تقطنه عشائر سنية.. لماذا يسعى العراق لتهجير أهالي حزام بغداد؟

على قدم وساق، تحاول الحكومات العراقية في مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي عام 2003، إحداث تغيير ديمغرافي في مناطق حزام العاصمة بغداد التي تقطنها عشائر سنية منذ مئات السنين، وذلك عبر أساليب متعددة تسعى من خلالها إلى تثبيت واقع جديد يخلق موطئ قدم للمكون الشيعي.
يبدي العديد من الكتاب والناشطين العراقيين مخاوفهم من استمرار العمل على التغيير الديمغرافي، والذي يهدف في نهاية المطاف إلى إحداث تغيير في هوية بغداد التاريخية، برعاية وإرادة سياسية من قوى "الإطار التنسيقي" الشيعي الحليف لإيران.
إهمال متعمّد
وعمدت السلطات العراقية المتعاقبة على إعطاء مساحات شاسعة من المناطق الزراعية في حزام بغداد إلى الاستثمار وبناء المجمعات السكنية، وتحديدا في منطقة أبي غريب غرب العاصمة، كان آخرها ما أعلن في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023 من بناء مدينة الجواهري السكنية.
وأكد رئيس الحكومة العراقية، محمد شياع السوداني خلال عقد مراسيم البناء في 29 ديسمبر 2023 أن مدينة الجواهري "تعد الأولى من نوعها بهذا الحجم"، مبينا أن "جزءا مهما منها سيعتمد على الطاقة البديلة"، وأن "مشكلة السكن مزمنة في الدولة العراقية وتتزايد بشكل كبير بسبب نسبة النمو".
وأوضح السوداني أن "الحكومة شخصت الخلل في أزمة السكن، وأعدت خططا مدروسة لمعالجتها، انطوت على تشييد مدن سكنية متكاملة، وليست مجمعات، واختيار مواقع لها على أطراف بغداد والمحافظات، بعيدا عن مناطق الاكتظاظ".
والعراق بحاجة إلى مثل هذه المجمعات السكنية لإنهاء أزمة السكن في البلاد، كما يرى الباحث في الشأن العراقي، إياد ثابت.
لكنه يعتقد أن المضمون مختلف تماما لهذه المشاريع، كونها تعطى إلى نافذين في البلاد، وتكون ذات أثمان باهظة، لا يمتلك المواطن البسيط القدرة على شرائها.
وأوضح ثابت لـ"الاستقلال" أن "منطقة أبي غريب تشهد بناء نحو 10 مجمعات سكنية، لا تقل عن أربعة منها تابعة إلى مليشيا عصائب أهل الحق بقيادة قيس الخزعلي، ولاسيما القريبة منها من كلية الزراعة.
إذ تباع الوحدات السكنية فيها بأثمان لا يمكن للطبقتين الفقيرة والمتوسطة اقتناءها، رغم أن قطع الأراضي التي تشيّد عليها تمنح للمستثمرين بأسعار أقرب إلى المجّانية، وفق قوله.
ولفت الباحث إلى أن "الحكومات إذا كانت صادقة في مساعيها لإنهاء أزمة السكن، فعليها أن تعطي الأولولية لبناء المساكن في قضاء أبي غريب، لا أن تؤخذ منهم الأراضي وتذهب المدن السكنية إلى غيرهم، أو يؤتى بآخرين من خارج بغداد لإسكانهم فيها".
وفي هذا الصدد، نشر موقع قناة "الرافدين" العراقية تقريرا في 4 أغسطس/آب 2023، أكد فيه أن انعدام الخدمات في منطقة أبي غريب وحرمان المواطنين فيها يعود إلى عملية سياسية متعمدة تقف وراءها جهات حزبية ومليشياوية تهدف إلى تغيير التركيبة السكانية للقضاء والاستحواذ على الأراضي والمنازل.
وأكد التقرير أن الأهالي في أبي غريب يعانون مثل كل مناطق حزام بغداد (اللطيفية، الرضوانية، الطارمية، المدائن، صدر اليوسفية) من انعدام الخدمات وانقطاع الماء والكهرباء المستمر، في عملية متعمدة ومستمرة من حكومة الإطار التنسيقي برئاسة محمد شياع السوداني والحكومات السابقة.
وأشار إلى أن أراضي مدينة أبي غريب أصبحت جرداء بعد أن كانت ترفد السوق العراقية بمختلف المحاصيل الزراعية، وذلك نتيجة الإهمال المتعمد تحت ذريعة عدم وجود تخصيصات أو تأخرها فضلا عن تأجيل المشاريع الخدمية فيها، على الرغم من وجود المخصصات المالية بحسب مصادر محلية.
تغيير ممنهج
وفي النقطة ذاتها، قال الإعلامي العراقي، عثمان المختار، خلال تدوينة نشرها على منصة "إكس" (تويتر سابقا) في 28 ديسمبر 2023، إن "ما يحصل بمناطق حزام بغداد تحت غطاء الاستثمار والمدن السكنية، بات أداة رئيسة في جرائم التغيير الديمغرافي ببغداد".
وأوضح المختار أن هذا التغيير الديمغرافي "يتواصل حكوميا منذ عام 2016، بعدما أنجزت المليشيات منه الشيء الكثير"، مقدما معلومات تتحدث عن سلسلة إجراءات اتخذتها حتى عام 2021.
وشدد على أن الهدف من هذه العمليات هو هوية بغداد التاريخية قبل كل شيء، وما يحصل من تشريد آلاف العائلات وتجريف بساتينهم ومزارعهم بعد فسخ عقودهم الزراعية منها، يجب أن يجري فضحه وفضح كل من يشارك به ومن يسكت عنه"، وفق تعبيره.
وسبق أن كتب الإعلامي العراقي، عمر الجنابي، تدوينة على منصة "إكس" في 4 سبتمبر/ أيلول 2021، قال فيها إن "أبناء عشيرة الجنابيين (السنية) يشعرون بظلم وحيف كبيرين منذ سنوات خصوصا في بغداد وجنوبها وبابل، وتجري عملية تغيير ديموغرافي لمناطقهم وتعرض الآلاف من أبناء العشيرة للقتل والإخفاء القسري طيلة السنوات السابقة".
وأشار الجنابي إلى أن "محور إيران يسعى إلى إفراغ مناطق شمال بابل وجنوب بغداد من الجنابيين كما في جرف الصخر".
وجرى تهجير سكان جرف الصخر الذين يقدر عددهم بـ 140 ألف نسمة منذ استعادتها من "تنظيم الدولة" عام 2014، وذلك بقرار من المليشيات الشيعية المسلحة التابعة لإيران، بعدما فرضت سيطرتها على البلدة وحولتها إلى ثكنة عسكرية.
ومثل ذلك، كان السياسي العراقي، حسين المؤيد، قد كتب على منصة "إكس"، في 24 أبريل/نيسان 2021، قائلا: إن "ما يجري في حزام بغداد من تغيير ديمغرافي، نموذج صارخ على مخطط استهداف الوجود السني العربي في العراق".
كما أنه "محاولة لحذف المكوّن السني تدريجيا من المعادلة العراقية، تمهيدا لإحكام الهيمنة الإيرانية على العراق، وطمس الانتماء العراقي والعربي لشيعة العراق في المحصلة النهائية".
طوق بغداد
ويعود وجود العشائر السنية حول مدينة بغداد إلى القرن السادس عشر، وخصوصا عندما تحوّل العراق إلى ساحة صراع بين الدولتين الصفوية والعثمانية، والذي انتهى بسيطرة الأخيرة عليها واستعادتها من الصفويين على يد السلطان مراد الرابع عام 1638.
وفي عام 1869، عيّنت الدولة العثمانية مدحت باشا محافظًا على بغداد، وقد شرع على الفور في إنشاء وكالات حكومية في المدن لتوطين القبائل، إذ غيّر توازن القوى بين القبائل الحضرية، والتي كانت منذ القرن الثالث عشر لصالحها إلى حد كبير.
كان أهم عنصر في خطة مدحت لمد السلطة العثمانية إلى الريف هو قانون الأراضي في طابو لعام 1858 (سمي على اسم الأحرف الأولى من المكتب الحكومي الذي أصدره).
استبدل قانون الإصلاح الزراعي الجديد، النظامَ الإقطاعي لحيازات الأراضي والمزارع الضريبية، بحقوق ملكية مصدق عليها قانونًا، وقد جرى تصميمه لحث شيوخ القبائل على الاستقرار ومنحهم حصة في النظام السياسي القائم.
وبناء على ذلك، تشكُّل طوق من العشائر ذات الولاء للدولة العثمانية سنّية المذهب، شمل عشائر الجنابيين والعبيد وزوبع والمشاهدة والغرير، وأصبح يحيط بغداد من جوانبها الأربعة.
ومع ضعف الدولة العثمانية لاحقًا ثم سقوطها على يد البريطانيين عام 1918، أصبح لهذه القبائل قوة كبيرة ودور سياسي في تشكل الحكومة فيما بعد.
وكان امتداد بعض هذه القبائل يمتد لعمق المحافظات الأخرى مثل صلاح الدين شمال بغداد والأنبار غرب العراق.
كما أن مجتمعها الزراعي المحافظ، كوّن منها كتلة اجتماعية صلبة مكّنها من أداء أدوار كبيرة بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، والتي اندلعت فيها مقاومة عنيفة ضد وجودها في المناطق ذات الطابع السنّي ومنها بغداد.
وشكلت مناطق حزام بغداد بطبيعتها الزراعية نقاط انطلاق لعمليات المقاومة، برزت بشكل كبير خلال معركة الفلوجة الأولى في محافظة الأنبار غرب بغداد عام 2004.
حينها وجد الجيش الأميركي نفسه يقاتل مدينة يصل عمقها الإستراتيجي حتى جنوب بغداد عند بلدة اللطيفية.
وعرفت هذه المناطق بمقاومتها الشديدة للاحتلال الأميركي، إذ اشتهرت بكونها "مثلث الموت"، نتيجة الهجمات الضارية التي كانت تتعرض لها القوات الأميركية عند المرور منها.
وفي هذه النقطة، يرى الكاتب العراقي، عمار الحديثي، أن "أولى نوايا التغيير الديموغرافي بدأت بالظهور مع منطقة جرف الصخر جنوب غربي العراق، والتي رغم استعادتها من تنظيم الدولة عام 2014، لم يستطع أهلها العودة إليها"، وذلك لسيطرة المليشيات عليها.
وأوضح الكاتب خلال مقال نشره موقع "نون بوست" في 13 أبريل/نيسان 2021، أن "الأمر تكرر مع منطقة أخرى من حزام بغداد الغربي في الرضوانية، بعد قرار حكومي بتحويل آلاف الهكتارات الزراعية إلى أراضٍ صناعية وفتحها للاستثمار، ما يفتح الباب أمام تهجير مئات العوائل التي تسكنها منذ قرون".
وتابع: "كما شكلت هجمات تنظيم الدولة ذريعة لنداءات تفريغ قضاء الطارمية من سكانه (يبلغ عددهم 200 إلى 250 ألف نسمة)، ثم يعود الأمر من جديد إلى منطقة اللطيفية".
ولفت الحديثي إلى أن عملية التغيير الديموغرافي في مناطق حزام بغداد، ليست سوى باب لتنفيذ نفس السياسية بشكل أوسع في المحافظات الأخرى.