل أو تجاوز عمره 100 عام فقط، فهناك مواصفات محددة خاصة بالشكل والهيئة والقيمة المادية والحضارية.

فالقصر أو المؤسسة، تختلف عن المنزل أو المحل التجاري، ويختلف عنهما الأثر الديني من مساجد وكنائس ومعابد، كما يقول خيري.

وأضاف: "هناك مكان تكمن قيمته في الأحداث التي شهدها، فمثلا السد العالي في أسوان، كونه مشروعا قوميا لا يخفى أنه من الآثار لارتباطه بأحداث قومية غاية في الأهمية وأن الدولة أممت قناة السويس لتأسيسه، وهو ما أدى إلى العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

وكذلك المنصة في منطقة (مدينة نصر) التي اغتيل عندها الرئيس السابق أنور السادات، هي من الآثار لارتباطها بحدث تاريخي.

وأردف: "قبر الرئيس جمال عبد الناصر وبيته في حدائق القبة، كلها أماكن لم تتجاوز 100 عام، لكنها رمزية ولا يمكن طيها، ومحوها من على وجه الأرض"، بحسب تعبيره.

واستطرد الباحث المصري: "لذلك فإن الأثر لا يمكن تقديره في البعد الزمني والقيمة المادية فقط، بل هي مسألة أمن قومي تتوارثها الأجيال".

فهناك دول وكيانات عمرها لا يتجاوز نصف قرن، وتحاول بناء تاريخ من لا شيء، بينما مصر المثقلة بحضارة آلاف السنوات، يتم اقتطاع أجزاء من تاريخها العظيم ومحوه بسهولة، كما قال. 

وذكر أن "جمعيات الآثار المصرية، بالتضامن مع علماء، وأساتذة جامعيين في جامعات مرموقة مثل القاهرة وعين شمس، بصدد إعداد مذكرات وإرسالها لليونيسكو (لجنة التراث العالمي في منظمة الأمم المتحدة) للحد دون تدمير مزيد من الآثار والمواقع الهامة في القطر المصري". 

المحامي المصري كريم يعقوب، وهو مدير مكتب استشارات قانونية بالقاهرة، شدد أنه "ما حدث في قصر الأقصر، والحمام العثماني، ومجموعة من الأراضي التاريخية الأخرى، من هدم وإزالة، جريمة، يجب أن تخضع على إثرها الأجهزة التنفيذية للمساءلة القانونية، خاصة وزير السياحة والآثار الدكتور خالد العناني".

وأضاف أن الآثار جزء من مسألة الأمن القومي، والاعتداء عليها حتى لو من قبل أجهزة تنفيذية يدخل تحت طائلة القانون، ويمكن أن يدان فيها كل المسؤولين، من رئيس الجمهورية إلى مفتش الآثار المسؤول عن المنطقة المنوط بها الأثر القائم المهدد أو المزال. 

وأوضح أن مسألة التلاعب بالقانون خطيرة، فعندما يريد الجهاز الإداري والتنفيذي للدولة إزالة أثر، يدخل من ثغرة تغيير تعريفه، أو استثنائه، وهذا غير مقبول ولا يعتد به، لأن هناك مؤسسات دينية ومباني، ينطبق عليها شكلا وموضوعا وقيمة وصف أثر، وهي في عداد الآثار، وهدمها جريمة ضد القانون والحضارة المصرية.

وتابع: "تخيل أن تأتي حكومة تصف الأهرامات أو الجامع الأزهر أو منطقة الغورية التاريخية بأنها غير أثرية، هل يقبل هذا؟! وكذلك لا يمكن قبول القاعدة على الآثار الأصغر أو الأقل عمرا، لأن هذا ينطبق على مئات الآلاف من القطع الأثرية والمباني والمؤسسات التاريخية".