ولاءات ومناصب ورواتب خيالية.. كيف ينخر الفساد جسد المغرب؟

سلمان الراشدي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"فضيحة حقيقية"، هكذا وصف حزب "التقدم والاشتراكية" في المغرب، إقدام رئيس البرلمان، منتصف أغسطس/آب 2020، على تعيين 6 أشخاص، في "الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء" (رسمية)، دون استشارة الكتل البرلمانية.

أعضاء اللجنة الستة التي تعنى بـ"ضمان حسن سير السوق الحرة للكهرباء"، يتبعان لحزبي رئيسي مجلس النواب (البرلمان)، الحبيب المالكي، ومجلس المستشارين (الغرفة الثانية)، عبد الحكيم بنشماس، "في تجاوز للدور الاستشاري بين الكتل البرلمانية"، ما دفع أحزاب المعارضة لانتقاد هذه التعيينات.

كما أن رواتب أعضاء هذه اللجنة "خيالية" مقارنة بمتوسط عيش المغاربة، وأيضا بالمهمة الرقابية التي سيؤدونها، حيث سيتقاضى العضو الواحد شهريا 62 ألفا و618 درهما أي ما يعادل 6 آلاف دولار، مع تعويضات إضافية.

وفي حديث لـ"الاستقلال"، قال أحمد البرنوصي، الكاتب العام لمنظمة "الشفافية الدولية - فرع المغرب" (ترانسبرنسي): إن "التعيين دون احترام المعايير القانونية والشفافة ودون أحقية يدخل ضمن شراء الولاءات واستغلال المناصب". 

فيما اعتبر الباحث الاقتصادي بالمعهد المغربي لتحليل السياسات، رشيد أوراز، أنه "من الناحية الأخلاقية، هذه الوضعية (التعيين) جد صعبة تتطلب أن تكون حكامة (رشد) على مستوى التعيينات والرواتب والتعويضات، لترشيد النفقات العامة".

وأوضح لـ"الاستقلال" أنه "في السياق الحالي المتسم بأزمة اقتصادية وصعوبات يعيشها البلد، من الصعب أن تقوم الدولة بتعيينات برواتب عالية. الدولة يجب أن تستحضر السياق الذي نعيشه، لإيقاف هذه التعيينات".

حزب الأصالة والمعاصرة الذي ينتمي له عبد الحكيم بنشماس رئيس "مجلس المستشارين" تبرأ من القرار، داعيا أعضاء الحزب الذين تم تعيينهم بهذه المؤسسة العمومية، إلى تقديم استقالتهم منها، "لأن قرارات التعيين اتخذت بشكل فردي ذاتي، ولم تخضع لأعراف وتقاليد وقواعد المشاورات (وفق المادة 347 من النظام الداخلي لمجلس النواب)".

وأدان الحزب مضمون هذه القرارات التي "تضرب في العمق ما تبقى من صورة المؤسسة البرلمانية، وتمس بمصداقية ونزاهة وشفافية تدبير شؤونها، ونبل رسالة البرلماني".

فيما اعتبر حزب "التقدم والاشتراكية" أن هذا التعيين "يشكل إساءة صارخة وخرقا سافرا للأخلاق السياسية وللممارسات المؤسساتية السليمة وللخطوات القانونية المتعارف عليها".

كما شجب التعيين الذي "تم بشكل ينم عن نظرة حزبية ضيقة أو ولاء شخصي، وعن سقوط مُدو في المحسوبية، وهو ما لا نتصور أبدا أنه يمكن أن يكون مقبولا من قبل الهيئات السياسية الوطنية".

الإدانات لم تقتصر على "التقدم والاشتراكية" وأحزاب المعارضة الأخرى فقط، بل إن الكتلة البرلمانية لحزب العدالة والتنمية (قائد الائتلاف الحكومي)، وصفت التعيينات بـ"الباطلة والفاقدة للشرعية".

وطالبت بالتراجع عنها لـ"تعزيز الثقة في المؤسسة التشريعية، التي اهتزت بفعل شرود الأقوال عن الممارسات وجعلها أداة ترضيات حزبية وريعا سياسيا، مما يضر بالسلطة التشريعية ويرسخ النفور من العمل السياسي المؤسساتي".

حاميها حراميها؟ 

هذه التعيينات تأتي بعد أقل من شهر على صدور بيان ملكي بتعيين لجنة خاصة لمراقبة "مجلس المنافسة" (مؤسسة تهتم بدراسة أداء الأسواق ومحاربة الممارسات غير الأخلاقية) والذي من المفترض أن تراقب الممارسات المنافية للمنافسة.

وقال البيان: إن رئيس مجلس المنافسة أصبح متهما بـ"سلوك يوحي بأنه يتصرف بناء على تعليمات أو وفق أجندة شخصية". 

ففي 28 يوليو/تموز 2020، قرر العاهل المغربي محمد السادس تشكيل لجنة للتحقيق في وضعية المنافسة في سوق المحروقات، بعد تسلمه تقريرين متناقضين من رئيس المجلس إدريس الكراوي، وتظلم أعضاء من المجلس من خروقات للرئيس.

وجاء في بيان الديوان الملكي أنه "اعتبارا للارتباك المحيط بهذا الملف والنسخ المتناقضة المقدمة"، قرر العاهل المغربي، تشكيل لجنة متخصصة تتكلف بإجراء التحقيقات الضرورية لتوضيح الوضعية وترفع  للملك تقريرا مفصلا عن الموضوع في أقرب أجل".

وأوضح البيان أن الملك تسلم، في 23 يوليو/تموز، مذكرة من رئيس مجلس المنافسة تتعلق بقرار المجلس حول التواطؤات المحتملة لشركات المحروقات وتجمع النفطيين، حيث تضمنت المذكرة القرار القاضي بفرض غرامة مالية بمبلغ 9% من رقم المعاملات السنوي المحقق بالمغرب من قبل الموزعين الرئيسيين الثلاثة، وبمبلغ أقل بالنسبة لباقي الشركات.

غير أن بلاغ الديوان يؤكد أن الملك تسلم من رئيس المجلس ذاته، يوم 28 يوليو/تموز مذكرة جديدة حول الموضوع نفسه، يطلعه عبرها على "قيمة الغرامات المفروضة"، لكن تم تحديد مبلغ الغرامات في 8% من رقم المعاملات السنوي، دون تمييز بين الشركات.

ولفت البرنوصي إلى أن "بلاغ الديوان الملكي يشير إلى احتمال خلل في التسيير الداخلي لمجلس المنافسة في معالجة قضية تحرير أسعار المحروقات"، معربا عن القلق البالغ بسبب "تعميق هشاشة المؤسسات الدستورية للرقابة وتراجع الشفافية في إدارة الشؤون العمومية".

فضيحة بـ250 ألفا

تزامن كل ذلك، مع فضيحة أخرى، وهي اتهامات وجهت إلى وزير الشباب والرياضة السابق رشيد الطالبي العلمي بإنشاء "بوابة إلكترونية" كلفت ميزانية الدولة 2.5 مليون درهم (250 ألف دولار).

ففي اجتماع لجنة "القطاعات الاجتماعية" البرلمانية خلال يونيو/حزيران 2020، كشفت برلمانية حزب "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، ابتسام مراس، عن خلاصات تقرير "المفتشية العامة لوزارة المالية" حول تدبير شؤون وزارة الشباب والرياضة في عهد الوزير الطالبي العلمي (عن حزب التجمع الوطني للأحرار). 

 وقالت المراس، في الاجتماع: إن "إنشاء موقع إلكتروني للتخييم في عهد الطالبي العلمي كلف 2.5 مليون درهم (250 ألف دولار)، بينما لا تتجاوز قيمته في أقصى الحالات 300 ألف درهم (30 ألف دولار)، و2.5 مليون درهم، هي كلفة "باهضة جدا"، ومبالغ فيها مقارنة مع مواقع مؤسساتية مماثلة".

من الناحية القانونية، لاحظ التقرير، أن "الاتفاقية لم تحترم قانون الصفقات العمومية (المناقصات)، حيث جرى إبرامها بدون طلب عروض، كما أن الوزارة ليس من حقها تفويت هذه الخدمة إلى جمعية، بما أن الموقع سيتضمن بيانات شخصية للأشخاص الذين سيستفيدون من خدماته، وهذا الأمر يبقى من اختصاص الوزارة".

وتفاعلت هذه القضية داخل البرلمان وخارجه، فيما طالب حزب "الأصالة والمعاصرة" بلجنة تقصي حقائق حول فترة تدبير الطالبي العلمي لوزارة الشباب والرياضة (2017-2019).

وفي السياق يقول البرنوصي: إن "المفتشية العامة للمالية والمجلس الأعلى للحسابات (حكومي يعنى بمراقبة المال العام)، تشير إلى اختلالات في تدبير بعض الميزانيات أو الصفقات العمومية (المناقصات) مما قد يكون مؤشرا على مخاطر الفساد لدى المسؤولين عن تدبيرها".

فيما شدد الباحث الاقتصادي أوراز على أن "التقارير الدولية تؤكد أن هناك مستويات فساد مرتفعة شيئا ما، وهذا يستلزم المزيد من الجهود، ومن الصعب في العالم العربي محاصرة ظاهرة الفساد لأنه مستشر وقديم قدم هذه الأنظمة والدول".

وأضاف: "هناك نقاش مستمر في المغرب ليس بناء على التقارير الدولية فقط بل المحلية أيضا، في أن هناك نسبا مرتفعة من الفساد والرشوة وهو أمر له تأثير سلبي وسيئ على التنمية والنمو الاقتصادي ويجب على الدولة أن تسعى لمحاربته".

فساد مزمن

منذ أزيد من 4 سنوات، لا يزال مشروع قانون "الإثراء غير المشروع" حبيس البرلمان، ورغم نقاش سياسي طفا على الطاولة من جديد، رفضت بعض الفرق البرلمانية مقترح "العقوبة السجنية"، واقترحت الاكتفاء بـ"عقوبات مالية".

الكاتب العام لمنظمة "الشفافية الدولية أحمد البرنوصي اعتبر في حديث مع "الاستقلال"، أن "بعض البرلمانيين يضطلعون بمناصب تدبير الشأن العام التي قد تعرض لإغراء الارتشاء وتؤدي للإثراء غير المشروع مما قد يقود للمحاسبة".

وقال: إن "تجريم الإثراء غير المشروع أضحى ضرورة ملحة، إذ لم يعد من المقبول في بلد تفشت فيه الرشوة وتبذير المال العام بشكل مزمن ونسقي أن يظل الاغتناء غير المشروع للموظفين وباقي المؤتمنين على تدبير الشأن العام بدون ردع جنائي".

وفي تصريح صحفي سابق، قال: إنه لا يمكن إلا أن يعتبر هذا (عدم المصادقة البرلمانية) إشارة خضراء تسمح للمرتشين بالاستمرار، "فإذا كان المسؤول مرتشيا، واستطاع في خمس سنوات جمع 10 ملايين درهم (مليون دولار) رشوة وسيدفع للدولة غرامة مالية تناهز 10 أو 15 ٪، فإن ما تبقى سيكون قد فاز به دون وجه حق وأمام أنظار القانون". 

تأتي هذه الوقائع لمسؤولين كبار بالدولة، في وقت تسابق الحكومة الزمن لتطويق الفساد قانونيا، عبر توسيع صلاحيات "الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها" (دستورية)، وذلك للحد أو التقليص من الفساد.

وفي 11 يونيو/حزيران 2020، صادق مجلس الحكومة على مشروع توسيع صلاحيات "الهيئة"، فيما قال رئيس الحكومة سعد الدين العثماني: إن ذلك يروم إلى تقوية وتوسيع وظائف ومهام هذه الهيئة الدستورية، وإعطائها قدرة أكبر في مجال اختصاصاتها، "لتصبح أداة أقوى مما كانت عليه في محاربة الفساد والرشوة".

واعتبر البرنوضي أن توسيع صلاحيات هذه الهيئة "جواب على تقوقع المغرب في فساد مزمن وجواب على الاحتجاجات الاجتماعية المتكررة، كحراكي الريف وجرادة، ومرافعات المجتمع المدني ضد الفساد".

وأوضح أن "الخسارة المالية للفساد بالمغرب تقدر بـ 5 ٪ من الدخل الخام، أي ما يساوي سنويا 50 مليار درهم (5 مليارات دولار)، دون احتساب انعكاساتها المادية والاجتماعية".

وكشفت منظمة الشفافية الدولية (ترانسبرانسي)، في تقريرها لعام 2019 والصادر في يناير/كانون الثاني 2020، أن المغرب تراجع في مؤشر مدركات الفساد العالمي، ليحتل الرتبة الـ80 من أصل 180 دولة، بدل الرتبة الـ73 سنة 2018.