صحيفة أميركية تتوقع عودة الإمبريالية وعصر الإمبراطوريات

12

طباعة

مشاركة

تنبأ باحث في معهد أبحاث السياسة الخارجية في الولايات المتحدة الأميركية، أن يقوم النظام العالمي الجديد، على عودة الإمبراطوريات، مقترحا على صناع القرار والسياسة في واشنطن أن يتصالحوا مع الفكر الإمبريالي، وأن يقدموه في صورة محسّنة.

وقال روبرت دي كابلان، وهو مؤلف تسعة عشر كتابا عن الشؤون الخارجية والتاريخ: إنه "لا بديل عن التعامل مع  الفكر الإمبريالي في عالم أصبحت فيه القوة الكبرى تفكر بذات الطريقة التوسعية".

وأضاف في مقال له بصحيفة الشؤون القومية: "لم يتم إدانة فكرة الإمبريالية من قبل كما هي الآن، فلا يزال الاستعمار الأوروبي يشكل ذكرى قريبة وحيّة في وجدان مئات الملايين من الضحايا وأحفادهم".

وتابع: "لقد أصبحت الإمبراطورية تمثل الوجه التاريخي العالمي للعنصرية على نطاق واسع، وقد يبدو أنه ليس لها مستقبل في عالم اليوم المعولم، حيث لا يمكن لثقافة واحدة أن تلائم ثقافات أخرى أو حتى تلغيها".

لعقود من الزمان، كان الحديث عن الإمبراطورية، بمثابة دعوة للحرب مع المثقفين اليساريين في جميع أنحاء العالم الذين ما زالوا غاضبين من الهيمنة الغربية على العالم النامي.

واقع لا يمكن إنكاره

لكن هل حقا دخلت الإمبراطورية في عصر مظلم؟، بالتأكيد؛ فلا يجرؤ أي مسؤول حكومي في أي مكان على الإشارة إلى السياسة الخارجية لبلاده على أنها سياسة إمبريالية، وفق الكاتب.

ومن الناحية الوظيفية والعملية، خاصة مع دخولنا عصر صراع القوى العظمى، تطل علينا الإمبريالية من وراء الكواليس كمبدأ منظم للجغرافيا السياسية، رغم صعوبة الاعتراف بها. 

يوضح مؤرخ أكسفورد المتقاعد جون داروين أنه بسبب عدم توزيع الموارد الطبيعية والثروة الجغرافية بالتساوي، مما يجعل بناء الدول القائمة على العرق مشكلة، فإن النظام الإمبراطوري - الذي يقع فيه عدد من الشعوب المختلفة تحت سيطرة حاكم مشترك – كان الوضع الافتراضي للتنظيم السياسي عبر أغلب عصور التاريخ. 

وقد تخلّفُ الإمبراطوريات فوضى في حالة انهيارها، ولكن من الصحيح أيضا أنها نشأت كحل للحد من الفوضى، مما يسمح لنا بترتيب أراضينا، كما لاحظ "لو جوانزونج"، الكاتب والمؤرخ الصيني في القرن الرابع عشر. 

وإذا وجدت هذا الكلام يبدو تاريخيا وقديما بعض الشيء، فما عليك سوى إلقاء نظرة واضحة على عالم اليوم، يقول الكاتب.

فالسياسة الاستعراضية التي تمارسها القوى المتنافسة الثلاثة - الصين وروسيا والولايات المتحدة - خارج حدودها في سبيل الهيمنة العالمية تحمل روحا إمبريالية إن لم تكن تجسدها بشكل واضح. 

ويتابع: "إذا تأملنا مبادرة الحزام والطريق الصينية فإننا نجدها عكسا لشركة الهند الشرقية البريطانية في الاتجاه، فهي تتجه من الشرق إلى الغرب بدلا من العكس".

وبذلك، ترتكز شبكة الطرق والسكك الحديدية وخطوط الأنابيب والموانئ التابعة لمبادرة الحزام والطريق عبر أوراسيا على المنطق الجيوسياسي والتجاري والعسكري - أي بالمنطق الإمبراطوري - وتتبع مسارات إمبراطوريتي تانغ ومينغ في العصور الوسطى.  

كما أن محاولات روسيا لمد نفوذها على الدول القريبة منها  - من دول البلطيق وبيلاروسيا، عبر البلقان وأوكرانيا، إلى بلاد الشام - هي محاولة صريحة لإعادة تشكيل معالم الإمبراطورية السوفيتية ومناطق الظل الخاصة بها. 

بينما تحتفظ الولايات المتحدة بهياكل تحالف عمرها عقود، مهما كانت ضعيفة، تشمل جميع أنحاء أوروبا والشرق الأقصى. ناهيك عن القواعد العسكرية في الشرق الأوسط وأماكن أخرى، يقول الكاتب.

ويوضح أنه "لا شك في أن الولايات المتحدة بشكلها الحالي تمثل نموذجا مشابها للنموذج الإمبراطوري، ولا يمكن مقارنتها إلا بإمبراطوريات عالمية أخرى في التاريخ الحديث، مثل البريطانيين والفرنسيين".

ويؤكد أن "لكل إمبراطورية عيوبها، بيد أنه لا يمكن أن نصنف جميع الإمبراطوريات على خط متساو من حيث المواقف الأخلاقية، فمن الواضح أنه لا يوجد تكافؤ أخلاقي بين الولايات المتحدة الديمقراطية والقوتين الاستبداديتين، الصين وروسيا"، وفق تعبيره.

 وقد أثبت تاريخ الصراع العالمي اختلافات أخلاقية واسعة بين الإمبراطوريات المتنافسة. كانت روما بكل آثامها الإمبراطورية الأكثر استنارة في عصرها. 

كما كانت إمبراطوريتا هابسبورغ والعثمانية، بما تتمتع بهما من كوزموبوليتية (الأيديولوجية التي تقول إن جميع البشر ينتمون إلى مجتمع واحد، على أساس الأخلاق المشتركة) محترمة وحماية صريحة للأقليات، أكثر استنارة بكثير من خصمهما في الحرب العالمية الأولى، الإمبراطورية الروسية القيصرية، والتي تميزت بحماسة  لمعاداة السامية. 

كانت الإمبراطورية البريطانية، على الرغم من عيوبها الواضحة، على أقل تقدير، مشروعا أفضل بكثير من إمبريالية هتلر الجديدة والإبادة الجماعية الممتدة من فرنسا إلى قلب روسيا. 

أنماط الإمبريالية

وبحسب الباحث، فإن جوهر الواقع الإمبراطوري يتلخص في وجود عدم مساواة في التوزيع العالمي للسلطة، وهذا يحدد بوضوح عصرنا الحالي، حيث تتنافس الولايات المتحدة والصين حرفيا على الهيمنة العالمية، وروسيا ليست بعيدة جدا في الدخول في هذا الصراع.

ويذكر أنه بمجرد انهيار الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في خضم الحرب الباردة، سرعان ما تقدمت المنافسة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي خارج أوروبا إلى الساحة العالمية، حيث أصبحت المستعمرات المحررة حديثا في إفريقيا وآسيا جاهزة للاستيلاء عليها. 

وتم استبدال نوع واحد من المنافسة الإمبراطورية، التي تشمل البريطانيين والفرنسيين، بحكم الضرورة بنوع آخر من المنافسة يشمل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.

كانت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي قوتين تبشيريتين: فكل منهما يسعى إلى فرض نظام قيمه الخاص وتصوراته الكونية على العالم.  

أما بالنسبة للصين، فهي تسعى إلى أسواق جديدة واستغلال اقتصادي - ولا تزال غير مبالية إلى حد ما بالنظم السياسية للبلدان المستهدفة – وبهذا تكون قد أعادت الإمبريالية إلى جذورها الكلاسيكية قبل التبشير، واقتصرت على الفوائد الاقتصادية.

حتى القوى الثانوية في عالم اليوم لها أصول إمبراطورية قوية، فمثلا يحتفل القوميون الهندوس في الهند بسلالات ناندا وموريان وغيرها من السلالات القديمة التي انتشرت فيما مضى خارج حدود الهند الحالية لتشمل أجزاء من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش وسريلانكا ونيبال.

كما تنشط إيران مع نظامها الديني وجيوشها ومليشياتها بالوكالة في نفس الأماكن التي كانت تنشط فيها الإمبراطورية الفارسية منذ آلاف السنين، حيث تحمل خريطة النفوذ الإيراني تشابها مذهلا مع رسم الخرائط للإمبراطوريات الأخمينية والساسانية والصفوية، حيث سعى سكان الهضبة الإيرانية للهيمنة على العرب والشعوب الأخرى في الشرق الأوسط، وفق تعبيره.

أما بالنسبة لتركيا، فإن السياسة الخارجية للرئيس رجب طيب أردوغان هي سياسة عثمانية جديدة بشكل واضح لا لبس فيه، حيث يحاول ممارسة القوة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية في البلقان وفي جميع أنحاء العالم العربي، وخاصة في دول الجوار؛ في سوريا والعراق.

حتى أن أردوغان انتقد معاهدة لوزان لعام 1923، التي أضفت الطابع الرسمي على حدود تركيا ما بعد الإمبراطورية، حيث تركت البلاد صغيرة جدا.

ويقول الكاتب في هذا السياق: "لا يندم أي من هذه البلدان على إرثهم الإمبراطوري، بل على العكس تماما يفخرون به. إن حالة نقد الإمبريالية ظاهرة غربية في غالب الأحيان". 

أما بالنسبة للاتحاد الأوروبي، تتحكم نخبة بيروقراطية مسؤولة جزئيا فقط عن رعاياها ومقرها في شمال غرب أوروبا، حيث الحياة اليومية للشعوب الممتدة من أيبيريا إلى البلقان. 

قال جاي فيرهوفستادت، رئيس الوزراء البلجيكي السابق وأحد أبرز أعضاء برلمان الاتحاد الأوروبي، لجمهور العام الماضي (2019) في المملكة المتحدة: إن "عالم الغد ليس نظاما عالميا قائما على الدول أو الدول القومية، إنه نظام عالمي قائم على الإمبراطوريات".

 وبالتالي، لا يوجد مستقبل أوروبي خارج الأبعاد الإمبراطورية للاتحاد الأوروبي، وفق تقدير الباحث.

وأوضح أن حزمة المساعدات الأوروبية الأخيرة البالغة 857 مليار دولار والتي يقدم من خلالها الدعم لجنوب أوروبا، وتسمح لإيطاليا ودول أخرى بالبقاء في منطقة اليورو والاستمرار في شراء السلع الاستهلاكية الألمانية، هو نوع من مبادرة الحزام والطريق الصينية التي تقرض بكين من خلالها الأموال للبلدان من أجل الموانئ والبنية التحتية الأخرى، حتى يتمكنوا بعد ذلك من توظيف العمال والشركات الصينية للقيام بالبناء.

 بهذه الطريقة تقوم القوى الإمبريالية بتدويل اقتصاداتها المحلية، وفق تقدير الكاتب.

الإمبراطورية والانتخابات

في حالة انتخاب جو بايدن رئيسا للولايات المتحدة، فإن الواقع الإمبراطوري لعالم اليوم سوف يصبح أكثر وضوحا. 

بعد كل شيء، كان الرئيس دونالد ترامب قوميا ذو نزعة انعزالية عكس الإمبريالية تماما. وقد أعرب عن ازدرائه لتحالفات واشنطن والتزاماتها العسكرية والدبلوماسية الأخرى في الخارج، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي. 

ويقول الكاتب: "لا تحمل سياسة ترامب الخارجية أي إحساس بالدور المثالي والقيادي أو العالمي، وهو الشعور الذي ساعد في تشكيل أعظم الإمبراطوريات في الماضي، بما في ذلك إمبراطوريات روما وهابسبورغ وبريطانيا العظمى".

من ناحية أخرى، يعتزم بايدن طمأنة حلفاء أميركا في جميع أنحاء العالم وإصلاح تحالفات البلاد. علاوة على ذلك، فإن انتخابه سوف يبشر بعودة مؤسسة السياسة الخارجية لواشنطن - أي "Blob"، وهو مصطلح صاغه بن رودس، المسؤول في إدارة أوباما. 

دافعت "بلوب" عن دور تبشيري أميركي مفرط النشاط في جميع أنحاء العالم بلغ ذروته في حربي العراق وأفغانستان. 

في الواقع، يشكل "بلوب" كادرا من المسؤولين المدربين في أفضل المدارس ومراكز الفكر والقادر على إدارة البيروقراطيات الواسعة في وزارتي الخارجية والدفاع. 

كمجموعة، تؤمن "بلوب" بإعادة بناء هياكل التحالف الأميركية وتعزيز التزاماتنا الخارجية. ومن الناحية التاريخية والوظيفية، فإن Blob تمثل إلى حد كبير نخبة أميركية ذات نزعة إمبريالية.

بالنسبة إلى "بلوب"، كانت خطيئة ترامب الأصلية تتلخص في عمله على تفكيك النظام الدولي الليبرالي الذي يشجبه كل من اليمين المتطرف واليسار المتطرف في الولايات المتحدة باعتباره إمبراطوريا.

شكل النظام الدولي الليبرالي أكثر أشكال الإمبريالية التي عرفها العالم تقدما، حيث تقدمت لأنها تمثل حقا نموذجا آخر من الإمبراطورية – فهي إمبراطورية توفر الاستقرار الذي كانت توفره الإمبراطوريات يوما ما ولكن بدون قسوتها. 

في الواقع، يرى الكاتب أن كون السياسة الخارجية لها ميول إمبريالية فهذا لا يعني أنها غير مسؤولة أو غير مستنيرة.

ويعتقد أن المفتاح لا يكمن في شجب الإمبريالية في حد ذاتها، ولكن الاعتراف بأنها -باعتبارها الشكل الأكثر شيوعا للنظام السياسي عبر التاريخ البشري- تأتي في مجموعة متنوعة لا حصر لها من الأشكال، وتتدرج من المخيف أخلاقيا إلى المهذب أخلاقيا، ومن العلني إلى الخفي. 

حقا، يجب ألا نسعى لخداع أنفسنا بشأن من نحن وماذا نفعل في جميع أنحاء العالم؛ ولا ينبغي لنا أن نصبح مهووسين باستخدام مصطلح بالطريقة التي يستخدمها المتطرفون السياسيون في الولايات المتحدة. نحن بحاجة إلى التوقف عن شيطنة الإمبراطورية من أجل تجاوزها، ولفهم أنفسنا وعالمنا بشكل أفضل، وفق قوله.

ويقول: "لقد كنا دائما في عصر إمبراطوري، ولكن لأننا ربطنا الإمبريالية حصريا ولفترة طويلة بالاستعمار الأوروبي الحديث، فقد نسينا أن الإمبريالية ليست بالضرورة مرادفة للغرب".

ويرى أن العنصر الإمبراطوري الأكثر وضوحا في عصر ما بعد الحداثة هو مبادرة الحزام والطريق التجارية الصينية. 

يمكن للولايات المتحدة فقط أن ترقى إلى مستوى التحدي المتمثل في "الحزام والطريق" من خلال تقديم إستراتيجيات كبرى بديلة، مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ وإعادة الشراكة مع أوروبا: وكلاهما سيمثل حياة أخرى للإمبراطورية الغربية.

في الختام، ذكر الباحث أنه "من الضروري أن ندرك أن هذا العصر الإمبراطوري الجديد لصراع القوى العظمى يحدث في وقت اضطراب عالمي بسبب: الأوبئة، والحرب الإلكترونية، والموجات الدورية من الفوضى في أجزاء من العالم، وكلها تدل على عالم أكثر ترابطا وأكثر رهابا من أي وقت مضى".

وبالتالي، فإن ثروات الصين وروسيا والولايات المتحدة ستكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بقدرتها على توجيه هذه الاضطرابات المستمرة. 

وقال: "لقد ولت أيام الحيازات الاستعمارية الشاسعة التي امتدت عبر القارات بوتيرة أبطأ في صنع القرار، حيث يأخذ الانحدار الإمبراطوري عقودا وربما قرونا، مع تدهور الأمن تدريجيا في المقاطعات. في الوقت الحاضر، سيعتمد البقاء على رد الفعل السريع لمنع تقويض سمعة الحكومة في السلطة".