المعركة الضالة

رسم اليمنيون في 2014 طريقا للخروج وذهبوا إلى الحرب. قبل الحرب بوقت قصير كانوا قد انتهوا من كتابة وثيقة وطنية تألفت من 1800 مادة، اشترك فيها كل صاحب صوت عالٍ. ثم تدفقت الحرب من كل مكان واشترك فيها الكل ضد الكل، ببسالة أول الأمر، ثم على مهل. تبدلت الأطراف أكثر من مرّة، وتقاتل الحلفاء، وفقدت الحرب حدودها مرارا. حتى إن طارق صالح، الذي قال إنه لن يتخلى عن الحوثي حتى تصير صنعاء حجرا على حجر، ذهب إلى الساحل وقاتل الحوثي لبعض الوقت. في الساحل يلقن طارق صالح رجاله أثناء التمارين "لا شرعية، لا حزبية"، ويحلم بجمهورية شرطها الأساسي أن تكون بلا شرعية ولا نظام حزبي. الرجل الذي خسر الحرب في الجبل ذهب يتخيّل حربا على البحر، حربا بلا تفاصيل ولا أعداء متعينين.
الانفجار الذي وقع مؤخرا في معسكر الجلاء في عدن وأودى بحياة عشرات المجندين مكننا من رؤية التناقضات والصراعات كلها دفعة واحدة وفي الوقت نفسه. قرأنا عن الفاعل ووجدناه يمتد من إيران إلى تركيا، من القاعدة إلى الرئاسة، ومن الإمارات إلى عمّال المطاعم. لا توجد أرض صلبة لأي مشروع، بما في ذلك الحرب نفسها. حتى إن تلك الوثيقة التي اخترعها اليمنيون قبل الحرب لم يعد يشار إليها، وربما لا يفتقدها أحد. تبدو الحرب هي المشروع السهل، وقد دأبت قبائل اليمن، تاريخيا، على وصف الحرب بـ"النقاش". ربما صار الحديث عن انتهاء الحرب خبرا سيئا لجهات كثيرة، ذلك أن ساسة كثيرين لن يعثروا على عمل فيما لو توقفت العجلات وفتحت الطرق.
ربما كان المتغير الأهم في ذلك السيرك الكبير هو تحرك القوات السعودية عسكريا باتجاه الجنوب، كما جرى في الأيام الماضية. المعلومات التي نشرها "المصدر أونلاين" عن تدفق القوات السعودية على عدن قد يكون إيذانا برغبة السعودية في إنتاج دولة يمنية على ما تيسّر من الأرض، أو بوضع شيء من الأسمنت على الأرض الرخوة. وإذا لم يكن ممكنا هزيمة الحوثيين، تفكّر السعودية، فلتكن الهزيمة من نصيب آخرين ستسميهم في الوقت المناسب. لا يتحمس المجلس الانتقالي للوجود السعودي، ويذهب صحفي جنوبي مرموق، في حديث خاص، إلى الاعتقاد أن الإمارات وجدت نفسها، أمام الإصرار السعودي على دخول عدن، مضطرة لإخفاء طرقاتها السرية ودفن الأدلة.
في الواقع ساهمت السعودية والإمارات في صناعة قوات مسلحة يمنية شمالا وجنوبا. في الشمال صنعت السعودية تشكيلات عسكرية ضخمة غير قادرة على النصر ولا يمكن هزيمتها. جنوبا صنعت الإمارات تشكيلات واسعة ونأت بها كلّيا عن قيادة الجيش، وعن القائد الأعلى. سألت وزير الدفاع عن ما قصده بقوله إن تعز قطاع منفصل فقال إنها تقع جغرافيا في نطاق الجنوب، وأن وزارته لا يمكنها التحرك في تلك المناطق. كانت مقولته المثيرة شهادة حيوية مكثفة عبثية الحرب والحياة في يمن اللحظة.
تداخل دخان القرى ولم يعد يُعرف من أين يأتي الدخان. تبدو سلسلة الأعداء كبيرة، أما إذا أضيفت لها قائمة الخصوم فإن ذلك سيصعب على الحصر. تحاول الإمارات، الدولة القزمة كما وصفتها "دير شبيغل"، الخروج من الفخ اليمني والبقاء فيه بعيدا عن الأنظار. إذا غادرت الحرب غير الناجزة فسيكون عليها أن تبدل قائمة حلفائها. الاشتباكات التي تتصاعد في "تويتر" بين صحفيي الدولتين تقول إن تحالفهما لم ينجح في الاختبار اليمني، أو أن لعنة أرض التبابعة قد علقت بقمصانها. ما من أرض صلبة في اليمن، هناك كهف "فرجيل" حيث تغوص الأقدام، وتذهب كل الخطى في طريق واحد: المتاهة.
في مسرح الصراع الكبير لا تجري الإحالة إلى مرجعية عليا. فالمجرمون والأبطال، كلهم، لا يعززون مواقفهم من خلال مرجعية معينة. إذ، وهذا ما يجري، يصعب على المرء فرز المجرم عن البطل بسبب فقدان المرجعية. فبعد أن كتبت عن "أبو اليمامة"، الذي فقد حياته في انفجار معسكر الجلاء، بوصفه خارجا عن القانون ويقود تشكيلات عسكرية ترفض الانصياع لرئيس الجمهورية، أصدر الرئيس بيانا ينعي فيه الرحيل المهيب لذلك البطل. هذه الفوضى جعلت الحرب تسير على أرض رخوة كما لو أنها ذاهبة إلى غير جهة. بعد خمسة أعوام نرى حربنا وكأنها حرب غيرنا، كأنها تخص سوانا.
قبل وقت قصير ذكّرتنا "لوموند ديبلوماتيك" بتلك القصة عندما فكّر الرئيس الأمريكي روزفلت إبّان الحرب بوضع اليد على المستعمرات الفرنسية. قال لمستشاريه إن بلاده خسرت الكثير دفاعا عن أرض غنية وعاجزة عن الصمود. كانت الممتلكات الفرنسية مما يثير اللعاب الأمريكي، بيد أن الطاقة الكاريزمية التي امتلكها الضابط الفرنسي ديغول، وكان قد فرّ من بلده، حالت دون أن يمضي الأمريكي خلف لعابه. تعوض الكاريزما، في ظروف معينة، عن انهيار المشاريع بما في ذلك مشروع الدولة. على المسرح اليمني انهار مشروع الدولة، وسال لعاب كثير، ولم تجد الأمة المهزومة والمشتتة من تعويض. يفتقر القائد الرئيس إلى الكاريزما، ومع تعقد الأحداث خسر ما هو أخطر: المشروعية. إن خسارته للمشروعية ليس مردّها إلى مرجعية قانونية بل إلى الموقف الجماهيري من تلك المشروعية. ثمة بقع جغرافية صغيرة وتشكيلات سياسية متناثرة لا تزال ترى في مشروعية هادي ضمانا من التفكك، حتى وهي ترى البلد ذاهبا إلى ما هو أبعد من التفكك. لم تحُل تلك المشروعية دون وقوع أكثر الأشياء فداحة على الصعيد الاجتماعي والسياسي.
تقول مادة دستورية إن النظام الجمهوري يتأسس على النظام الحزبي، بما يعني أن الحياة الحزبية ضمان لفكرة الجمهورية. تذهب فكرة مبدئية إلى القول إن استعادة الحياة الحزبية هي واحدة من العمليات الضرورية في سبيل استعادة الجمهورية. في صنعاء صفّى الحوثي النظام الجمهوري ووضع سكرتيره المراهق رئيسا على اليمنيين. المنصب الأرفع يقع الآن في الأسفل بالنسبة للمحل الذي يجلس عليه عبد الملك الحوثي، وأصبح الرئيس سكرتيرا لدى السيد. جنوبا دفعت الإمارات تشكيلاتها العسكرية إلى تصفية الحياة الحزبية، وتوعد مدير أمن عدن بتصفية الأحزاب واحدا وراء الآخر ما إن يفرغ من مواجهة الإرهاب. وفقا لحديثه فإن الأحزاب، التي رأيناها ضامنة للنظام الجمهوري، هي واحدة من الطرق المؤدية إلى الإرهاب. وفي الساحل يردد طارق صالح، الذي أفلت من إيران والتقطته الإمارات: لا حزبية، لا شرعية.
توضع كل هذه الفوضى في عربة واحدة وتُرسل إلى "المعركة". وإذا سألت عن طريق تلك المعركة سيقال لك: طريق الجمهورية. وليس مستغربا أن ذلك الطريق طال كثيرا، وفقد اتصاله بمعناه.