حين وقَّع المسجد الأقصى وثيقةَ براءة مرسي

لو كان للمسجد الأقصى المبارك لسانٌ لتكلم كثيراً عن الرئيس الشهيد د. محمد مرسي، فلا زالت كلمات مرسي إبان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عام 2018 ترن في الأذهان حين قال: (قلوبنا تشتاق إلى بيت المقدس). ولذلك فلم يكن أطيبَ لخاطري من مشهد المصلين في المسجد الأقصى المبارك وهم يسبقون الدنيا كلها في إقامة الصلاة على مرسي حتى قبل أن يوضع في قبره، الذي كان النظام الانقلابي في مصر يظن أنه سيكون مجرد حفرةٍ يخفي فيها أثر جريمته وينهي فيها ذكرى هذا الرجل.
مرسي لم يحكم طويلاً، ومرسي لم يشارك في حروب لأجل تحرير فلسطين والقدس، ومرسي لم يوجه الصواريخ يميناً ويساراً ولم يشبعنا خطباً رنانةً، لكنه كان صادق اللهجة، وكنتَ تشعر وأنت تسمعه يتكلم عن فلسطين بلسانِ الصدق يملأ كيانه ويجعله يتحرك ضمن ما تتيحه له تعقيدات المشهد المصري الغريب في تلك السنة التي حكم فيها. ربما أخطأ مرسي وأصاب هنا وهناك.. وكان قد اعترف بذلك، لكنه لم يخن الله في مصر أو في الأمة.. لم يتمكن من اختراق منظومة الجيش الذي يحكم مصر منذ ستين عاماً، ولكنه فتح لغزة المحاصرة من موقعه أبواباً لا زال أهل غزة يذكرونها، ولا أحسبهم سينسونها.
عندما انقلب الجيش على محمد مرسي ارتفعت صورته في المسجد الأقصى المبارك إلى جانب عبارة تقول: (القدس مع الشرعية وضد الانقلاب). كثيرون ممن دبروا وساندوا وخُدِعوا بذلك الانقلاب أغضبهم ذلك المشهد، وبعضهم طالبَ عبر وسائل الإعلام دولة الاحتلال الإسرائيلي بمنع المقدسيين من إبداء وقوفهم إلى جانب محمد مرسي، ولم يكن يعلم أن أهل القدس أحرار أكثر من كثيرٍ من أبناء أمتنا في بلادنا المنهوبة بالظلم والقهر.
وكان الغضب والخوف من هذا الموقف المقدسي بالذات يأتي من حقيقة أن القدس اليوم هي المكان الوحيد الذي لا يمكن فيه تزييف الحقائق، وأن المسجد الأقصى المبارك وكل ما يتعلق به لا يزال يشد قلوب ملايين المسلمين في كل الأرض، ولا زال الكثيرون يرون أن ما يقرره المسجد الأقصى هو الصواب، فإذا رفع المقدسيون صورة مرسي فهو إذن لابد أن يكون على حق، وإذا لعنوا من انقلبوا عليه فلا بد أن يكون هؤلاء المنقلبون على باطل. والسر في ذلك أن المقدسيين لا زالوا يرون الأمور بوضوح، فعدوهم واضح وصديقهم معروف، ولا يخافون مخبراً أو عنصراً أمنياً عربياً يكتب أسماءهم في تقريره لمسؤوله!
إن المواجهة المفتوحة بين المقدسيين والاحتلال جعلت أبصارهم حادةً ورؤيتهم في غاية الجلاء، فهم يعرفون ماذا كان مرسي بالنسبة للاحتلال، ويعرفون ماذا يعني النظام الحالي في مصر للاحتلال كذلك، ذلك أنهم يعيشون في قلب المعركة وفي قلب المجتمع الإسرائيلي، فيرون الصورة الحقيقية دون تشويش ودون تشويه في الإعلام الموجه للداخل الإسرائيلي العبري الذي يتسم بالتثقيف والصراحة، فقد كانوا يسمعون الصحفيين الصهاينة وهم يصرخون على الشاشات ويشتكون من أن محمد مرسي لم يلفظ بلسانه كلمة "إسرائيل" ولو مرةً واحدةً طول مدة رئاسته. نعم، لقد تنبه الإسرائيليون لهذه النقطة الحساسة، ولذلك وجدهم المقدسيون لا يعيرون اهتماماً لقصة "صديقي بيريس" السخيفة التي لا زال بعض مطبِّلي النظام المصري الحالي وبعض كارهي محمد مرسي –الذين لم يحترموا حتى رهبة الموت– يكررونها بسذاجةٍ ممجوجة.
لكل هذه الحقائق، لم أفاجأ عندما رأيت أول صلاة غائب على روح الرئيس الشهيد د. محمد مرسي في العالم كله تنطلق من المسجد الأقصى المبارك، لتعلن صدق هذا الرجل وهيبته وجلال مكانته بين أبناء هذه المدينة المقدسة، فالقدس من طبيعتها في التاريخ أنها لا تُخدَع، ولا يمكن لأحد أن يستمر بالكذب باسمها إلى ما بعد الموت حتى تفضحه على الملأ، فإذا أقرَّت القدس لأحد بالصدق فهي شهادةٌ تعادل في ميزان التاريخ أثقل الموازين.
القدس اليوم هي صاحبة الرأي الحر، وليست معتقلةً بيد بعض عبدة "ولي الأمر" ولا مطبِّلي الأنظمة ولا غيرهم، فهي في أسرها اليوم أكثر حريةً من جميع عبيد الحكام والسلاطين. ولذلك، فكلمتها الحرة مسموعة، وقد لاحظت ذلك في صفحات بعض مطبلي جوقات الأنظمة القمعية العربية وهم في قمة لوثات الجنون والسخط عندما رأوا صفوف المصلين في المسجد الأقصى المبارك تصطف لتفتتح صلوات العالم الإسلامي كله على محمد مرسي وتعلنه شهيداً مجيداً رغم ما حاول قاتله أن يفعل، ولتخفِتَ في لحظاتٍ مَهيبةٍ أصوات هؤلاء وتتضاءل أمام هيبةِ الموت في سبيل الحق الذي آمن به ومثَّله اليوم محمد مرسي، لأنه لم يكتف بالقول، بل صدَّقه بالفعل، وقدَّم نفسه في سبيل ما آمن به هو وشعبه الذي انتخبه، بل وأحرار العالم الذين بكوه.
لم يعد محمد مرسي "الرئيس المنقَلَبَ عليه" ولا "الرئيسَ المعزول" ولا حتى "الرئيس السابق"، بل أصبح الرئيس الشهيد، وأصبح أيقونةً خالدةً لن تستطيع قوى الأرض محو ذكراها، والمسجد الأقصى المبارك هو الذي وقَّع على وثيقة تخليد محمد مرسي.
سيدي الرئيس.. نصرتَ للمسجد الأقصى المبارك فانتصر لك... فأنت اليوم الشهيدُ المنتصر.