تقرير الحالة العربية: يوليو/ تموز 2021
المحتويات
المقدمة
المحور الأول: جائحة كورونا في الوطن العربي
-
العراق
-
الأردن
-
الإمارات
-
تونس
المحور الثاني: الحالة السياسية
-
مصر (مصير المفاوضات بعد الملء الثاني لسد النهضة – اللجوء إلى مجلس الأمن وتبعاته – البدائل والخيارات بعد خطوة مجلس الأمن)
-
لبنان (الحريري يعتذر عن تشكيل الحكومة - تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة.. والتحديات القائمة)
-
تونس (الإجراءات الاستثنائية للرئيس قيس سعيد، ودخول الأزمة التونسية في نفق مظلم)
المحور الثالث: الاقتصاد العربي
-
تونس (الملامح العامة للاقتصاد التونسي - تراجع المؤشرات الاقتصادية - مصير مجهول للمفاوضات مع صندوق النقد - علام يعول الانقلاب في إدارة الاقتصاد - مستقبل الاقتصاد في ظل الانقلاب)
المحور الرابع: الحالة الفكرية
-
الاستقلال الثقافي والحضاري للأمة
-
الإمام محمد عبده رائد الإصلاح
الخاتمة
مقدمة
شهدت عدة بلدان عربية أحداثا محورية في يوليو/ تموز 2021، ونبدأ بتونس، التي اتخذ رئيسها قيس سعيد بعض الإجراءات التي وصفت بأنها انقلاب على المسيرة الديمقراطية التونسية.
نحاول في المحور السياسي رصد القرارات وآثارها على الدولة التونسية، كما نناقش ردود الفعل المحلية والإقليمية والدولية حيال القرارات.
وفي المحور الاقتصادي نلقي الضوء على الاقتصاد التونسي بشكل عام، ونناقش الملامح العامة للاقتصاد التونسي، وتراجع المؤشرات الاقتصادية، والمصير المجهول للمفاوضات مع صندوق النقد.
كما نستعرض المصادر التي يعول عليها سعيد في إدارة الاقتصاد، ونستشرف مستقبله في ظل هذه القرارات.
كذلك، فإن إثيوبيا أتمت الملء الثاني لسد النهضة، رغم اعتراضات مصر والسودان، وفي هذا نناقش مصير المفاوضات بين الأطراف المعنية، ولجوء مصر إلى مجلس الأمن الدولي.
وعلى الساحة اللبنانية، كلف الرئيس ميشال عون، رئيس الوزراء الأسبق، نجيب ميقاتي، بتشكيل الحكومة، وذلك بعد اعتذار رئيس الوزراء المكلف، سعد الحريري.
أما على الجانب الفكري، نتناول سيرة الإمام محمد عبده، في ذكرى وفاته. كما نناقش مسألة الاستقلال الثقافي والحضاري للأمة، من منطلق الإيمان بثوابت أمتنا، ومقوماتها وعوامل رقيها ونهضتها.
وكالعادة، نرصد تطورات فيروس كورونا في بعض البلدان العربية.
المحور الأول: جائحة كورونا في الوطن العربي
بمرور نحو ما يزيد عن 19 شهرا منذ ظهور فيروس (COVID-19) المعروف باسم "كورونا"، ضربت الجائحة معظم دول العالم، وبلغ عدد الإصابات المكتشفة ما يقترب من 196 مليون حالة حول العالم منذ بداية الأزمة في ديسمبر/ كانون الأول 2019، حتى نهاية يوليو/ تموز 2021.
ولا شك أن السباق الذي يجري حاليا حول العالم هو سباق التلقيح، خاصة بعد تصاعد موجات ثالثة من الفيروس وسلالات جديدة في بلاد عديدة وإعادة صورة الخطر الذي ظهر مع بداية الجائحة.
تأتي الدول العربية في حالة متوسطة من حيث الأخطار وعدد الحالات مقارنة مع باقي دول العالم، إذ يعد العراق الدولة الأكثر من حيث عدد الإصابات في الوطن العربي في المرتبة 23 عالميا.
يليها الأردن في المرتبة 34، إلا أنه بلا شك تختلف كفاءة الدول في مواجهة الوباء والتعاطي مع المستجدات.
نرصد خلال يوليو/ تموز 2021، الدول العربية الأكثر إصابة بفيروس كورونا وهي العراق، والأردن، والإمارات، وتونس.
-
العراق
في فبراير/شباط 2021، أعلنت وزارة الصحة العراقية تفشي "سلالة جديدة" لكورونا في البلاد، وأكدت انتشارها بشكل كبير بين صفوف الأطفال والشباب، بعد أن كانت الإصابات منتشرة طيلة عام بين كبار السن فقط.
وانتشرت السلالة الجديدة بشكل بالغ حيث زادت الإصابات خلال شهرين ونصف أكثر من 600 ألف حالة جديدة.
ويحتل العراق المرتبة الأولى عربيا من حيث عدد الإصابات، تجاوز حاجز المليون ونصف مؤخرا، وشهد يوليو/ تموز، زيادة في أعداد الإصابات بما يزيد عن 250 ألف حالة جديدة.
إذ بلغ العدد الإجمالي مليون و590 ألفا و530 حالة جديدة، وهو ما يشير إلى زيادة الأوضاع سوءا مقارنة بيونيو/ حزيران 2021.
وفي حين تعتبر حالات الوفاة ضئيلة مقارنة بهذا العدد من الإصابات، إذ بلغت الوفيات 18 ألفا و484 حالة وفاة في يوليو/ تموز 2021، ما يعني أن عدد الوفيات زاد بما يقرب من 1300 حالة وفاة، عن يونيو/ حزيران 2021، ما يعني ارتفاعا كذلك في نسبة الوفاة.
ووفقا لآخر الإحصائيات تعد الحالات الفعالة التي تخضع للعلاج حاليا، ما يقارب 135 ألف حالة، وهي نسبة مرتفعة عن يونيو/ حزيران 2021، إذ كانت وصلت إلى 75 ألف حالة بنهاية الشهر، ورغم نسبة الزيادة في المتعافين.
وبلغ العدد الإجمالي للمتعافين ما يقارب مليون و437 ألف حالة، ما يمثل زيادة فقط في يوليو/ تموز 2021، ما يعادل 200 ألف حالة شفاء، إلا أن نسبة الزيادة في الإصابات لا زالت تشكل الخطر الأكبر.
وكانت السلطات الصحية العراقية أعلنت في يونيو/ حزيران 2021، دخول البلاد في موجة وبائية ثالثة، أكثر شدة وخطورة من الموجتين الأولى والثانية اللتين دخلتا البلاد سابقا.
وأعلنت وزارة الصحة العراقية، في 8 يوليو/ تموز 2021، تسجيل أكثر من تسعة آلاف إصابة بفيروس كورونا في حصيلة قياسية هي الأعلى منذ دخول الوباء للبلاد في مارس/ آذار 2020، محذرة من أن الوضع الوبائي خطير.
وفي بيان ثانٍ، شددت الصحة العراقية على أن الموجة الجديدة من الوباء ربما تكون أقسى من الموجات التي سبقتها.
وأشارت إلى أن عدد الإصابات أخذ "يتصاعد بشكل متسارع، لا سيما في ظل حالة الإهمال الحكومي في العراق، وحالة الإعراض عن تلقي اللقاحات.
ويقترب العراق من خطر انتشار الوباء مرة أخرى بشكل واسع بسبب الإعراض الكبير عن تلقي اللقاحات، وبسبب انتشار الإصابات بوتيرة مرتفعة وإهمال التدابير الوقائية، إذ أعربت وزارة الصحة أن عدد الملقحين بلغ ما يعادل 699 ألفا، من عدد سكان يبلغ 4 ملايين.
ويعاني العراق من نقص في التجهيزات الطبية لرعاية المصابين الذين يفضل عدد كبير منهم استعمال قناني أوكسجين في منازلهم بدل التوجه للمستشفيات المتداعية.
وحتى الآن، هناك نحو 4 بالمئة فقط من العراقيين ممن تلقوا اللقاح بجرعتيهِ، وفق أرقام موقع "Covidvax" المختص بتسجيل بيانات متلقي اللقاح في العالم.
وتتوقع أرقام الموقع وبياناته، استنادا إلى الوتيرة الحالية للتلقيح في البلاد، أن يصل العراق إلى نسبة 70 بالمئة من تلقيح سكانه في العام 2075، إذا استمرت نسب التلقيح اليومية على ماهي عليه الآن.
استمرار التعرض للإصابات لوقت طويل، وكثرة أعداد المصابين وعدم تلقي الأغلبية للقاح، ربما يؤدي بالعراق لأن تصبح بؤرة جديدة لانتشار الفيروس، مثلما تفاقمت الأوضاع مؤخرا في الهند بسبب الفطر الأسود الذي انتشر وأدى إلى زيادة هائلة في أعداد الوفيات هناك.
وهذا الأمر لا يخلو بلا شك من إلقاء المسؤولية على الحكومة العراقية، وخاصة بعد تكرار حالات الإهمال في القطاع الصحي، خلال الآونة الأخيرة، فبعد استقالة وزير الصحة العراقي على خلفية أحداث مستشفى الخطيب، التي راح ضحيتها 80 قتيلا، لم تتوقف حوادث الإهمال.
شهد العراق حادثا آخر أليما، إثر اندلاع حريق في جناح عزل فيروس كورونا في مستشفى الحسين بمدينة الناصرية العراقية.
الذي لقي أكثر من 90 شخصا مصرعهم فور حدوثه، ولا يعرف سبب الحريق في مستشفى الحسين بعد، لكن تقارير ذكرت أنه بدأ بعد انفجار خزان أكسجين.
ووفق مصادر للشرطة العراقية، فإن الحريق اندلع بسبب وصول شرارة مصدرها أسلاك كهربائية معطوبة إلى خزانات الأكسجين، ما تسبب في انفجارها. وهو ما يدل على جسامة الإهمال الذي انتشر في الجهاز الحكومي العراقي، وأفقد الشعب ثقته فيها.
ومن آثار هذا الحادث الأخير انطلاق، اشتباكات بين الشرطة ومتظاهرين في مكان الحادث، واشتعال النيران في مركبتين للشرطة، في وقت كان العراق أحوج فيه إلى تضافر الجهود للخروج من هذه الأزمة الوبائية.
-
الأردن
يحتل الأردن المرتبة الثانية عربيا من حيث عدد الإصابات بفيروس كورونا، إذ بلغ إجمالي الإصابات بنهاية يوليو/ تموز 2021، ما يعادل 768 ألفا و380 مصابا وفقا للإحصائيات الرسمية، ما يعني زيادة أعداد الإصابات خلال يوليو/ تموز 2021 بما يقرب من 18 ألف حالة جديدة، وهي نسبة قريبة جداً من مثيلتها في يونيو/ حزيران 2021.
وهذا يدل على أن انخفاض منحنى الإصابات يسير بشكل أكثر انتظاما في يوليو/ تموز 2021، إذ بلغ العدد الإجمالي للمتعافين 749 ألفا و25 شخصا، بينما بلغت أعداد الحالات المستقرة، 9 آلاف و357 حالة. فيما بلغت أعداد الوفيات بنهاية يوليو/ تموز 10 آلاف حالة.
يُذكر أن الأردن بدأ في 13 يناير/ كانون الثاني 2021، حملة التطعيم، ومنح "تراخيص طارئة" لخمسة لقاحات. هي: "سينوفارم" و"فايزر/بايوتيك" و"أسترازينيكا" و"جونسون آند جونسون" و"سبوتنيك-في".
وأعلنت الحكومة في الأردن، مطلع يونيو/ حزيران 2021، أنها ستتسلم الشحنة الأخيرة من الحصة الأولى من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا من مرفق "كوفاكس"، والتي تحوي على 146 ألفا و400 جرعة من لقاح "أسترازينيكا".
وأشار مكتب منظمة الصحة العالمية في الأردن، إلى أنه بوصول الشحنة الأخيرة من الحصة الأولى يكون الأردن استلم 436 ألفا و800 جرعة من لقاح أسترازينيكا عبر "كوفاكس" وبتمويل من الاتحاد الأوروبي من خلال الصندوق الاستئماني الإقليمي للاتحاد.
كما قدم الاتحاد الأوروبي ما مجموعه 8 ملايين يورو، لدعم شراء وزارة الصحة للقاحات كورونا من خلال المرفق "وبرنامج الصحة الأردني للاجئين السوريين والأردنيين الأكثر ضعفاً"، والذي تنفذه منظمة الصحة العالمية.
وسيرا على خطة تخفيف إجراءات الحظر، التي انتهجتها الحكومة أخيرا، اتخذت الحكومة الأردنية بداية يوليو/ تموز 2021، إجراءات لتخفيف القيود في التعامل مع جائحة كورونا. كان أبرزها تقليص ساعات حظر التجوال لتبدأ الساعة الواحدة من منتصف الليل.
هذه الخطوة الإيجابية في عودة الحياة لطبيعتها في الأردن جاءت في سياق إعلان الحكومة أيضا أنها ستلغي كل الإجراءات الاستثنائية التي فرضت للتعامل مع جائحة كورونا اعتبارا من بداية سبتمبر/ أيلول 2021، وفي مقدمتها عودة المدارس والجامعات للتعليم الوجاهي.
حالة السيطرة على الانتشار الوبائي لفيروس كورونا جاءت بعد أن مر الأردن بأشهر عصيبة سجلت في بعض الأيام أكثر من 10 آلاف إصابة، وكاد القطاع الطبي أن يواجه فشلا في منظومته الصحية.
بعدما غصت المستشفيات وغرف العزل بأكثر من طاقتها، وعانت المستشفيات من نقص الكوادر الطبية المتخصصة، وارتفعت نسب الوفيات يوميا.
لكن الوضع الحالي، بَدا مستقرا بصورة أكبر مما كانت عليه الأمور سابقا، في انخفاض أعداد الإصابات، وتلقي اللقاحات بصورة مستمرة، ومع انخفاض الاهتمام بالإجراءات الاحترازية حتى من قبل المواطنين أنفسهم.
وتُعد إجراءات تخفيف الحظر، ضمن الخطة التدريجية التي أعلنتها الحكومة الأردنية، في مايو/ أيار 2021، والتي تهدف إلى عودة الحياة إلى طبيعتها مطلع شهر سبتمبر/ أيلول 2021.
أوضح وزير الإعلام الأردني، صخر دودين، أن الظروف الوبائية الحالية أظهرت تحسنا وأتاحت للحكومة الإعلان عن خطة بإجراءات متدرجة لفتح القطاعات التي كانت مغلقة سعيا للوصول إلى صيف آمن.
وأشار إلى أن الخطّة التي وُضعت في مايو/ أيار 2021، تمتد عبر ثلاث مراحل، تبدأ الأولى في الأول من يونيو/ حزيران 2021، يتخلّلها إعادة الفتح التدريجي لبعض القطاعات والأنشطة، وإجراءات لتنظيم دخول القادمين من خارج الأردن.
فيما تبدأ الثانية مطلع يوليو/ تموز 2021، وتشمل تقليص ساعات الحظر الليلي، وإجراءات تحفز السياحة، وعودة عمل موظفي القطاع العام بنسبة 100 بالمئة.
أما المرحلة الثالثة فسوف تكون مطلع سبتمبر/ أيلول 2021، وتستهدف العودة لغالبية مظاهر الحياة الطبيعية إذ سيتمّ إلغاء الحظر بمختلف أشكاله، وعودة التعليم الوجاهي في المدارس والجامعات، والسماح لغالبية القطاعات والأنشطة بالعمل في جميع الأوقات وبكامل طاقتها الاستيعابيّة.
-
الإمارات
تأتي الإمارات في المركز الثالث على مستوى الدول العربية خلال يوليو/ تموز 2021، إذ بلغ إجمالي عدد الإصابات 677 ألفا و801 إصابة، بما يعني زيادة الإصابات في يوليو/ تموز 2021، بنحو 50 ألف إصابة، وهذا يسجل انخفاضا في معدل زيادة الإصابات مقارنة بشهر يونيو/ حزيران 2021.
فيما بلغت حالات الوفاة 1939 حالة، بما يعني زيادة الوفيات خلال شهر يوليو/ تموز 2021، بما يقرب 140 حالة وفاة، وتعد النسبة الإجمالية لحالات الوفيات ضئيلة مقارنة بالعدد الإجمالي للإصابات.
وتحتل الإمارات المرتبة الثانية على قائمة الدول العربية، بعد البحرين، في عدد اللقاحات التي تستخدمها للوقاية من "كوفيد-19"، إذ تستخدم كلا من "فايزر- بيو إن تك"، و"أسترازينيكا"، و"سينوفارم"، بالإضافة إلى "سبوتنيك".
وتعد من الدول المتقدمة في تنظيم عملية اللقاحات، إذ بلغ مجموع جرعات اللقاح ما يزيد عن 16 مليونا و676 ألفا و766 جرعة بمعدل توزيع للقاح 167.07 جرعة لكل 100 شخص، ما يعني زيادة عدد الجرعات خلال يوليو/ تموز 2021 فقط بما يقارب 1.5 مليون جرعة.
وتبلغ نسبة السكان الملقحين بالجرعة الأولى من اللقاح 79.03 بالمئة، فيما بلغت النسبة الإجمالية لمتلقي جرعتي اللقاح 70.96 بالمئة، وهذه تعد نسبة مرتفعة جدا من عدد السكان في الإمارات، وتدل على تطور في النظام الصحي مقارنة بباقي الدول العربية.
وفي مايو/ أيار 2021، قررت الإمارات ضمن إستراتيجية الدولة الاستباقية لتوفير الحماية القصوى للمجتمع، تقديم الجرعة الثالثة من لقاح "سينوفارم" الصيني لمواطنيها، بعد 6 أشهر على الأقل من أخذ الجرعة الثانية. وستكون الأولوية في البداية لكبار السن والمصابين بأمراض مزمنة.
وفي يونيو/ حزيران 2021، أعلنت العاصمة الإماراتية، أبو ظبي، أنها تقدم لقاحات COVID-19 مجانية للسائحين، والتي كانت مقتصرة في السابق على مواطني البلاد وحاملي تأشيرات الإقامة.
وعلى ذلك يمكن للزوار الذين يحملون تأشيرات صادرة عن أبوظبي وحاملي جوازات السفر المؤهلين للحصول على تأشيرات سياحية عند وصولهم إلى دولة الإمارات عبر أبوظبي حجز لقاحات مجانية.
ومن غير المعلوم حتى الآن، ما إذا كانت هذه القرارات سوف تُطبق على صعيد دبي وباقي الإمارات الخمس.
-
تونس
تشهد تونس موجة شرسة من وباء فيروس كورونا، تعتبر الأقوى منذ بداية الجائحة في البلاد، إذ زادت أعداد الإصابات بشكل قياسي وعجزت المستشفيات والمنظومة الصحية عن الاستيعاب، صاحبها غضب شعبي من تعامل الحكومة مع الأزمة.
وتأتي تونس في المرتبة الرابعة عربيا، من حيث عدد الإصابات، إذ بلغت أعداد الإصابات في شهر يوليو/ تموز 2021، نحو ما يقرب من 180 ألف إصابة خلال يوليو/ تموز 2021 فقط. إذ وصل العدد الإجمالي لأعداد الإصابات، 578 ألفا و962 إصابة، وفي حالة تزايد مستمر، حيث كان العدد الإجمالي يبلغ بنهاية يونيو/ حزيران 2021، ما يقرب من 400 ألف إصابة.
انتشار السلالة الجديدة "دلتا" أدى إلى زيادة أعداد الحالات بشكل بالغ، كذلك أدى إلى انهيار المنظومة الطبية وعجزها عن استيعاب الحالات، كما صرحت بذلك وزارة الصحة.
كما أدى إلى نقص حاد في الأسرّة والأكسجين وأثقل كاهل العاملين الصحيين، وأصبحت الأطقم الطبية في حالة استسلام عن التعامل مع ذلك الوضع.
وتسبب سوء التعامل مع الأزمة داخليا، في إقالة وزير الصحة منذ أيام على خلفية إطلاق وزارة الصحة حملة للتطعيم ضد فيروس "كورونا" وافتتاح مراكز مؤقتة لتطعيم جميع التونسيين فوق 18 عاما بمناسبة عيد الأضحى.
لكن أدى هذا الإعلان إلى ازدحام وتدافع في 29 مركزا للتطعيم، ما سبب تدافعا بين المواطنين، ونفاد مخزون اللقاح.
سارعت دول عديدة إلى تقديم مساعدات طبية عاجلة لتونس، في مواجهة موجة رابعة لانتشار فيروس "كورونا"، بلغ معها مستوى الإصابات والوفيات اليومية أرقاما قياسية، قاربت الـ200 وفاة يوميا.
وتوالت مساعدات دولية، بينها مليون و800 ألف جرعة لقاح مضادة للفيروس، وتجهيزات طبية ومعدات تزويد بالأوكسيجين وأسرة طبية، من تركيا وقطر والسعودية والإمارات ومصر الجزائر وموريتانيا، فيما تعهدت فرنسا والصين وأميركا بالمساعدة.
لكن ذلك لن يكفي لإخراج تونس من الأزمة، إذ إن التونسيين لا يلتزمون بالكامل بتدابير الوقاية في حين أن الصراع على السلطة في أعلى هرمية النظام يعطل عمل الهيئات العامة.
وكثيرا ما أشار ناشطون تونسيون، إلى حالة التردي التي تعاني منها البنية التحتية، لقطاع الصحة في تونس، وكذلك عن عدم أخذ السلطة قضية توفير اللقاحات للناس على محمل الجد منذ تفشي الوباء 2020.
إذ تشير التقديرات إلى أن أقل من نصف مليون تونسي فقط، تلقوا جرعتين من اللقاح المضاد لـكورونا حتى الآن، في بلد يصل عدد سكانه إلى 12 مليون نسمة.
الأزمة السياسية في البلاد أثرت سلبا على تردي النظام الصحي، وخاصة بعد تفاقمها بعد الإجراءات الأخيرة التي قام بها الرئيس قيس سعيد وحل مجلس النواب.
فلم تعد الدولة تحتمل إنقاذا للنظامين السياسي والصحي معا، وهو ما يضع البلاد في أزمة حقيقية.
المحور الثاني: الحالة السياسية
يتناول المحور السياسي، خلال يوليو/ تموز 2021، أبرز مستجدات الساحة السياسية في الوطن العربي.
على صعيد مصر فإن الدولة تواجه تحديا مصيريا يتعلق بسد النهضة، والذي امتدت فترة التفاوض بشأنه ما يزيد عن عقد كامل، انتهت بنجاح إثيوبي في بناء وملء السد.
وانتهت جهود مصر والسودان الدبلوماسية بتصعيد القضية إلى مجلس الأمن، والذي لم يخرج بقرار حاسم في هذه القضية، وفي انتظار التحركات التي يمكن أن تقوم بها الدولتان خلال الفترة المقبلة لمواجهة ذلك التحدي.
وفي تونس، شهد يوليو/ تموز 2021، تغيرا كاملا لمسار الأحداث السياسية في البلاد، بعدما قام الرئيس التونسي قيس سعيد بإعلان إجراءات تم بموجبها حل مجلس النواب وإعفاء رئيس الحكومة من منصبه، وتوليه منصب النائب العام.
ما عُد انقلابا دستوريا على مؤسسات منتخبة كما وصفته الأحزاب المناهضة لهذه الإجراءات، وسط حالات رفض وقبول داخلي، ما يعني أن الفترة القادمة ربما تشهد مواجهات شديدة في الداخل التونسي.
وانتقالا إلى لبنان، شهد يوليو/ تموز 2021، استقالة سعد الحريري من منصبه كرئيس مكلف بتشكيل الحكومة، بعد ما يقرب من عام من المشاورات والمحاولات للتوافق مع الرئيس، ميشال عون، حول تشكيل حكومة، كلها باءت بالفشل.
جرى تكليف السياسي اللبناني ورجل الأعمال، نجيب ميقاتي، بتشكيل الحكومة، في ظل حالة اقتصادية وسياسية متدهورة للغاية تتطلب المزيد من السرعة في تشكيل الحكومة واستقرار الأوضاع.
مصر
مصير المفاوضات بعد الملء الثاني لسد النهضة
شهدت قضية سد النهضة تطورا هاما خلال يوليو/ تموز 2021، إذ بدأت تظهر ملامح النهاية لعقد كامل من التفاوض بين مصر والسودان وإثيوبيا بشأن سد النهضة.
والذي اكتمل خلال هذا الشهر الملء الثاني له، في ظل مساعي مصرية مستمرة لتدويل القضية دونما توصل إلى اتفاق ملزم حتى هذه اللحظة.
أعلنت الحكومة الإثيوبية أنها حققت هدفها للعام الثاني المرتبط بعملية ملء سد النهضة الذي يثير خلافا مع مصر والسودان، وقالت: إنها تخطط للبدء في إنتاج الكهرباء من السد خلال أشهر.
الخطاب الذي تتبناه إثيوبيا على المستوى الرسمي يفيد بأهمية هذا المشروع لإثيوبيا، ويتغاضى تماما عن خطورة هذا السد على مصر والسودان، وما يمكن أن يسببه من نقص حصص المياه بالنسبة لهذه الدول.
وتقول أديس أبابا: إن سد النهضة، وهو مشروع تبلغ تكلفته 4 مليارات دولار، حيوي لنهضة البلد الاقتصادية ومصدر أساسي للطاقة.
وأكد رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مطلع مايو/ أيار 2021، أن بلاده متمسكة بموعد الملء الثاني لسد النهضة، في رسالة وجهها إلى الشعب الإثيوبي، معتبرا أن الحلم الذي كان يرقبه الإثيوبيون خلال ثلاث سنوات أصبح الآن واقعا.
وأشار في خطابه إلى "مناهضي النهضة الإثيوبية" على حد وصفه ليؤكد على صد أي محاولة لعرقلة بناء السد.
انتقدت مصر قرار إثيوبيا المضي قدما في المرحلة الثانية من عملية ملء خزان سد النهضة، محذرة من مغبة تفاقم التوترات في المنطقة.
وحذر بيان صدر عن وزارة الخارجية المصرية من أن مضي أديس أبابا في خططها يُعد تطورا خطيرا ويكشف مجددا عن سوء نية إثيوبيا وإصرارها على اتخاذ إجراءات أحادية لفرض الأمر الواقع.
التصريحات الرسمية المتبادلة منذ سنوات لم تعد لها دلالة ذات أهمية في التأثير بشأن قضية السد، فَالتصريحات التي صدرت عن وزارتي الخارجية والري المصرية، والتي تدين التصرف الإثيوبي الأحادي لم تعد سوى إجراء حكومي تقليدي، وذلك بعدما أدركت دولتا المصب أنهما يتعاملان مع مسألة "أمر واقع".
بدأ تصاعد الأحداث خلال السنوات الماضية بعدم أحقية إثيوبيا في بناء السد، ثم عدم أحقية الملء والتشغيل بشكل أحادي، وصولا إلى عدم الإضرار بحصص كل من مصر والسودان.
وهذا يعكس انتصارا إثيوبيا على أرض الواقع، رغم أن الأضرار الحقيقية للسد لم تشهدها بعد كلتا الدولتين.
وفي ظل الحديث، عن تحول ملء سد النهضة الإثيوبي، إلى أمر واقع، فإنه لم يتبق من خيارات دبلوماسية، أمام كل من مصر والسودان، في مجال التعامل مع هذا الأمر الواقع، سوى جلسة مجلس الأمن.
وهو ما قررته كلتا الدولتين كخيار أخير في خطوات التصعيد الدبلوماسي لهذه القضية.
-
اللجوء إلى مجلس الأمن وتبعاته
دفع بدء الملء الثاني لسد النهضة من قبل إثيوبيا، مصر إلى تسريع الخطى تجاه مجلس الأمن، على أمل تحقيق حشد دولي يدعم هدفها الإستراتيجي، وهو إبرام اتفاق فني ملزم بشأن الملء والتشغيل، حتى تتجنب الصدام مع أديس أبابا.
وهي الخطوة التي تخشاها مصر على مستوى القرار السياسي نظراً لخطورة تبعاته في الداخل.
فما تريده مصر هو العودة إلى التفاوض، لكن بشرطين، هما شكل مغاير، وتوسيع دائرة الوساطة، إحياء لطرح السودان، في فبراير/ شباط 2021، الذي تضمن إشراك الاتحادين الإفريقي والأوروبي والأمم المتحدة وأميركا في المفاوضات، وهو ما ترفضه إثيوبيا، مكتفية بالقول إن الحل إفريقي فقط.
لكن توجه القاهرة إلى مجلس الأمن يواجه تحديات، إذ لم يُخبَر (المجلس) من قبل بمثل هذه النزاعات، التي تكتنفها أمور فنية وقانونية معقدة.
فضلا عن أن دول الفيتو كررت تأييدها للمفاوضات، تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، وفق أستاذ القانون الدولي بمصر، أيمن سلامة.
جاءت نتائج جلسة مجلس الأمن بشأن السد، على غير ما أرادت مصر، من خطوة إلزامية حاسمة تغير مسار التفاوض، فلم يُحمل مجلس الأمن إثيوبيا أي إدانات.
كما لم يخرج بأي قرار يدعم حق مصر في حصتها من المياه، كما لم يجبر أياً من الأطراف على إبرام اتفاق ملزم بشأن التشغيل.
تصريحات ممثلي أميركا في مجلس الأمن، أفادت أن الحل في اتفاق سياسي ملزم لجميع الأطراف، داعية إلى القيام بأعمال تعيق أعمال التفاوض، كما أكدت دعمها لرعاية الاتحاد الإفريقي لهذه المفاوضات.
التصريحات الأميركية ذات دلالة مهمة وإن كانت تبدو تقليدية، إلا أنها تفيد بأنه ليس من المتوقع في مستقبل الأيام أن تتدخل أميركا لصالح طرف في هذا النزاع، وأن الأمر يعتبر شأنا إفريقيا، وهو التوجه الذي ذهبت إليه أغلب الدول، وهو ما يصب في الصالح الإثيوبي بطبيعة الحال.
كما جاءت تصريحات أميركا من قبل في مايو/ أيار 2021، عن قبول أميركا باتفاق المبادئ الموقع بين الدول الثلاث، كأساس للمفاوضات، وهو ذات السياق الذي انتهجته إدارة الرئيس الأميركي جون بايدن تجاه قضية السد.
ويُذكر أن رئيس النظام عبد الفتاح السيسي، والرئيس السوداني السابق، عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا هايلي مريام ديسالين، وقعوا على اتفاقية "إعلان مبادئ سد النهضة" في العاصمة السودانية الخرطوم، عام 2015.
كما جاء موقف روسيا في مجلس الأمن، داعما لموقف إثيوبيا من خلال تحذيراته من استعمال لهجة القوة والتهديد بضرب السد.
وقال مندوب روسيا، فاسيلي نيبينزيا: إن الخطاب التهديدي بشأن أزمة سد النهضة لا يمكنه أن يؤدي إلى حل بشأن سد النهضة.
وعلى هذا، لم يأت الموقف الروسي كذلك ملبيا لتطلعات مصر في مجلس الأمن، والتي كانت تتوقع دعماً روسياً، حتى لو على سبيل الخطاب السياسي والحشد الدولي.
خاصة في ظل حالة الصداقة بين الحكومتين، ولكن يبدو أن الموقف الإثيوبي كان يتعلق بمصالح مشتركة مع الجانب الإثيوبي.
إذ جاء في كلمة المندوب الروسي أن "أفضل طريقة هو التفاوض على الوثيقة بين كل دول حوض النيل التي يجب أن تحدد طرق استخدام المياه بشكل متساوِ".
وأضاف أنه غير راضٍ على دخول أطراف دولية كوسطاء أو مراقبين، مصرحاً أن رفع عدد الوسطاء أو مراقبي المفاوضات لن يضيف قيمة.
الموقف الصيني جاء كذلك، في اتجاه تصريحات أميركا، وأكد المندوب الصيني، لي باودونغ، أن "الموارد المائية العابرة للحدود تشمل مراعاة المصالح الوطنية"، مؤكداً أن "على الدول حل خلافاتها من خلال الحوار".
الموقف الحيادي لمجلس الأمن جاء مخيبا لآمال مصر والسودان، وهو ما عبر عنه وزراء خارجية الدولتين داخل مجلس الأمن، إذ صرح سامح شكري وزير الخارجية المصري، أن سبب فشل المفاوضات سياسي بامتياز، مشيراً إلى التعنت الإثيوبي.
كلمة شكري حرصت على توصيف أساس الأزمة بأنها "أزمة سياسية"، واعتبر أن "موقف إثيوبيا المؤسف قوض كل محاولات التوصل إلى اتفاق سياسي".
وأكد شكري خلال الجلسة بأن مصر إذا تعرضت حقوقها لخطر "لن يبقى لمصر وقتها سوى حماية حقها الأصيل في الحياة، ودعا مجلس الأمن لمنع السد من أن يصبح تهديداً لوجود مصر".
في حين أضافت وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق، أن "وجود سد ضخم على بعد بضعة كيلومترات من الحدود السودانية دون تنسيق مع السودان يشكل خطورة على حياة ملايين البشر".
إضافة إلى تقليله الأراضي الزراعية بنسبة 50 بالمئة. مستنكرةً موقف مجلس الأمن من قضية السد.
في نتيجة الأمر، فإن مجلس الأمن لم يحرك ساكنا فيما يتعلق بقضية سد النهضة الإثيوبي، هذا ما يبدو من نتائج الجلسة التي عقدها المجلس بناء على طلب دولتي المصب.
وبدا من كلمات مندوبي أعضاء المجلس أن الأغلبية تميل إلى اعتبار الاتحاد الإفريقي هو المكان الأنسب لحل الخلاف من دون قيد أو شرط.
ومن الواضح أن الدول الرئيسة في مجلس الأمن تبنت وجهة النظر الإثيوبية بالتوصية بالاستمرار في اللجوء إلى طاولة مفاوضات الاتحاد الإفريقي، والذي فشل في إيجاد حل سياسي مرضي وملزم للأطراف الثلاثة على مدار الأعوام الماضية.
-
البدائل والخيارات بعد خطوة مجلس الأمن
تقف الدولة المصرية الآن على مفترق طرق، فيما يتعلق بقضية السد، إذ أصبحت مطالبة بحماية حصتها من مياه النيل، واتخاذ موقف للتعامل مع الأزمة.
رغم تصريحات وزير الخارجية المصري في مجلس الأمن، من أن مصر ستضطر للحفاظ على حقها في مياه النيل، واعتبار ذلك تلويحا بالخيار العسكري، والذي أشار إليه السيسي في تصريحات سابقة كذلك، إلا أن الموقف الدولي غير الداعم لهذا المسار، يجعل من الصعوبة اتخاذ مثل هذا القرار.
إضافة إلى ذلك، فالموقف الرسمي المصري، يتبنى الخطاب السياسي حتى الآن، الذي يفيد بالوصول إلى حل سلمي للقضية بإبرام اتفاق ملزم لجميع الأطراف، دون تصعيد حقيقي في هذا الصدد يشير إلى وجود نية حقيقية لضرب السد.
وفي خطابه الأخير أشار السيسي إلى هذا الأمر في دعوة صريحة للجانب الإثيوبي للعودة إلى التفاوض، والبعد عن الخطاب التهديدي، وفي إشارة أيضا إلى أن اللجوء إلى مجلس الأمن كان لوضع الأزمة على أجندة المجتمع الدولي.
وفي سياق الحديث عن الخيارات والبدائل كذلك، يجب الإشارة إلى الموقف السوداني، إذ أشارت التصريحات الرسمية خلال الآونة السابقة، إلى خطورة هذا السد على السودان، وأنه يحمل مخاطر حقيقية على حياة الشعب السوداني.
بل أكثر من الضرر الواقع على المصريين، كما صرح رئيس وزراء السودان، عبدالله حمدوك.
لكن في الوقت نفسه، فالحديث عن خيارات عسكرية ربما يكلف السودان أضرارا أشد، مقارنة بمصر، إذ يقع السد الإثيوبي على الحدود السودانية، والدخول في خيارات عسكرية تؤدي إلى تدمير مثل هذا السد يمثل احتمال ضرر بالغ على السودان.
والحديث عن العمل العسكري تتعرض معه أراضي دولة السودان إلى غرق وبوار لِمساحات أراض كبيرة من أراضيها الزراعية وتتعرض حياة ملايين السودانيين لمخاطر شديدة، بما يقلل بشكل كبير من احتمال موافقة السودان على تدمير السد في هذا التوقيت انطلاقا من قواعدها.
في المقابل، فالموقف القانوني لإثيوبيا أمام المجتمع الدولي يبدو أكثر إقناعا من الدولتين، وهو ما أدى ببعض الخبراء والمحللين، إلى تحميل هذه المسؤولية لرئيس النظام المصري بتوقيعه على اتفاقية المبادئ، التي تمت الإشارة إليها، وهو ما أعطى لإثيوبيا سنداً في بناء السد.
ومن جانب إثيوبيا كذلك، فإن التصريحات الرسمية التي أدلى بها مؤخرا رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، بعد إتمام عملية الملء الثاني، تفيد بإرسال رسائل إيجابية لِشعبي مصر والسودان، وأن الدولتين لن يتعرضَا لضرر ذي شأن بسبب عملية الملء.
وهو الأمر الذي لا يستقيم مع ما وصلت إليه الحكومات الثلاث، من طريق مسدود وعدم التوصل لاتفاق ملزم لجميع الأطراف.
حالة الاستفزاز الإثيوبي كما وصفها البعض من خلال إدارتها للأزمة ربما "تفرض الحرب" كبديل لا غنى عنه، رغم استبعاد العمل العسكري مصريا وسودانيا حتى الآن.
إلا أنه وارد بقوة إذا ما أفضت الأزمة إلى حرب مياه وخيمة لا يمكن تحمل كوارثها على الزراعة والاقتصاد والحياة نفسها.
لبنان
بدأت أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية في أغسطس/ آب 2020، عندما أعلن رئيس الوزراء اللبناني، حسان دياب، استقالة حكومته عقب احتجاجات أعقبت انفجار مرفأ بيروت، الذي تسبب في مقتل نحو 215 شخصا وإصابة مئات آخرين.
ومنذ تكليف الرئيس ميشال عون لِسعد الحريري بتشكيل الحكومة في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وهناك نزاع قائم بين الرجلين حول اختيار الوزراء، في حالة لم تعد تحتمل تأخرا بسبب هذا الفراغ السياسي الذي تشهده الدولة.
شهدت الأشهر الماضية سجالات تكاد لا تنتهي بين الرئيس عون وفريقه السياسي من ناحية، والحريري وفريقه السياسي من ناحية أخرى حول صلاحية كل منهما في تشكيل الحكومة، كما راجت تحليلات واتهامات حول من يقف وراء التعطيل، ومن يمنع تشكيل الحكومة.
وفي حال الإصرار على عدم تشكيل حكومة، وفي ضوء الانحلال المتسارع في بنية المؤسسات، وامتناع الحكومة المستقيلة عن القيام بواجباتها في تصريف الأعمال بما تقتضيه المرحلة وأبسطها حلّ مشكلات الترابة والنفايات والمواد الأساسية، فإن الأزمة توشك أن تصير إلى انهيار داخلي يخشاه الجميع.
وشهدت الأشهر الماضية صراعا طويلا بسبب تعنت كل من مؤسسة الرئاسة، وسعد الحريري في تحديد آلية تشكيل الحكومة، إذ يتبادل كلاهما الاتهامات بتعطيل تأليف حكومة بين رغبة الحريري في تشكيل حكومة اختصاصيين.
ورغبة التيار الوطني في أن تكون الحكومة ممثلة لِميزان القوى السياسي، علما أن تيار عون لديه أكبر كتلة برلمانية في مجلس النواب.
وإضافة إلى عدد الحقائب الوزارية، فثمة خلاف يعود إلى تسمية بعض الوزراء أهمها الداخلية والدفاع، والتي يتمسك الحريري بهما باعتبار ذلك حق دستوري، رافضاً خيار ترشيح بعض الأسماء ليختار الرئيس أحدها.
فيما رفض الرئيس عون وصهره وشريكه زعيم التيار الحر جبران باسيل بشكل قاطع تفرد الحريري بتسمية الوزراء وخاصة المسيحيين.
لم تفلح المبادرات خلال الأشهر الماضية في حلحلة الأزمة والتوصل إلى اتفاق شامل حول تشكيل الحكومة، منها المبادرة الفرنسية التي تنص على تشكيل حكومة من 18 وزيرا من الاختصاصيين غير الحزبيين.
وأخيرا مبادرة رئيس البرلمان نبيه بري، التي تنص على تشكيل حكومة من 24 وزيرا بدون الثلث المعطل.
ويتزامن ذلك مع أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخ لبنان الحديث، أدت إلى انهيار مالي غير مسبوق، وشح في الوقود والأدوية، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، فضلاً عن ارتفاع معدلات الفقر بشكل قياسي.
الحديث كذلك عن السيادة اللبنانية دار حوله الكثير من الجدل خلال هذه الأزمة، ومؤخرا تفاعلت مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان بعد أن "وبخت" السفيرة الفرنسية في بيروت، آن غريو، رئيس حكومة تصريف الأعمال في السراي الحكومي، ثم توجهت مع نظيرتها الأميركية، دوروثي شيا، للبحث عن حل للأزمة اللبنانية في العاصمة السعودية الرياض.
وجاء في البيان عن أجندة الزيارة، أن السفيرة شيا ستبحث "خطورة الوضع في لبنان، وسوف تؤكد على أهمية المساعدة الإنسانية للشعب اللبناني، فضلاً عن زيادة الدعم للجيش وقوى الأمن الداخلي.
هذا، وبالشراكة مع نظيرَيها الفرنسي والسعودي، سوف تواصل السفيرة شيا العمل على تطوير الإستراتيجية الدبلوماسية للدول الثلاث التي تركز على تشكيل الحكومة وحتمية إجراء الإصلاحات العاجلة والأساسية التي يحتاجها لبنان بشدة".
عبرت هذه الخطوات التي تعتبر تدخلا صريحا في الشأن الداخلي اللبناني عن تهافت الحكومة ووصول لبنان إلى وضع في غاية السوء إذ باتت ثلاث دول تناقش الأمر اللبناني علانية في تجاوز كامل للسلطات الداخلية.
ثم تطورت الأحداث سريعا بعد هذه التدخلات، وبعد الزيارة التي قام بها سعد الحريري للقاهرة، في 17 يوليو/ تموز 2021، للتفاهم حول الأزمة.
وأصدرت القاهرة بيانا أعلنت فيه عن دعمها الكامل لمسار الحريري السياسي، الهادف إلى استعادة الاستقرار في لبنان على حد وصفه، فضلا عن جهود الحريري تشكيل الحكومة في لبنان.
-
الحريري يعتذر عن تشكيل الحكومة
لم تؤت زيارة الحريري إلى القاهرة ثمارها، كمثيلاتها من الخطوات السابقة، إذ لم تجد المباحثات التالية التي جرت بين الحريري والرئيس عون في 15 يوليو/ تموز 2021، في التوصل إلى اتفاق بشأن الحكومة رغم كل المساعي التي توسطت في حل الأزمة.
على إثر ذلك أعلن الحريري استقالته عن تشكيل الحكومة، عقب لقائه عون، وصرح أنه لم يتمكن من التوافق مع الرئيس عون، مشيرا إلى أن موقف الرئيس لم يتغير وأن التعديلات التي طلبها جوهرية وتطال تسمية الوزراء المسيحيين.
ويُذكر أن جبران باسيل، صهر رئيس الجمهورية، كان يصر على شروطه في تسمية الوزراء المسيحيين من جانب رئيس الجمهورية، وحصوله على الثلث المعطل فيها.
وكان يتمسك رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري بصلاحياته بتشكيل حكومة من 24 وزيرا، وفق مبادرة رئيس البرلمان.
وأضاف الحريري: "قدمت للرئيس عون حكومة من 24 وزيرا من الاختصاصيين حسب المبادرة الفرنسية وحسب مبادرة رئيس مجلس النواب نبيه بري، وبالنسبة لي هذه الحكومة قادرة على أن تقوم بالبلد وتبدأ بالعمل على وقف الانهيار".
جاءت استقالة الحريري معبرة عن تتابع الخيبات التي يحققها السياسيون في لبنان، متجاهلين احتمالية انفجار الشارع اللبناني في أي وقت مما ضاقت بهم من ظروف اقتصادية وأمنية لم تعد ضمن الإطار الذي يُحتمل بأي حال.
إذ يواجه لبنان حاليا، ما يصفه البنك الدولي بأنه أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها العالم منذ قرن ونصف القرن؛ وسط تدهور الوضع المالي منذ خريف عام 2019.
وانخفضت قيمة العملة الوطنية أكثر من 10 مرات مقابل الدولار الأميركي، ما أدى إلى ارتفاع أسعار المنتجات غير المدعومة بنسبة تتجاوز من 400 بالمئة.
أثارت الخطوة ردود فعل على المستوى الداخلي والخارجي، وسط تخوفات من انهيار الوضع بشكل نهائي، خاصة عقب اشتعال الداخل اللبناني، ضمن العوامل المرتبطة بمسار المشهد السياسي في لبنان.
والتي كان يعول عليها بدرجة كبيرة هي المبادرة الفرنسية، التي كانت اشترطت تشكيل حكومة تكنوقراط والبدء في الإصلاحات من أجل الدعم، إلا أن اعتذار الحريري أثار العديد من التساؤلات في هذا الإطار.
في المقابل، قالت الرئاسة اللبنانية: إن الرئيس عون شدد على ضرورة الالتزام بالاتفاق الذي تم التوصل إليه سابقا، إلا أن الحريري رفض أي تعديل يتعلق بأي تبديل بالوزارات والتوزيع الطائفي لها وبالأسماء المرتبطة بها أو الأخذ بأي رأي للكتل النيابية لكي تحصل الحكومة على الثقة من المجلس النيابي وأصر على اختياره هو لأسماء الوزراء.
وأضافت الرئاسة اللبنانية أن رفض الرئيس المكلف لمبدأ الاتفاق مع رئيس الجمهورية وفكرة التشاور معه لإجراء أي تغيير في الأسماء والحقائب يدل على أنه اتخذ قرارا مسبقا بالاعتذار ساعيا إلى إيجاد أسباب لتبرير خطوته، وذلك على رغم الاستعداد الذي أبداه رئيس الجمهورية لتسهيل مهام التأليف.
وجاءت هذه الاستقالة، بعد طول المشاورات في حين كان يترقب الشعب اللبناني ضرورة وسرعة تشكيل حكومة قادرة على استعادة الثقة على الصعيدين المحلي والدولي وتنفيذ الإصلاحات التي طالب بها المقرضون الدوليون.
مثل إصلاح قطاع الكهرباء الذي يعاني من الهدر، والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان المركزي، وإعادة هيكلة القطاع العام المتضخم.
المخاوف الداخلية من انفجار الشارع كذلك ليست بعيدة عن تلك الموجودة في بعض الأوساط الدوليّة، بدليل الحرص القائم على دعم المؤسسات الأمنية والعسكريّة للحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار.
بالتزامن مع البحث في كيفيّة تأمين مساعدات، لا تمرّ عبر مؤسّسات الدولة، تساعد اللبنانيين على مواجهة الظروف الصعبة المنتظرة.
-
تكليف ميقاتي بالحكومة الجديدة.. والتحديات القائمة
كلف الرئيس اللبناني، ميشال عون، الإثنين 26 يوليو/ تموز 2021، رئيس الوزراء السابق، نجيب ميقاتي، بتشكيل حكومة جديدة.
وذلك خلال استشارات نيابية ملزمة أجراها عون، في القصر الجمهوري بمنطقة بعبدا شرق العاصمة بيروت، حصل ميقاتي فيها على موافقة 72 نائبا، بينما رفضه 42 آخرون.
وحاز ميقاتي على ثقة كتلة تيار المستقبل (17 نائبا)، بزعامة رئيس الوزراء السابق سعد الحريري، وكتلة الوفاء للمقاومة (12 نائبا)، التابعة لجماعة "حزب الله"، وكتلة التكتل الوطني (5 نواب)، التابعة لتيار المردة، بزعامة سليمان فرنجية.
كما أيدته كتلة الحزب التقدمي الاشتراكي (7 نواب)، التابعة للحزب التقدمي الاشتراكي، برئاسة وليد جنبلاط، وكتلة الوسط المستقل (نائبان)، والكتلة القومية الاجتماعية (3 نواب).
وكذلك كتلة اللقاء التشاوري (نائبان من أصل 4)، وكتلة التنمية والتحرير، برئاسة رئيس البرلمان نبيه بري (17 نائبا)، بالإضافة إلى 4 نواب مستقلين.
ومن المعلوم أن نجيب ميقاتي، أحد رجال المال والأعمال في لبنان، ونائب برلماني عن مدينة طرابلس منذ عام 2018، وتولى رئاسة الحكومة عامين قبل ذلك عامي 2005، و2011.
ربما يمثل الاستقرار على اسم ميقاتي أملا في مواجهة أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان منذ الحرب الأهلية (1975-1990) إلى كونه مسلما سنيا أتى إلى السياسة من قطاع رجال الأعمال، وسبق له تولي رئاسة الحكومة مرتين من قبل.
انتماء الرئيس المكلف نجيب ميقاتي إلى الطبقة السياسية التقليدية في لبنان، التي تولت المسؤولية خلال العقدين الماضيين، أثار الرفض المبدئي له في بعض الأوساط اللبنانية، نظرا لحالة الاحتقان الحاصلة والتهديد الذي أصاب لبنان تحت حكم هذه الشخصيات.
في حين يرجع التحدي الأساسي بالنسبة لنجيب ميقاتي في شكل التقارب الذي سوف يقدمه بالمقارنة مع ما قدمه سعد الحريري من قبل، في إطار تشكيل الحكومة بالتوافق مع الرئيس ميشال عون، وهو الأمر الذي استغرق ما يقرب من عام كامل دون حسم أو حل.
الرئيس ميقاتي فور تكليفه كذلك، تعهد بالعمل تحت إطار المبادرة الفرنسية، وهو صاحب علاقات جيدة مع الجانب الفرنسي.
وربما كان ذلك عاملا وراء اختياره والتوافق عليه، وذلك لتدخل السياسة الفرنسية بشكل واضح في الداخل اللبناني خلال الأزمة الأخيرة.
يُذكر أن المبادرة الفرنسية أو "عملية إنقاذ لبنان" كما يُطلق عليها، انطلقت على أساس أن لباريس دورا متجذرا في البلد التي أشرفت فرنسا على تأسيسها وتشكيل النظام السياسي فيها قبل قرن من الزمان، وأن عليها مواصلة ذلك في ظرف دقيق لبنانيا وإقليمياً.
واعتبرت باريس أن قدرتها على التحاور والتفاوض مع جميع الأطراف ورعاتهم الإقليميين، لاسيما حزب الله المُقاطَع من باقي الدول الغربية، تضيف إلى سجلها نقطة قوة تمكِّنها من التصرف بحرية وبهامش مناورة سياسية واسع لا محاذير أو محرمات فيه.
وسبق لها أن تدخلت بفاعلية في السنوات الثلاثة الماضية.
أطلق هذه المبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في أغسطس/ آب 2020، إثر الانفجار الضخم الذي دمر مرفأ بيروت وعددا من أحياء العاصمة.
وزار ماكرون لبنان مرتين وأرسل مستشاريه للقاء المسؤولين اللبنانيين.
ولم يُوفَّق رغم ذلك في الدفع إلى تشكيل حكومة إنقاذ واتخاذ إجراءات هي الشرط الأساسي لحشد دعم مالي دولي وبدء توفير المبالغ التي سبق وجمعها مؤتمر "سيدر" عام 2018 في باريس.
بالعودة إلى اختيار نجيب ميقاتي، والمبادرة الفرنسية، فإن التحدي القائم ذو شقين أحدهما اقتصادي، لانتشال لبنان من هذه الأزمات الطاحنة، والذي سيعتمد بلا شك على تمويلات خارجية بدعم ورعاية فرنسية، في إطار ضمانات متعلقة بالتشكيل السياسي الجديد الذي سيتم الاستقرار عليه.
إذ تهدف باريس إلى تمويل دولي وإدارة فرنسية لعملية إعادة بناء مرفأ بيروت ومحيطه، بموازاة عملية إصلاح قطاع الطاقة المهترئ، الذي استنزف مالية الدولة اللبنانية على مدى عقود.
وأيضا تحسين قطاع الاتصالات وخدمات حيوية أخرى (من ضمنها جمع النفايات) تتصدر منذ سنوات أشكال المعاناة المعيشية لدى أكثرية اللبنانيين.
كما راهنت فرنسا على فرض الرقابة على مصرف لبنان وعلى الإنفاق المالي الرسمي بما يتلاءم مع شروط صندوق النقد الدولي للتدخل وإعادة هيكلة الاقتصاد اللبناني وقطاعهِ المصرفي، واستجلاب مساعدة إضافية من البنك الدولي وبدء توفير أموال "سيدر" المعلقة بانتظار الإصلاحات.
وفيما يتعلق بالتحدي السياسي، فإن الحكومة الجديدة باعتمادها على المبادرة الفرنسية، والتي لم تُحدد ملامحها السياسية بشكل كامل، فالغضب الشعبي من الطبقة السياسية بأكملها والذي تلقفه ماكرون خلال زيارته الأولى عقب الانفجار، وتهديده للمسؤولين الحكوميين حال عدم التوصل لتشكيل حكومة، انكفأ تدريجيا وحل محله "واقعية سياسية" اقتضت منه التعامل مع ميزان القوى القائم في لبنان بعد ذلك.
الرئيس نجيب ميقاتي، والطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، لا زالت صاحبة النصيب الأكبر في تحمل المسؤولية السياسية، واستيعاب الشعب اللبناني وتلبية مطالبه، ووضع خطة لِلتمويل والاقتراض من أجل بدء الإصلاحات الاقتصادية.
الرئيس نجيب ميقاتي، الذي ادعى فور توليه بأنه لا يمتلك عصا سحرية لحل الأزمات، أمام تحديات واسعة في تشكيل حكومة كفاءات بأقصى سرعة حيث الوضع في لبنان لم يعد يحتمل التأخر، وكيف يمكن أن يطبق خارطة طريق إصلاحية واضحة المعالم، وبرنامج من شأنه أن يستعيد ثقة المجتمع الدولي في المرحلة القادمة.
وخاصة أن الفلسفة التوافقية للنظام اللبناني باتت منطلقا لتعطيله عوض توفير الشراكة في مؤسسات سلطته. فمبدأ الثلث الضامن أو "الثلث زائد واحد" صار ما يسعى كل طرف أو حلف إلى الحصول عليه بحجة "الميثاقية" ويرفض المشاركة أو منح المشروعية للحكومة إن لم يمتلكه.
-
تونس
شهدت تونس خلال الفترة الماضية خلافا عميقا بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وانعكس ذلك على حالة عدم توافق بين الرئيس التونسي قيس سعيد، ورئيس الحكومة الممثل للأغلبية البرلمانية هشام المشيشي، ما أدى إلى تضارب الآراء حول تشكيل الحكومة وما تبعه من آثار عدم الاستقرار السياسي في البلاد.
وخلال شهر يونيو/ حزيران 2021، ارتفعت نسبة التوتر بين الرئيس والحكومة والبرلمان، وخاصة بعد تصاعد الاتهامات المتبادلة بالتوافق مع أطراف خارجية لتنفيذ أجندة في تونس.
ومع الحديث عن محاولة اغتيال قيس سعيد من جهة، ومحاولة اغتيال راشد الغنوشي كذلك، والدعوات الخاصة بانتخابات مبكرة التي انطلقت منذ بداية 2021.
لاقى مقترح اللجوء إلى انتخابات مبكرة تأييدا واسعا خلال يوليو/ تموز 2021، حتى من جانب حركة النهضة التي أعلنت دعمها لمسار الانتخابات المبكرة حال فشل الحوار الوطني،
وذلك للخروج من الأزمة، وهو ما يعكس المرونة الكبيرة لدى الفرق السياسية في الداخل واستعدادها لتلافي الصراع.
وهكذا ظلت تونس خلال الفترة الماضية بين تحدي التوافق حول الحوار الوطني، أو الدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة، في ظل مخاوف بسبب غياب المحكمة الدستورية العليا وهي المرجع القضائي الأعلى في البلاد، حتى جاءت قرارات الرئيس قيس سعيد الأخيرة في 25 يوليو/ تموز 2021، لتغير المعادلة بشكل كامل.
- قرارات قيس سعيد.. ودخول الأزمة التونسية في نفق مظلم.
على وقع الأزمة (السياسية/ الدستورية) المتصاعدة بين رئيس الجمهورية ورئيسَي الحكومة ومجلس النواب، تواترت على مواقع التواصل الاجتماعي، دعوات للتظاهر 25 تموز/ يوليو 2021 الذي يصادف عيد الجمهورية.
وذلك للمطالبة بحل مجلس النواب، وإقالة الحكومة، ووقف العمل بالدستور، وإلغاء النظام السياسي والقانون الانتخابي الحاليَّين، ومعاقبة السياسيين؛ خاصة من حركة النهضة، وعسكرة الإدارة، والدخول في مرحلة انتقالية يشرف عليها الرئيس قيس سعيّد.
ورغم الظروف التي تمر بها تونس والأزمات السياسية والاقتصادية التي شهدتها مؤخرا، إلا أن هذه الدعوات كانت موجهة ومدعومة بقوة من إعلام مصر والإمارات.
إضافة إلى كونها مجهولة الهوية، وتدعو إلى تحميل حركة النهضة المسؤولية دون الرئيس قيس سعيد وكأنه ليس أحد المسؤولين في البلاد، ما جعل الأمر يشوبه شكوك كثيرة.
وسط تصاعد أجواء الخلاف، وفي حين كان يُتوقع حلا دستوريا للأزمة، أو سياسيا عن طريق إتمام الحوار الوطني، خرج الرئيس قيس سعيد، مساء 25 يوليو/ تموز 2021، ببيان أعلن فيه عن قرارات تمثل تعطيلا للدستور وتوقيفا لمؤسسات الدولة المنتخبة، ما يُعد خروجا على المسار الديمقراطي في تونس.
تضمنت القرارات تجميد عمل البرلمان، ورفع الحصانة عن جميع النواب، والتفرد بالسلطة التنفيذية ليعلن قيس سعيد تنحية رئيس الحكومة هشام المشيشي، وقرر أنه سيعين أحدا خلفا له.
كما قرر الرئيس قيس سعيد في سابقة غريبة تولي منصب النائب العام، وبالتالي الاستيلاء على السلطات الثلاث في البلاد، تحت مزاعم "حماية الدستور والحفاظ على الدولة".
لم تكن القرارات التي أعلنها الرئيس سعيّد منفصلة عن سياقات الأزمة السياسية التي تمرّ بها تونس منذ سنتين.
فإثر الانتخابات التشريعية (البرلمانية) والرئاسية التي شهدتها البلاد، أواخر 2019، والتي جاءت بسعيّد رئيساً للجمهورية ومنحت حركة النهضة أكبر كتلة برلمانية من دون أغلبية، بدأ الصراع على الصلاحيات بين رئيس الجمهورية من جهة، وكل من مجلس النواب والحكومة من جهة ثانية، يظهر إلى العلن.
وتصاعدت التجاذبات إثر اختيار الرئيس سعيّد، هشام المشيشي لرئاسة حكومة تخلف حكومة إلياس الفخفاخ، ثم تراجعه السريع وطلبه من كتل مجلس النواب عدم منح الثقة للفريق الحكومي.
وذلك بعد أنْ أبدى المشيشي تمسّكا بصلاحياته الدستورية في اختيار أعضاء الحكومة ورفضه أداء دور "وزير أول" لدى سعيد؛ فليس النظام التونسي نظاما رئاسيا.
تعمد الرئيس التونسي إحداث مفاجأة بإعلان السلطات الاستثنائية التي نص عليها الفصل (80) من الدستور التونسي الحالي، فأحدث زوبعة سياسية داخل مؤسسات الدولة، وجدلا دستوريا سياسيا، بين من يراه انقلب على الدستور ومن يأمل أنه استدعى الدستور لحل الأزمة.
استند الرئيس قيس سعيد في بيانه إلى المادة (80) من الدستور التونسي، ويتهم المعارضون الرئيس قيس بخرق الدستور، إذ فرض الحالة الاستثنائية دون الالتزام بما ورد في المادة (80) التي تنظمها.
وبخاصة ضرورة استشارة رئيس الحكومة ورئيس البرلمان قبل اتخاذ القرار، وكذلك مبادرته إلى تجميد البرلمان في حين ينص الدستور على أن مجلس النواب يبقى منعقدا بصفة مستمرة طوال استمرار الحالة الاستثنائية.
"الخطر الداهم والظرف الاستثنائي" الذي استند إليه الرئيس قيس سعيد في إجراءاته الأخيرة، لم تكن تتوافق مع الحالة التونسية.
"الخطر الداهم والظرف الاستثنائي" الذي استند إليه الرئيس قيس سعيد في إجراءاته الأخيرة، لم تكن تتوافق مع الحالة التونسية.
كما ينقل أستاذ القانون الدستوري عبد الحميد العواك، أن الخطر المهدد لكيان الوطن هو خطر مهدد لبقائها، سواء كان هذا الاعتداء ينصبّ على إقليمها الجغرافي بالتوسع العدواني على حساب أراضيها، أو خطرا يتهدد مواطنيها من خلال زعزعة الوحدة الوطنية، أو الأضرار الاقتصادية الكبيرة التي تنتج عنها الأزمات الاقتصادية.
وهو ما لم يتوفر في حالة الإعلان الأخير.
ردود الفعل المحلية والإقليمية، وإن كانت لم يُعلن عنها حتى الآن بشكل كامل وخاصة على صعيد الدول، إلا أن خروج الرئيس قيس سعيد عن المسار الذي قطعت فيه جميع المؤسسات في تونس شوطاً للحفاظ على الديمقراطية، لا يخرج عن كونه مدعوما من دول إقليمية نفذت نفس السيناريو.
توجهت الكثير من الأنظار إلى دولة الإمارات التي صرح قادتها مرات عديدة خلال الآونة الأخيرة بضرورة التخلص من حركة "النهضة"، أياً كان الثمن حتى لو كان في تنفيذ مخطط إنقلابي كما حدث في مصر سابقا.
زيارة الرئيس قيس سعيد إلى مصر 13 أبريل/ نيسان 2021، كذلك منذ ما يقرب من شهرين، تدخل في إطار هذا التنسيق أو الدعم الإقليمي، لما هو معروف من توجه الحكومة في مصر ضد حركة النهضة والتحريض الدائم عليها من خلال أذرعها المختلفة.
إضافة إلى أن موقف مصر لم يخرج بأي إدانات حتى الآن وهو أمر مستبعد الحدوث؛ لأن إعاقة عمل حركة النهضة يعتبر ضمن المكاسب السياسية لمصر.
في رؤيته كذلك للحدث، رأى الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، أن انقلاب تونس الأخير هذا لم يكن يحدث بدون هذا الدعم الإقليمي.
وأشار لوجود قرار إقليمي تقوده الإمارات بتصفية ثورات الربيع العربي، وشدد على أن الحماية الخارجية هي التي مكنت الرئيس قيس سعيد من اتخاذه مثل هذه الإجراءات غير الدستورية.
واعتبر المرزوقي ذلك خرقا للدستور يجب مقاومته وإفشاله، وإلا ستدخل البلاد في وضع صعب أمنيا واقتصاديا وسياسيا، ورغم ما هو واقع من خلاف كبير بين المرزوقي وحركة النهضة التي يرى أنها ترتكب أخطاء سياسية بالغة إلا أن تحذيره من الموافقة على الانقلاب يدل على وعي كبير بظروف صعبة قد تتعرض لها تونس.
إلا أن تحذيره من الموافقة على الانقلاب يدل على وعي كبير بظروف صعبة قد تتعرض لها تونس.
الموقف الذي يتعلق بحركة النهضة، برئاسة راشد الغنوشي زعيم الحركة ورئيس البرلمان الذي تم تعطيله، وفقا للقرارات الأخيرة، كان موقفا رافضا بشكل قاطع لقرارات الرئيس.
إذ اعتبرها انقلابا على الشرعية الدستورية كذلك، وفي تعليق للغنوشي عقب هذه القرارات أشار إلى أن المؤسسات ستظل تمارس عملها.
وقال نائب رئيس حركة النهضة، علي العريض: ليس لدينا معلومات سابقة أو حالية حول هذا الموضوع لكن بشكل عام، الدستور هو الحكم، من احترمه سنحترمهُ ومن يخرقه أو انقلب عليه فلن نقبل بذلك. وأكد أن الحركة مستمرة في الدفاع عن الديمقراطية التي ناضلوا من أجلها.
المؤشرات التي تتعلق بحركة النهضة لم تتجاوز إلى الآن سوى تصريحات رافضة دون الإفصاح عن مقترحات للخروج من الأزمة أو التواصل مع الرئيس، ودون إبداء نوع من التفاهم حول هذه القرارات، سوى إعلان الرفض والاعتصام أمام البرلمان، وفقا لتحركات الغنوشي الأخيرة.
تم رصد تحركات أمام البرلمان التونسي صباح 26 يوليو/ تموز 2021، باليوم التالي للقرارات الرئاسية، في محاولة لدخول البرلمان لإعادة انعقاده، ولكن ذلك قوبل بالتصدي من قبل قوات الأمن، مما قد يحدث معه مواجهات عنيفة حال الإصرار من قبل الطرفين.
وقال الغنوشي أمام باب المجلس: "أنا رئيس مجلس نواب الشعب أقف عاجزا عن دخول المؤسسة التي أرأسُها".
ودعا الغنوشي نواب المجلس إلى الالتحاق بمقره واعتبار أنفسهم قائمين بواجبهم في المكان الذي وضعهم فيه الشعب وهو البرلمان.
كما تم رصد الاعتداء على بعض الصحفيين أمام مقر مجلس النواب، إضافة لإغلاق قوات الأمن مكتب الجزيرة مباشر في تونس، وأدانت منظمة مراسلون بلا حدود اقتحام مكتب الجزيرة بتونس واستنكرت نقابة الصحفيين في النرويج ما أقدم عليه الأمن التونسي وطالبت باحترام حرية الإعلام.
الاعتداءات على الصحافة ومنع التظاهر، بادرات تشير إلى احتمالية حدوث عنف خلال الفترة القادمة، قياسا على السلوك المعتاد من قبل الجيش وقوات الأمن في مثل هذه الظروف.
خاصة وأن قيس سعيد أصدر قرارا بتكليف المدير العام لوحدة الأمن الرئاسي خالد اليحياوي بالإشراف على وزارة الداخلية.
كما تُعتبر تصريحات قيس سعيد، بأن من يطلق رصاصة واحدة سيتم مواجهته بوابل من الرصاص، ضمن إطار احتمال حدوث التصادم والعنف.
فمن المتوقع أن يتم افتعال أزمات وتدخل مجهولين ليتم من خلالهم قمع الثوار أو المعارضين لهذه القرارات، كما حدث في النموذج المصري من قبل.
الأطراف الداخلية في تونس، لم تعلن جميعها عن موقفها بشكل واضح إلى الآن من الإجراءات الأخيرة التي اتخذها الرئيس قيس سعيد.
إلا أن بعض التكتلات والشخصيات رفضت هذه القرارات واعتبرتها انقلابا، ولكن لم يُتخذ قرار جماعي إلى الآن لمواجهة هذه القرارات.
حزب "قلب تونس" الذي يترأسه رجل الأعمال نبيل القروي، عبرت كتلته النيابية، الثانية من حيث الوزن البرلماني، أيضا عن أن القرارات المتخذة من قبل سعيّد "هي خرق جسيم للدستور وأحكام الفصل الـ(80) وأسس الدولة المدنية، وتجميع لكل السلطات في يد رئيس الجمهورية والرجوع بالجمهورية التونسية للحكم الفردي.
كما طالبت كتلة الحزب الذي يشكل أحد الأضلاع الرئيسة في الائتلاف الحاكم، رئيس الحكومة بتولي مهامه الشرعية وتفادي إحداث فراغ في مؤسسة رئاسة الحكومة.
كما أصدر التيار الديمقراطي موقفه من القرارات الأخيرة، وقال المكتب السياسي للحزب وكتلته النيابية في بيان: إنه يختلف مع تأويل السيد رئيس الجمهورية للفصل (80) من الدستور ويرفض ما ترتب عنه من قرارات وإجراءات خارج الدستور.
الاتحاد العام التونسي للشغل، وهو صاحب الكتلة الكبيرة الذي يؤثر بقراره في حركة الشارع أو تحالفات المعارضة، لم يسرع في الخروج ببيان للتعليق على القرارات الأخيرة، ربما لتوافق أجندته السياسية مع هذه التطورات.
خاصة في حال غياب حركة النهضة عن المشهد السياسي، والتي تمثل أيديولوجية بعيدة عن توجهاته مما يمكنهم في المساهمة في صياغة الحياة السياسية الجديدة.
وبعد فترة من الترقب، أصدر الاتحاد الذي يمثل المركزية النقابية في البلاد، بيانا بشأن قرار الرئيس قيس سعيّد، ولم يرحب الاتحاد بقرارات سعيّد لكنه لم يندد بها.
وطالب الاتحاد بضمانات دستورية وجدول زمني لتطبيق هذه "الإجراءات الاستثنائية" معبرا عن رفضه لجوء أي من الأطراف للعنف.
وبالرغم من أنه لا يمثل حزبا سياسيا، إلا أن الاتحاد كثيرا ما لعب أدوارا سياسية حاسمة في محطات كثيرة في تاريخ البلاد بفضل قدرته على ضبط السلم الاجتماعي بالخصوص.
يأتي موقف الاتحاد بعد فترة قصيرة من لقاء أمينه العام نور الدين الطبوبي برئيس الجمهورية في اليوم التالي للبيان، ويعتبر ضمن دائرة القبول بهذه القرارات والتوافق مع المسار الذي حدده الرئيس قيس سعيد.
مؤسسة مجلس النواب كذلك والذي تم تعطيله بحكم الإجراءات الأخيرة، أعلن في بيان له أنه لا زال في حالة انعقاد، رافضا هذه الإجراءات.
وربما تؤتي مثل هذه الخطوات أكلها حال الارتكاز على سند شعبي قوي أو تدخل خارجي مؤثر، وهو ما لم تتبين ملامحه حتى الآن، أما مجرد الرفض فليس من المتوقع أن يجبر الرئيس على العودة عن هذه القرارات.
التحرك الشعبي كذلك، وهو الفيصل في هذا الأمر إلى الآن لم تتحدد بوصلته وفي أي اتجاه سوف يسير الشارع التونسي، وربما تؤكد الأيام القادمة شيئا من ذلك.
الموقف الدولي من هذه القرارات لم يكن بالشكل الأكثر وضوحا، إذ جاءت أغلب البيانات تعبر عن حالة من "القلق" إزاء ما يحصل في تونس أو حالة إدانة له.
في حين جاءت بعض البيانات الموافقة له، مع الأخذ في الاعتبار أن الدول لا زالت في حالة ترقب لما قد يحدث في الساعات المقبلة.
تركيا استنكرت الإجراءات التي قام بها الرئيس قيس سعيد، إذ وصفتها بأنها "تعليق العملية الديمقراطية في تونس"، من خلال بيانات على لسان المتحدث باسم الرئاسة التركية، والخارجية التركية، التي أعربت أيضاً عن قلقها من تعليق البرلمان الذي يمثل إرادة الشعب.
الموقف التركي يتسم أكثر بالوضوح في استنكاره للقرارات الأخيرة، وهو الموقف الذي اعتادت السياسة التركية عليه حيال مثل هذه المواقف في البلاد العديدة.
ومن المنتظر أن تترقب كذلك الحكومة التركية ما سيجري خلال الأيام القادمة بحيث لا تتخذ موقف العداء مع دولة جديدة في ظل هذه التجاذبات السياسية العديدة التي تحاول الخروج منها، وخاصة في محيطها العربي.
موقف الدول العربية الرسمي وإن كان غير معلن إلى الآن إلا أن الأجندة السياسية التي تتبناها الدول الأبرز في ساحة التأثير السياسي العربي تقف مع قرارات الرئيس سعيد، وذلك لإزاحة أي حركة قريبة من جماعة الإخوان المسلمين عن المشهد السياسي العربي برمته.
وفي إطار اللغة السياسية القطرية المعهودة بالاتزان بعض الشيء، أصدرت الدوحة بيانا يعبر عن القلق دون الرفض، طالبت خلاله الأطراف التونسية أن تنتهج طريق الحوار لتجاوز الأزمة وتثبيت دعائم دولة المؤسسات وتكريس حكم القانون في الجمهورية الشقيقة.
جاء موقف الكثير من الدول العربية، بعد ذلك، يفيد بالتواصل مع الخارجية التونسية ويدعو للتوصل إلى الهدوء والاستقرار في تونس.
حسب ما أصدرته أغلب دول الجامعة العربية من بيانات، وهي لا شك تدخل في الحقيقة ضمن إطار التأييد الكامل لهذه القرارات.
وفي أول رد فعل من واشنطن أعربت أميركا عن قلقها إزاء التطورات في تونس، واتخذت موقفا حذرا لم يتسم بحسم الموقف في اتجاه ما، وهو ما يمكن أن يشير إلى ترقب حالة الاستقرار في تونس، دون معارضة هذه القرارات.
وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي: "حتى الآن لا يمكننا توصيف ما إذا كانت قرارات الرئيس التونسي انقلابا، وإن أميركا قلقة إزاء تطور الأحداث في تونس في الوقت الذي تسعى فيه البلاد لتحقيق الاستقرار الاقتصادي ومحاربة وباء كورونا".
وأخيرا، يظل التحدي القائم خلال الأيام المقبلة في تونس، هو التمسك بالدستور والوقوف على أرضية راسخة من الديمقراطية، سواء بالتوافق حول مسار معين للحوار أو اللجوء إلى انتخابات مبكرة، وإلا فسيتكرر سيناريو الحكم الفردي المطلق في تونس مرة أخرى.
المحور الثالث: الاقتصاد العربي
بدأت شرارة ثورات الربيع العربي، في تونس خلال ديسمبر/ كانون الأول 2010، مرتبطة بمشكلة البطالة، للمواطن التونسي محمد بوعزيزي، الذي أشعل النار في نفسه، اعتراضا على الإهانة التي تلقاها على يد شرطية، عندما اعترض على مصادرة البلدية عربة يد يبيع عليها الخضروات والفاكهة، وكانت مصدر رزقه الوحيد.
ومع نجاح ثورة تونس، وإزاحة زين العابدين بن علي من رئاسة البلاد، مرت تونس بأحوال سياسية واقتصادية غير مستقرة، أثرت بشكل كبير على أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، فتفاقم عجز الموازنة، وارتفعت معدلات الديون المحلية والخارجية.
ولم يكن الأمر ليخلو من دور للدولة العميقة لإعاقة الثورة التونسية، وسيرها على خُطى الإصلاح السياسي والاقتصادي.
ثم أتت أزمة "كورونا" عام 2019، لتلقي بظلال سلبية على أداء الاقتصاد التونسي، الذي يعتمد على السياحة بشكل كبير، مما أدى لتصدع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية هناك، وأرهق الوضع المالي العام للحكومة التونسية.
إلا أن الخطر الأكبر الذي تعرضت له تونس مؤخرا، مساء 25 يوليو/ تموز 2021، بانقلاب قيس سعيد الرئيس التونسي، على مقدرات الدستور، وتجميد عمل البرلمان، وحل الحكومة، وضع تونس على مسار مجهول بشكل عام، وفي المجال الاقتصادي بشكل خاص.
ونظرا لتكرار الانقلابات العسكرية في المنطقة العربية، سواء في دول ثورات الربيع العربي أو غيرها، فنرى أنه مناسب أن يرصد التقرير في يوليو/ تموز 2021، التداعيات الخاصة بالانقلاب في تونس على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بها.
الملامح العامة للاقتصاد التونسي
تعد تونس واحدة من الدول النامية، والتي تعتمد في اقتصادها على إنتاج المواد الأولية، وأبرزها الفوسفات، وكذلك تعتمد على النشاط الريعي، من خلال مجال السياحة، والذي يعد أحد أهم مصادر النقد الأجنبي في تونس.
وعلى مدار الفترة من 2010 وحتى عام 2020، لوحظ أن أداء الناتج المحلي لتونس، كان الأفضل خلال عام 2014، وبلغ نحو 47 مليار دولار، وهو ما فاق الناتج المتحقق خلال عام 2010، إذ كان الناتج بحدود 44 مليار دولار.
لكن بعد عام 2014، انخفضت قيمة الناتج، وفي عام 2019 وصل إلى 39.20 مليار دولار، ثم تحسن بشكل طفيف جدا في عام 2020، ليصل إلى 39.24 مليار دولار.
ونظرا لظروف جائحة "كورونا" خلال عام 2020، فإن معدل النمو الاقتصادي هناك تأثر سلبيا بنحو 8 بالمئة.
إلا أن الدين الخارجي لتونس، لوحظ أنه ارتفع إلى 37.7 مليار دولار في عام 2019، بعد أن كان بحدود 22.5 مليار دولار بنهاية 2010.
ويرجع تفاقم الدين الخارجي لتونس، إلى سوء إدارة الوضع المالي للحكومة، وعدم وجود إصلاح اقتصادي حقيقي، وعرقلة الدولة العميقة لأي جهود للإصلاح الاقتصادي، من خلال رفع المطالب الفئوية، وتعطيل المؤسسات الإنتاجي.
ولا أدل على ذلك أن ينشر بعد انقلاب قيس سعيد، أنه لأول مرة منذ عام يتم استعادة تصدير الفوسفات عبر القطار، بعدما جرى تعويق عمل السكك الحديدية من خلال الاضطرابات.
- الفقر والبطالة
مع بداية ثورة تونس نهاية عام 2010 بلغ معدل البطالة 13 بالمئة، إلا أنه بعد عام من الثورة ارتفع معدل البطالة بشكل كبير ليتجاوز سقف 18 بالمئة، وذلك بسبب حالة السيولة الاقتصادية، وترقب رؤوس الأموال، وانتظار الداخل والخارج لما ستؤول إليه الأوضاع السياسية.
وفي عام 2014 انخفض معدل البطالة ليكون بحدود 15 بالمئة، إلا أن عام 2020 شهد ارتفاع معدل البطالة في تونس مرة أخرى ليصل إلى 16.6 بالمئة، وبلا شك أن عودة ارتفاع معدلات البطالة في عام 2020، يرجع بشكل رئيس على التداعيات السلبية لجائحة "كورونا".
وعن الفقر في تونس نشر المعهد الوطني للإحصاء خريطة للفقر هناك، أظهرت تفاوت معدلات الفقر داخل المناطق التونسية، وانخفاض الفقر بمعدلات كبيرة في العاصمة تونس، ليصل إلى 2.5 بالمئة، بينما ارتفع في مناطق أخرى ليتجاوز 50 بالمئة كما هو حال مناطق "جديلان" و"العيون".
إلا أنه بشكل عام وفي ظل جائحة "كورونا"، ذهبت تقديرات الفقر في تونس إلى أن معدله وصل إلى 19.2 بالمئة بين أفراد المجتمع، مقارنة بـ 15.2 بالمئة قبل الجائحة، وأن أزمة كورونا تسببت في وقوع نحو 475 ألف تونسي تحت خط الفقر.
- الميزان التجاري
ولم تكن تونس بأفضل حال من الدول العربية، فيما يتعلق بالصادرات والواردات السلعية، إذ كانت ولازالت تعاني من عجز في الميزان التجاري.
ففي عام 2010، كان العجز في الميزان التجاري بنحو 6 مليارات دولار، وكانت الصادرات السلعية 16.4 مليار دولار، بينما الواردات السلعية عند 22.2 مليار دولار.
لكن بعد ما يزيد عن 10 سنوات من الثورة التونسية، كانت الصادرات السلعية عند 13.8 مليار دولار، بينما الواردات السلعية بحدود 18.3 مليار دولار، أي أن العجز في الميزان التجاري بلغ 4.5 مليار دولار.
وتتسم التجارة الخارجية لتونس، بخلل هيكلي، وتعاني من إنتاج السلع الأولية ذات القيمة المضافة الضعيفة، بينما تعتمد على الواردات السلعية، التي تغلب عليها العدد والآلات، ووسائل النقل، ومستلزمات الإنتاج الضرورية.
وتغيب تونس عن إنتاج التكنولوجيا أو النجاح في توطينها، وتشهد تونس نفس الظاهرة السلبية للبلدان العربية، وهي العقول المهاجرة، فضلا عن غياب مشروع للتنمية.
كذلك ضعف مساهمة القطاع الخاص، واعتماده على مشروعات الربح السريع، وعدم مساهمته في تطوير البحوث والتطوير، أو إيجاد جسر بين الجامعات ومراكز البحوث من جهة والقطاعات الإنتاجية المختلفة من صناعة وزراعة من جهة أخرى.
- احتياطي النقد الأجنبي
كان رصيد تونس من احتياطي النقد الأجنبي مع نهاية عام 2010، بحدود 9.7 مليار دولار، ولكن في عام 2018 انخفض هذا الاحتياطي ليصل إلى 5.6 مليار دولار، ولكن بنهاية عام 2020، ارتفع الاحتياطي مرة أخرى ليصل إلى 9.8 مليار دولار.
لكن هذا التحسن في الاحتياطي، ليس وليد موارد ذاتية، ولكنه تحقق من المديونية الخارجية، والتي يستهدف منها البنك المركزي تقوية الاحتياطي الأجنبي للحفاظ على سعر العملة المحلية.
-
تراجع المؤشرات الاقتصادية
كان رد الفعل الأولي للانقلاب السياسي في تونس، أن تراجعت العديد من المؤشرات الاقتصادية، وبخاصة المالية منها، فكانت السندات التونسية في السوق الدولي، هي الأسرع في التأثير السلبي، وانخفضت بنحو من (4 - 5 بالمئة).
وبلا شك أنه في هذه الحالة سوف تزيد قيمة التأمين على الديون الخارجية لتونس خلال الفترة المقبلة، بسبب عدم استقرار الأوضاع السياسية.
وبعد تعقد المشهد السياسي بتونس، يظل الوضع المالي مؤرقا، بعد أن وصل الدين الخارجي لأكثر من 30 مليار دولار، وثمة حاجة ملحة لتدبير قروض، لأمرين مهمين، سداد التزامات خارجية تتمثل في أقساط ديون، وكذلك تمويل عجز الموازنة لنفقات ضرورية.
وكذلك البورصة، تأثرت سلبا بسبب الانقلاب السياسي الذي نفذه الرئيس التونسي، إذ كسى اللون الأحمر البورصة التونسية، التي تراجعت فيها أسهم نحو 25 شركة، وحافظت نحو 15 شركة على أسعارها.
وربما تزيد معاناة البورصة، بعد اللهجة التهديدية للرئيس سعيد لرجال الأعمال، واتهام بعضهم بالحصول على أموال ليست من حقهم، وأنه عازم على مقاضاتهم ما لم يرجعوا هذه الأموال للدولة.
ولا يستبعد في ظل هذه الأجواء أن تحدث حالة من الخوف من قبل المدخرين، والسعي للاحتفاظ بالمدخرات خارج الجهاز المصرفي، كما سيسعى البعض لخروج أموالهم للخارج.
وهذا بدوره سوف يزيد من الطلب على العملات الصعبة، مما يؤدي إلى انخفاض العملة المحلية.
وتبقى حالة الترقب على الصعيد الاقتصادي، بانتظار التطورات الاقتصادية، وهو ما يعرقل النشاط الاقتصادي بشكل كبير، ويكون المتضررون منه بشكل رئيس هم طبقة الفقراء، والعمالة غير الرسمية.
-
مصير مجهول للمفاوضات مع صندوق النقد
على الرغم من الأجندة السلبية لصندوق النقد الدولي، على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس، منذ نجاح ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2010، إذ جرى إبرام أكثر من اتفاق للحكومات التونسية مع الصندوق، وحصلت تونس بموجبها على عدة قروض.
إلا أن الوضع المالي لتونس، معرض لأزمة حاليا، بسبب حاجة البلاد لتمويل خارجي يقدر بنحو 7 مليارات دولار.
وكانت حكومة المشيشي، خاضت مفاوضات مع صندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على التمويل اللازم لعام 2021، وكانت هذه المفاوضات تتضمن تقليص الدعم الحكومي، وكذلك تقليص نفقات الرواتب والأجور هناك.
كانت مفاوضات حكومة المشيشي للحصول على قرض من صندوق النقد بنحو 4 مليارات دولار، لبرنامج يمتد لنحو 3 سنوات، بعد أن وصل عجز ميزان المعاملات الجارية إلى 7.1 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي، بنهاية عام 2020.
والمعلوم أن صندوق النقد الدولي، يعول كثيرا على قضية الاستقرار السياسي، لاستكمال المفاوضات أو بدئها، مع أية دولة.
وناشدت عدة وكالات للتصنيف الائتماني الرئيس التونسي، بالعدول عن قراره وعودة المؤسسات، بينما قيس ماض في طريقه وكل يوم يتخذ من القرارات ما يعقد المشهد في تونس.
ولذلك يتوقع أن يتأخر وصول تونس لاتفاق مع صندوق النقد الدولي، بسبب عدم استقرار الوضع السياسي في تونس.
ما يحمل الرئيس التونسي مسؤولية تدبير الوضع المالي للخروج من المأزق الحالي، ويتوقع أن يلجأ للداعمين الخليجيين لانقلابه، للحصول على بعض المساعدات، أو القروض من خلال الودائع بالبنك المركزي التونسي، للتصرف فيها، وذلك استئناسا بما جرى مع مصر عام 2013.
-
علام يعول الانقلاب في إدارة الاقتصاد
التجارب السابقة في المنطقة العربية، تعطينا عدة مؤشرات، وبخاصة أن داعمي الانقلابات السابقة في المنطقة العربية، هم نفس داعمي انقلاب قيس سعيد في تونس. فسيعتمد الانقلاب في الأجل القصير على إطلاق الدولة العميقة أدواتها.
وذلك لمساعدة الانقلاب وتشغيل كافة المؤسسات الحكومية، لتكون طوع أمر قائد الانقلاب ومسؤوليه، والتجهيز لمجموعة من الإحصاءات والأرقام، التي تظهر أن ثمة تقدما ملحوظا في الواقع الاقتصادي والاجتماعي، لمجرد وقوع الانقلاب وإزاحة النظام الديمقراطي.
وهو ما لمسناه في تونس عن الأرقام الخاصة بالإصابات والوفيات المتعلقة بجائحة فيروس كورونا. وكذلك انطلاق تصدير الفوسفات عبر السكك الحديدية التي توقفت عن العمل منذ عام مضى.
كما سيتم التعامل مع آليات السياستين النقدية والمالية في تونس، بما يؤدي إلى خدمة مشروع الانقلاب، من حيث سهولة الحصول على القروض المحلية، وتخفيض سعر الفائدة، والعمل على تجميع العملات الصعبة من المؤسسات الحكومية، والهيئات العامة المختلفة، لتكون تحت تصرف البنك المركزي.
وذلك للمساعدة في سداد الالتزامات الحكومية من جهة، ومن جهة أخرى المساعدة في حماية سعر الصرف.
كما سيتم الحصول على مساعدات مادية وعينية من دول الخليج الداعمة للانقلاب، والتي على رأسها الإمارات والسعودية، وبخاصة بعد اتصال وزير الخارجية في الإمارات عبدالله بن زايد، بنظيره في تونس عثمان الجرندي، وإعلانه دعم الإمارات لتونس في كافة المجالات الصحية والاجتماعية والاقتصادية في الوقت الحالي.
وثمة حالة من دغدغة مشاعر أفراد المجتمع، بالحديث عن قضايا فساد كبرى، تم الكشف عنها ومحاسبة مرتكبيها، بما يعطي إحساسا لأفراد المجتمع، بأن ثمة تحسنا منتظرا في إدارة المالية العامة للبلاد، وبما ينعكس على مستوى المعيشة لأفراد المجتمع.
وربما يجري التنكيل ببعض رموز القطاع الخاص، لتمرير هذا السيناريو، ولكن لن يفضي إلى شيء ملموس، من شأنه أن يعدل الوضع المالي للحكومة أو الأفراد.
وسوف تتأهل تونس في ظل الانقلاب، لبرنامج طويل الأجل مع المؤسسات المالية الدولية، وكذلك الحصول على المزيد من القروض من المؤسسات الإقليمية، أو السوق الدولية للسندات.
-
مستقبل الاقتصاد في ظل الانقلاب
ثمة سمات مهمة لكي يؤدي أي اقتصاد بصورة سليمة، ويتمكن من النهوض بالمجتمعات، فلا بد من أجواء صحية لنظام ديمقراطي، ومناخ يتمتع بالحريات.
وكذلك سلطة تشريعية، يمكنها الرقابة على الحكومة، في تنفيذ مشروع تنموي حقيقي، ومكافحة الفساد داخل أروقة المجتمع بشكل عام، وداخل الأروقة الحكومية بشكل خاص.
ولكن تونس في ظل انقلاب قيس سعيد، سوف تفتقد هذه المقومات، وربما تعود إلى نفس أجواء عهد بن علي، في الصعيد السياسي، على الرغم من الرجاءات المتكررة من خارج تونس، بضرورة عودة المؤسسات الديمقراطية، وبخاصة البرلمان، والحكومة المنتخبة.
لقد بدأت موجات الاعتقال لنواب سابقين بالبرلمان، وتوجيه تهم لهم بإهانة الجيش، وغيرها من التهم الجاهزة، وذلك لوجود مبررات لوأد الديمقراطية، والحياة النيابية في تونس.
سوف تبقى تونس كما هي دولة نامية، تعتمد على إنتاج السلع الأولية، وكذلك الأنشطة الريعية، وبخاصة في قطاع السياحة، بما يجعل مشروع الاستقلال الاقتصادي والسياسي بعيد المنال، وتكون تونس دولة تعاني من التبعية بصورها المختلفة.
كما سيتجه النظام هناك، لمعاودة الإنفاق على التسليح والدفاع، وإطلاق يد الجيش في مقدرات الاقتصاد، على حساب الإنفاق على الصحة أو التعليم، أو البنية الأساسية، وكذلك سيلاحظ مزاحمة من قبل الجيش للقطاع الخاص في النشاط الاقتصادي.
أما عن هجرة الشباب التونسي، فسوف تزداد خلال الفترة القادمة، بسبب الأوضاع الاقتصادية، التي ستشهدها تونس في ظل الانقلاب، والتي سيكون من نتيجتها، تقلص أو محدودية فرص العمل، وكذلك توفر دخولا محدودة، لا تحقق آمال الشباب في تونس، نحو الاستقرار وتكوين أسر جديدة.
حالة الانسداد السياسي التي أوجدها انقلاب قيس سعيد، سوف تصيب الشباب بالإحباط، وتقتل طموحه في مختلف المجالات، لأنه يسترجع سيرة نظام بن علي الذي قامت عليه الثورة في عام 2010، بما يحمله ذلك من انطباعات شديدة السلبية.
كما سيظل التعليم على أدائه التقليدي، وانعزاله عن متطلبات القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة، ولن يكون هناك ربط بين مؤسسات التعليم المختلفة واحتياجات سوق العمل.
وسيظل وجود مشروع لمساهمة التعليم في إنتاج التكنولوجيا وتوطينها، بعيدا عن اهتمامات المؤسسة التعليمية.
المحور الرابع: الحالة الفكرية
يتناول المحور الفكري لهذا الشهر موضوعين، هما: أولا: الاستقلال الثقافي والحضاري للأمة، كأحد الموضوعات ذات الأهمية التي تناولتها بعض الأقلام خلال يوليو/ تموز 2021.
موضوع "الاستقلال الثقافي والحضاري للأمة"قضية ليست جديدة، وإنما يتم تناولها من منطلق الإيمان بثوابت أمتنا ومقوماتها، وعوامل رقيها ونهضتها، حتى تتعلم الأجيال هذه المعاني التي صارت شبه غائبة في ظل التحدي الحضاري الغربي الذي أصبح يسيطر على حياتنا الفكرية والثقافية والمادية، الخطر الأعظم على الأجيال، والذي يهدد الانتماء، ويُضعف الهوية، ويقضي على الأخلاق.
ثانيا: الإمام محمد عبده رائد الإصلاح (ذكرى وفاته: 11 يوليو 1905) ومن الموافقات المحمودة أن يرتبط هذا الموضوع بالذي قبله؛ في أن يوافق شهر يوليو/ تموز، ذكرى وفاة أحد كبار الإصلاحيين في الشرق.
هو الشيخ محمد عبده الذي ارتكز في منهجه الإصلاحي على تحرير العقل من الجمود، وإيقاظ وعي الأمة، والتمسك بوسطية الإسلام التي لا تعرف غلو النصوصيين من المسلمين، ولا المتحررين من اللادينيين والمتغرِّبين.
فدعا إلى التسامح مع الأديان الأخرى، وربط بين العلم والشرع، وأكد أن الإصلاح الحقيقي للأمة إنما يكون من خلال نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، وتربيته على القيم والأخلاق الفاضلة. ومازلنا بحاجة إلى الاستفادة من منهجه الإصلاحي في وقتنا الحاضر.
1- الاستقلال الثقافي والحضاري للأمة
لا يخفى على أحد أن أمتنا العربية والإسلامية تعيش حالة من الضعف والوهن، بعد أن سيطر عليها غيرها، فبعد أن كان الاستعمار عسكريا، أصبح الاستعمار ثقافيا وفكريا وحضاريا، وهذا أقوى من الاحتلال العسكري.
ليس هذا فحسب، وإنما صنع الاستعمارُ طبقة تدين له بالولاء، من الحكام والمثقفين والمفكرين، ولهذا أصبح الأمر صعبا على المصلحين والغيورين على حال الأمة الإسلامية واستقلالها الحضاري.
إنه منذ أن بدأ النفوذ الأجنبي السيطرة على العالم الإسلامي (والعالم العربي جزء منه)، كانت هناك حركة سابقة أو موازية للغزو العسكري والسياسي.
هذه الحركة تتمثل في عملين: الاستشراق والتغريب.
أما الاستشراق، فقد كانت الغاية منه أساسا: تمكين الساسة والحكومات والدول المستعمرة من دراسة نفسيات الشعوب، وفهم تيارات فكرها وذوقها وعقلها ودينها، وذلك للوصول إلى الأساليب النفسية والسياسية الكفيلة بالسيطرة على هذه الأمم دون الاصطدام بها.
كتب "المستشرقون" لجماهيرهم آلافا من المقالات، ومئات من الكتب، تناولت كلَّ شيء يخص أمم دار الإسلام في ماضيها وحاضرها.
كتبوا وصنفوا وألفوا؛ لكن لهدف واحد لا غير: هو تصوير الثقافة العربية الإسلامية وحضارة العرب والمسلمين، بصورة مقنعة للقارئ الأوربي، وعلى منهج علمي مألوف لكل مثقف أوربي: أن هؤلاء العرب المسلمين هم في الأصل قوم بداوة جهَّال لا علم لهم كان.
وأنهم جياع في صحراء مجدبة، جاءهم رجل من أنفسهم فادَّعى أنه نبي مرسل، ولفَّق لهم دينا من اليهودية والنصرانية، فصدقوه بجهلهم واتبعوه، ولم يلبث هؤلاء الجياع أن عاثوا بدينهم هذا في الأرض يفتحونها بسيوفهم.
وقامت لهم بعد قليل ثقافة وحضارة جلها مسلوب من ثقافات الأمم السالفة كالفرس والهند واليونان وغيرهم، حتى لغتهم مسلوبة وعالة على العبرية والسريانية والآرامية والفارسية والحبشية.
ثم كان من تصاريف الأقدار أن يكون علماء هذه الأمة العربية من غير أبناء العرب (الموالي)، وأن هؤلاء هم الذين جعلوا لهذه الحضارة الإسلامية كلَّها معنى.
هذا هو جوهر الصورة التي بثها المستشرقون في كل كتبهم عن دين الإسلام، وعن علوم أهل الإسلام وفنونهم وآثارهم وحضارتهم.
غير أن حركة "التغريب" هي التي يمكن أن يقال إنها تهدف إلى التأثير في فكر الشعوب الإسلامية العربية، وتحويله وتغيير مفاهيمه للقيم، ثم تغيير هذه القيم أيضا، وإثارة الشكوك في الحقائق الواضحة، وخلق شبهات وريب حول دين هذه الأمم ولغتها وفكرها وتاريخها وتراثها.
وذلك يهدف أساسا إلى خلق جو فكري ونفسي من العداء والخصومة بين هذه الأمم وبين منابع فكرها وجوهر تراثها، وخلق جيل جديد ينفر من هذه القيم والمقومات والمفاهيم، ويغالي في إنكارها والزهد فيها، والتنكر لها، ورفضها.
ثم يتطور العمل –وفق خطط مدروسة– إلى إحلال مفاهيم وقيم جديدة ترتبط بالإعجاب والتقدير للفكر الغربي وآثاره، وللأعلام من الغرب وتقدير بطولاتهم، وخلق جو من التسامح بين النفوذ الأجنبي والأمم المغلوبة باسم "الدعوات الإنسانية والعالمية والأممية وحقوق الإنسان".
وتوهين الدعوة إلى الكفاح من أجل الحرية واستقلال الفكر؛ وبذلك تنهار عمليات المقاومة والتجمع والجهاد، وتبدو روح التسليم والانهزام أمام القوى الأجنبية، في ظل الصداقة والترابط والإعجاب، والإيمان بأنه لاسبيل للأمم الشرقية إلا أن تلقي بنفسها في أحضان الغرب وهذه هي الغاية التي يهدف إليها.
التغريب: "التسليم بالنفوذ الغربي، بعد القضاء على كل مقومات الفكر العربي الإسلامي، التي تؤمن بالحرية والمقاومة للغاصب".
وهدف دعوة التغريب أساسا هو العمل على استبقاء سلطان النفوذ الأجنبي قائما في العالم الإسلامي.
ولما كان هذا النفوذ لا يمكن أن يقوم ويستمر في ظل المقومات الأساسية للفكر الإسلامي الذي قاوم كل غزو وقضى على كلِّ غاصب، خلال 1400 عام، ولما كانت هذه المقومات هي العامل الأساسي لهذه المقاومة، فقد كان عمل" التغريب" هو تفكيك هذه المفاهيم.
وكذلك تجزئتها وضربها وإثارة الشكوك حولها، وخلق أجواء مختلفة من الريبة والشبهات، بحيث لا تصمت هذه الحرب ولا تقف، وتظل تتفاعل مع الفكر العربي حتى تتحق غايتها.
كانت هذه الحركة الاستشراقية التغريبية أعلم منا، يومئذ، بتراثنا، وألحت على عقل أمتنا ووجدانها بالمقولة التي تزعم أننا أمة غير متميزة حضاريا، فتراثنا العربي-كما زعمت– فقير في الخَلْق والإضافة والإبداع.
وعقلنا العربي عاجز عن التفلسف والفكر المركب، وليس لأسلافنا غير فضل النقل والحفظ لتراث الأمم التي تقدمتنا كاليونان، ومحاكاة تراث الفرس والهنود.
ولم يكن هدف هذه المقولة الاستشراقية هو فقط تثبيط الهمة وفَلُّ العزيمة، وإذلال النفس العربية الإسلامية؛ بل كان الهدف أبعد من ذلك وأكثر خطرا.
كان الهدف: استخدام كل ذلك للوصول إلى مقولة ثانية تزعم أن التمايز الحضاري، ومن ثم الاستقلال الحضاري هو في الأساس ومن حيث المبدأ مجرد أكذوبة، لم يعرفها التراث ولم يشهدها التاريخ، ومن ثم فلا جدوى من جعله هدفا لنضالات الحاضر والمستقبل.
فالحضارة واحدة، وهذه الحضارة الواحدة هي الحضارة" الإنسانية"، كانت قديما يونانية، ثم "نقلها" العرب والمسلمون إلى الأوربيين الذين أسسوا عليها حضارتهم الحديثة التي هي حضارة العصر"الإنسانية" الوحيدة.
فأوربا هي "المركز" كانت كذلك قديما وأيضا في الحديث، ومن ثم، فما على الذين يريدون أن "يتحضروا" إلا السعي إلى اللحاق بهذه الحضارة الأوربية الغربية؛ بجعل "عقلهم" و"وواقعهم" امتدادا" لعقل" أوروبا و"واقعها" أو "عقل الغرب وواقعه".
وما لدينا من "قيم" و"رؤى" و"تصورات"، بل"معتقدات"، زعموه داخلا في نطاق "التخلف" الذي يجب التخلي عنه.
لقد أرادوا لأمتنا الانسلاخ عن جوهرها، وسمو هذا الانسلاخ "تحضرا" و"تحديثا"؛ لأنهم رأوا –بتجربتهم وذكائهم– أن هذا الجوهر الذي يميز أمتنا هو "قوة الطرد المركزية" التي ستحرك الأمة في اتجاه الاستقلال الحقيقي والتحرر من سيطرة الاستعمار .
فحضارتنا حضارة إسلامية قوامها التوحيد الديني، والتَّوحد القومي، هكذا تميزت حضارتنا، عندما أصبح "التوحيد" هو روحها العظيم.
-
الإمام محمد عبده رائد الإصلاح (ذكرى وفاته في 11 يوليو 1905)
كان الأستاذ الإمام محمد عبده (1266-1323هـ = 1849-1905م) رائدا فذا من رواد الإصلاح والتنوير، وعلما من أعلام الدعوة إلى التجديد على أكثر من صعيد، ليس في مصر وحدها، وإنما في العالمين العربي والإسلامي.
يقول عنه الدكتور محمد عمارة: "إنه أعظم العقول الإسلامية الحديثة التي وَهبت جل طاقاتها لتجديد الفكر الإسلامي، ولجلاء ركام البدع والخرافات والإضافات عن أصول الإسلام، وهو أعظم أركان التجديد الديني، في عصرنا الحديث، على الإطلاق.. .
ويقول عنه الأستاذ العقاد: "أعظم مَنْ أنجبته القرية ونهض برسالة الأزهر في عصره، عبقري الإصلاح والهداية محمد عبده، قدَّس الله روحه، وأعاننا على التعريف بفضله والتعريف بواجبنا من بعده.
ويمكن للقارئ أن يرجع إلى سيرة حياته ونشأته في أكثر من عمل، وعلى رأسها ما كتبه عنه تلميذه السيد محمد رشيد رضا في كتابه "تاريخ الإمام محمد عبده"، وكذلك كتاب "الأعمال الكاملة للشيخ محمد عبده"، للدكتور محمد عمارة.
أما نحن فنركز على الجانب الإصلاحي لديه، وهو الجانب الذي ألَّف فيه عدد من العلماء، ومنهم الدكتور عمارة، الذي خص جهد الإمام في الإصلاح بمؤلف "المنهج الإصلاحي للإمام محمد عبده"، لعلنا نفيد من مرتكزات منهج الإمام في هذه الأزمات التي تمر بها الأمة قاطبة، وهذا الصراع المحتدم بين الحق والباطل.
فكره ومنهجه في الإصلاح
ركز بعض المفكرين الذين تناولوا منهج الإمام محمد عبده الإصلاحي على عدد من المرتكزات الأساسية، من أهمها:
الوسطية
كان الإمام محمد عبده حريصا على تمييز منهاجه في الإصلاح بسمة الوسطية الإسلامية الجامعة؛ بعيدا عن أهل الجمود، وكذلك أهل التقليد للوافد الغربي، وهذه الوسطية التي اختارها لمنهجه الإصلاحي، إنما هي منهاج الإسلام، الذي تميز به عن الغلو الذي أصاب أهل الشرائع الأخرى. "وكذلك جعلناكم أمة وسطا" (البقرة: 148).
وجاءت آثاره الفكرية –نظريا وعمليا– تطبيقا لمنهاج الوسطية الإسلامية للمشروع النهضوي للإصلاح بالإسلام.
الهدايات الأربع
تحدث الإمام محمد عبده عن "الهدايات الأربع"، فقال: "لقد منح الله الإنسان 4 هدايات يتوصل بها إلى سعادته: أولاها: هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري، وتكون عند الأطفال منذ ولادتهم".
والثانية: "هداية الحواس والمشاعر، وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية، ويشارك الإنسان فيها الحيوان الأعجم".
والثالثة: "هداية العقل؛ فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه".
والهداية الرابعة: "الدين، فالعقل يغلط في إدراكه كما تغلط الحواس، وربما يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية والنوعية، ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال، فيجعلها مسخّرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة".
فاحتاج الناس إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم، إذا هي غلبت على عقولهم، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها، ويكفوا أيديهم عما ورائها، فالإنسان في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة وقد منحه الله إياها.
وهذه الهدايات الأربع تزاملت وتكاملت في تحصيل المعرفة الإسلامية –الشرعية والمدنية– فأثمرت الثقافة والمعرفة الإسلامية المتوازنة، الممثلة للوسطية الجامعة في نظرية المعرفة لدى الأستاذ الإمام.
فإذا استطعنا أن نحيي من تراثنا-بالتحقيق والنشر والدراسة- مكتبة تقدم للعقل المعاصر هذه القسمات والهدايات الأربع، نكون فتحنا أوسع الأبواب أمام أمتنا لمعارف العصر، التي تشهد ثورة "كمية وكيفية" غير مسبوقة.
والتي تسهم في تقدمنا ونهوضنا من المأزق الحضاري الذي نعيش فيه، وذلك دونما قطيعة معرفية مع أثمن وأجمل ما في تراثنا الفكري العريق والغني والعميق.
مقام العقل وحدوده
كان العقل ميدانا لمعركة فكرية كبرى وخصبة، خاضها الأستاذ الإمام ضد طرفي الغلو.
غلو "السلفية الحرفية" (الغلو السلفي للوهابية) التي تنكرت لهداية العقل، عندما وقفت عند حرفية النصوص وظواهرها، غافلة عن تعقل المقاصد الشرعية من وراء النصوص.
وغلو "المادية الوضعية الغربية"، التي ألَّهت العقل، وادَّعت "الإطلاق" لمدركاته، رافعة شعار: "التنوير الوضعي الغربي"، القائل: "لا سلطان على العقل إلا العقل وحده".
وهو الشعار الذي يعني الرفض، لأن يكون الوحي والنقل، وكذلك القلب والوجدان من مصادر الهداية والمعرفة النسبية للإنسان، أي الرفض للوسطية الإسلامية الجامعة.
بعد هذا الموقف الرافض والناقد لتياري الغلو الديني والغلو اللاديني، قدم الأستاذ الإمام صياغات فكرية محكمة ومتوازنة، حول السنن الكونية الحاكمة لسير العالم، والارتباط بين الأسباب والمسببات، ومقام العقل وحدوده.
فالعقل له مقام عال وخطر عظيم، لكنه لا يحقق وحده السعادة للإنسان، وإنما لا بد معه من الوحي والنقل الذي يقدم من نبأ الغيب وعوالم الإلهيات ما لا تستقل بإدراكه العقول.
علم السنن والقوانين الاجتماعية
حاكمية هذه السنن -التي لا تبديل لها ولا تحويل– لا تعني الجبرية التي تجرد الإنسان من حريته واختياره، وتسخره لقوانين هذه السنن، إنما تعني أنَّ وعي الإنسان بقوانين هذه السنن وقواعد حركتها، هو الذي يجعل الإنسان قادرا على تسخيرها في الاتجاه الذي يريد.
ذلك أن كل ما في الكون –بما في ذلك السنن والقوانين– هو مسخر من الخالق –سبحانه وتعالى– للإنسان، الذي استخلفه الله لحمل أمانة عمارة هذه الأرض، وفق الشرائع والقوانين التي وضعها الله.
فاكتشاف السنن، والوعي بقوانين حركتها، هو الذي يحقق سيطرة الإنسان عليها، ويجعله قادرا على مغالبتها وتسخيرها في أداء الأمانة التي استخلفه الله للنهوض بها.
في حين أن الغفلة عن هذه السنن هي التي تجعله ضحية لهذه القوانين التي لا تبديل لها ولا تحويل، حتى ولو حسنت نوايا هذا الإنسان.
علاقة الإسلام بالدولة
على الرغم من أن البعض حاول "علمنة" ما قاله الإمام محمد عبده في هذه النقطة -وأخطؤوا في ذلك- فإن الإسلام -كما يراه وقدمه في تراثه الفكري وحياته العملية- دين ودولة، وهو"سبيل الإصلاح"، وهو حل لمشكلات كل العصور في كل المجتمعات، وفي مواجهة التيارات الفكرية الغربية والمتغربة، التي بشرت بالنموذج الغربي العلماني سبيلا للنهضة.
فالدولة –في الإسلام– مدنية، تقيمها الأمة، وتطور مؤسساتها المدنية، و"المدنية" –هنا– ليست اللادينية كما هو حال مضمون هذا المصطلح في القاموس الغربي، وإنما المدنية –هنا- معناها نفي القدسية والكهانة عن "الدولة"، مع بقاء مرجعيته "إسلامية شرعية"، لأن الإسلام دين وشرع.
الأسرة والمرأة
اهتم الأستاذ الإمام في عدد غير قليل من آثاره الفكرية بالأسرة، وركَّز على إصلاحها. بل إن إقامتها على أسس سليمة هو الضمان؛ لتكوين المجتمع والأمة على النحو الذي نريد من جهودنا في الإصلاح، لأن الأسرة هي اللبنة الأولى في هذا البناء الكبير.
وجماع القول في مذهب الأستاذ الإمام -كما يقول العقاد- أنه كان مذهب "المصلح الإسلامي المفكر" الذي أعطى التفكير النظري كل حقه، ولكنه أخذ منه حق العمل على الإصلاح الرشيد المستنير.
واستخلص منه العقيدة الإسلامية خالصة من عقبات الجمود والخرافة، التي تصدها عن التقدم وتقعد بها عن مسايرة الزمن والتأهب للحياة بأهبة العقل البصير والضمير الحر، والكفاية الخلقية والمادية لمناهضة القوة المستطيلة عليها بسلاح العلم والمال.
وأكبر ما استفاده العقل السليم المستنير من فكرة الأستاذ الإمام في الإصلاح والحرية الإنسانية أنه أعاد إليه الثقة بعقيدته في هذا العصر الحديث، ورفع من طريقه إلى العمل عقبات الجمود والخرافة والتقليد.
لأنه زوَّده على قواعد دينه بفلسفة الحياة التي يقابل بها فلسفات الغرب المتسلطة عليه من جهة السطوة أو من جهة الإيمان بالعقائد والآراء.
وكانت ردوده لذلك أهم وأجدى نفعا للمسلم العصري من ردود المدافعين عن الإسلام على جماعة المبشرين المحترفين.
شهادات في حقه:
قال عنه تلميذه وأقرب الناس إليه في عامة أمره وخاصته، صاحب المنار السيد محمد رشيد رضا: "إنه سليم الفطرة، قدسي الروح، كبير النفس، وصادف تربية صوفية نقية زهدته في الشهوات والجاه الدنيوي وأعدَّته لوراثة هداية النبوة، فكان زيته في زجاجة نفسه صافيا يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار".
وافتتح ترجمته بعد وفاته بنحو 20 سنة بقوله عنه: "إن هذا الرجل أكمل مَن عرفت من البشر دينا وأدبا ونفسا وعقلا وخلقا وعملا وصدقا وإخلاصا. وإن من مناقبه ما ليس فيه ند أو ضريب، وإنه لهو السر الأحوذي العبقري".
خاتمة
مثلت القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي، قيس سعيد، مصدر خطر بالنسبة لكثير من المؤمنين بالربيع العربي، إذ أصبحت السلطات الثلاثة في يد فرد واحد، بالتعارض تماما مع ما خرجت من أجله الثورات.
ويعد هذا الحدث فارقا لرمزية تونس، كونها شرارة الربيع العربي، والدولة التي مارست قدرا من الديمقراطية على مدار 10 سنوات، تعثرت فيها تجارب أخرى للانتقال للديمقراطية، كتجارب مصر واليمن وليبيا وسوريا.
لذلك، يتابع الطامحون للتغيير في وطننا العربي الأحداث في تونس بشكل حثيث، على أمل أن يُكتب للتجربة -التي تمثل شعلة أمل لدى قطاع عريض- استفاقة من أزمتها، واستكمالا للمسار الديمقراطي المنشود.