كشف حساب.. كيف خططت حكومة حمدوك لتفكيك الدولة السودانية؟

أحمد يحيى | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

رغم مرور أكثر من قرن على موته، لا يزال محمد بك الدفتردار، مضربا للأمثال في السودان، من حيث القسوة والتنكيل، وهو أحد ثقات مؤسس مصر الحديثة محمد علي باشا، الذي قاد حملة غزو ضد هذا البلد الإفريقي.

مؤخرا شبه الأمين العام للحركة الإسلامية علي الكرتي، قوى الحرية والتغيير، وحكومة رئيس الوزراء السابق عبدالله حمدوك التي جرى حلها، بـ "الدفتردار"، لما فعلوه من انتهاكات وتنمر، على حد قوله. 

وهو ما فتح باب السردية التاريخية للمرحلة القصيرة لحكومة قوى الحرية والتغيير التي بدأت مهامها في 21 أغسطس/ آب 2019، ثم أطيح بها عقب إجراءات رئيس المجلس السيادي، الفريق أول عبدالفتاح البرهان، في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، ومنذ ذلك الحين تندلع المظاهرات والاشتباكات في عموم السودان. 

وانتقاد حمدوك لا يعني بالضرورة أن المسار التي اتخذه العسكر هو ما سيخرج السودان من أزماته، إذ يواجه البرهان اتهامات بإجهاض العملية الديمقراطية واتباع خطى دول عربية تحكم بالحديد والنار كمصر في عهد عبد الفتاح السيسي.

محور التفكيك 

وفي أول ظهور إعلامي له منذ سقوط نظام الإنقاذ 2019، خرج علي كرتي في حوار خاص على قناة "طيبة" السودانية، تفاعلت معه كثير من وسائل الإعلام والصحف السودانية، وتلقته على نحو بالغ الأهمية لما صدر عنه من تصريحات، وصفت بالصادمة والقوية، خاصة ما يتعلق منها بقوى الحرية والتغيير المعارضة، وبأدائهم في الحكم. 

وقال كرتي: " فلننظر إلى ما جرى يوم 25 أكتوبر (إجراءات البرهان)، عندها انهارت هذه المجموعة المتسلطة (اليسار السوداني)، وهذا الانهيار الواضح مثل عودة الحياة لأوصال الدولة مرة أخرى". 

وأضاف: "الدولة كانت مختطفة تماما سلطات القضاء والعدالة، والخطط الإدارية، كلها اختطفت بواسطة مجموعة لها آليات من التنمر على الناس واغتصاب حقوقهم، والضغط عليهم واستخدام مجموعة من آليات الإفساد في المجتمع".

وأردف: "وصلوا إلى مرحلة أن يسلطوا الجيران على جيرانهم في الحي، وأن يبحثوا عن الناس وسيرتهم ومن ينتمي إلى هذا ومن لا ينتمي إلى هذا، ووصلت الأمور إلى درجة منازل الناس ومقاعد الدراسة". 

وتحدث علي كرتي عن "التسلط الكبير" الذي مارسه اليسار وحلفاؤه، خلال فترة حكمهم وكيف انكشف الغطاء عنهم بعدما ظلوا لعشرات السنين يزعمون أنهم الأنقى والأطهر والأقدر على إدارة البلاد والشأن العام عن طريق الديمقراطية. 

ووصف كرتي، لجنة "تفكيك التمكين" التي عملت تحت مظلة حكومة قوى الحرية والتغيير، بأنها "لجنة من الحاقدين والمبغضين، هددت الحياة والاستقرار وأعراف الناس وتقاليدهم، وقامت بما لم يقم به الدفتردار في تاريخ السودان". 

وأوضح: "انظر إلى الخدمات وإلى كل شيء، حتى الأمن الداخلي والشرطة، التي حاولوا تفكيكها، عندما أصدروا قائمة بإقالة ألف ضابط في الشرطة"، وتعجب متسائلا "كيف يمكن للمكون العسكري أن يقبل بهذا الحال وأن يستمر فيه؟!". 

واتهم كرتي بشكل صريح قوى الحرية والتغيير أن مشروعهم خارجي يجري تنفيذه بأيد سودانية، وهو استئصال الحركة الإسلامية، مبينا أن المخاطر ما زالت قائمة. 

واستدرك: "لكن هذه الحركة المباركة في حمى الرحمن، طالما كانت تحتوي على هذا الكم الهائل من المخلصين الذين يرابطون الليل بالنهار ويعملون جادين ومجتهدين في كل الأوضاع وكل فترات الحكم التي تعاقبت على السودان". 

إعدادات القمع 

ومنذ اللحظات الأولى لنظام قوى الحرية والتغيير، عملوا على تسريع إعادة هيكلة مؤسسات الدولة.

ظهر ذلك عندما بدأت لجنة إزالة التمكين عملها في ديسمبر/كانون الأول 2019، تحت رئاسة الفريق ركن ياسر العطا، وأعضاء "قوى الحرية والتغيير"، ورفعت شعار "تفكيك آثار النظام المحلول".

وبالفعل أنهت اللجنة عمل (109) من السفراء والدبلوماسيين والوزراء والمفوضين والإداريين بوزارة الخارجية.

كما أنهت خدمة (651) من العاملين بعدد من المؤسسات المختلفة و(98) مستشارا قانونيا بوزارة العدل والأمانة العامة لمجلس السيادة والصندوق القومي للتأمين الصحي والمجلس القومي للسكان ومفوضية الأراضي والوحدات التابعة لمجلس الوزراء.

وكذلك حلت اللجنة مجالس إدارات بنوك "المركزي" و"العمال" و"الثروة الحيوانية" و"البلد" و"الأسرة" و"الادخار"، كما أوصت بإعفاء مديري عدد من البنوك، كما جرى حل مفوضية تسجيل هيئات الشباب والرياضة بولاية الخرطوم، وحل منظمتي "تلاويت" و"جسور للتواصل".

وبدعوى الانتماء إلى الإخوان المسلمين، أنهت اللجنة بشكل فوري في 15 ديسمبر 2020، خدمة 209 مستشارين قانونيين بوزارة العدل و30 سفيرا، وشمل القرار طرد 41 موظفا من مفوضية الاستثمار وهيئة الإذاعة ومؤسسات أخرى.

وفي 24 أكتوبر 2020، استنكر عدد من المنتجين بالنيل الأزرق قرار لجنة التمكين لحجزها أرصدة عدد 48 من كبار المزارعين، واصفين القرار بالظالم والجائر.

لكن الصدام الخاص مع الإسلاميين تحديدا كان في 20 ديسمبر 2020، عندما أصدرت اللجنة قرارها بحل "منظمة الدعوة الإسلامية"، وحجز واسترداد جميع أموال وأصول المنظمة، داخل السودان وخارجه، في ضربة عدت موجهة من اليساريين إلى المنظمات والجمعيات الخيرية الإسلامية في البلاد.

وأحدث هذا القرار غضبا واسعا لدى الأوساط العامة، في خضم إلغاء تسجيل 24 منظمة، من المنظمات الأهلية والشبابية والنقابية، التي جرى تجميد أرصدتها وحساباتها داخل البلاد وخارجها، على يد أجهزة حكومة حمدوك.

وأعلن عضو اللجنة صلاح مناع حينها أنه "لن يعود الإسلاميون في السودان للسلطة أبدا.. عشم إبليس في الجنة"، وفق وصفه.

لكن في الأول من مايو/أيار 2022، قضت المحكمة العليا في السودان، ببطلان قرار لجنة التفكيك (المنحلة)، وعادت "منظمة الدعوة الإسلامية" للعمل من الخرطوم مرة أخرى. 

هكذا رسبوا 

الباحث السياسي السوداني، عمر الخضر، قال في حديثه لـ"الاستقلال"، إن "قوى الحرية والتغيير والحركات المتحالفة معها والتوجهات الأخرى مثل اليسار السوداني وبعض القوميين، ظنوا أنهم يمتلكون صكوك الوطنية والثورة، وأنه بسقوط (الرئيس السابق) عمر البشير ونظام الإنقاذ، دان لهم السودان بشعبه وأحزابه وطوائفه العريضة". 

وأضاف: "كانت مرحلة حكومة (حمدوك) ومشاركة المجلس السيادي السوداني، أو بالأدق العسكريين من الجيش وقوات الدعم السريع، هي فترة اختبارية، ومعاينة عملية لما ستكون عليه الأوضاع مستقبلا، وبالفعل كانت النتائج مخيبة للآمال".

وأردف: "رسبت تلك القوى في أداء وظيفتها، وخلفت ذكريات مريرة عن كيفية إدارة الدولة والعملية السياسية ككل، في واحدة من أصعب المراحل الانتقالية في تاريخ السودان، لم تنته حتى اللحظة، ولا نعرف كيف ستنتهي في ظل الظروف القائمة والاشتباكات المركبة بين جميع الأطراف". 

وأردف: "نستطيع أن نطلق على مرحلة الحكم تلك وصف الانتقام العشوائي، فهم أرادوا أن ينتقموا من الإسلاميين جميعا في صورة النظام السابق، فنفذوا اعتقالات وشكلوا لجنة انتقائية (لجنة تفكيك الإنقاذ)، هدفها الأول مطاردة كل من يعارضهم، وهدم مؤسسات الدولة، وطرد كل من يشتبه فيه من الموظفين دون جريرة أو دليل على جرم".

وواصل بالقول إنهم "ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما حاولوا تشكيل جهاز مخابرات خاص بهم في الأحياء والمدن، وجندوا فيه كل من ينتمي إليهم".

وهو ما خلق فتنة مجتمعية كان يمكن أن تؤدي مستقبلا إلى اشتباكات أهلية، فلم ينظروا إلى طبيعة السودان وحساسيته، وإلى أمنه أولا وآخرا، وفق الخضر. 

وأكمل: "النقطة الأخطر والتي عولوا عليها دائما استعانتهم بالقوى الخارجية، سواء الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، وظنوا أنهم سيمثلون سياجا حاميا لهم في خططهم نحو سرقة الدولة وتغيير هويتها".

ويرى أن استعانة حمدوك بالبعثات الأممية مثلت محور خيانة واضح، حتى أنه أرسل خطابه إليهم بشكل سري، ومر الأمر مرور الكرام، وكان يجب الإطاحة به على الفور في ذلك الوقت.

وشدد الباحث السوداني: "يجب على قادة المرحلة الانتقالية حاليا، تجاوز كل هذا، وعقد انتخابات سريعة، تفرز مكونا وطنيا جامعا، يستطيع وضع معالم مؤسسات الدولة من جديد، لمواجهة الفشل الاقتصادي والسياسي، وتجاوز احتمالات سقوط السودان كدولة جامعة، كما حدث في سوريا واليمن وليبيا".