التعليم بالتعاقد في المغرب: خطة بديلة أم ورطة؟

فرح أشباب | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لعل مشكل التعليم الأساسي في المغرب هو ما تعرض له هذا القطاع من تغييرات جذرية في بداية ثمانينات القرن الماضي وفق سياسة التقويم الهيكلي التي فرضها صندوق النقد الدولي على المغرب، في إطار خطة شملت دول العالم الثالث والدول النامية في تلك الفترة، وذلك من أجل تقليص النفقات الاجتماعية التي تحظى بنصيب الأسد من ميزانية هذه الدول. وعلى رأسها الصحة و التعليم لإخراجها من الأزمة الاقتصادية التي كانت تتخبط فيها والتقليل من عجزها الاقتصادي والخفض من الدين الخارجي.

أثرت هذه الاستراتيجية سلبا على قطاعي الصحة والتعليم، خاصة هذا الأخير الذي يعتبر الرئة المحركة لكل اقتصاد خاصة وأنه تم إلغاء آلاف المناصب في الوظيفة العمومية وزيادة الضريبة على القيمة المضافة كما تم رفع الدعم على صندوق المقاصة.

رافق هذه الغييرات انخفاض مهول في قيمة العملة وارتفاع الأسعار، مما أدى إلى فوران شعبي خرج على إثره مئات آلاف التلاميذ في جميع المدن المغربية في يناير/ كانون الثاني من سنة 1984، قبل أن تلتحق بهم باقي شرائح المجتمع من عمال وموظفين، الذين عانوا الأمرين قبل أن يخرجوا إلى الشارع للانتفاض على الأوضاع المزرية التي فرضت عليهم.

عُرفت هذه المظاهرات الشعبية بـ"انتفاضة الكوميرة" أي "انتفاضة الخبز" التي عَرفت مقاومة أمنية كبيرة وقمعا في جميع المدن التي شهدتت انتفاضات شعبية مما أدى إلى مقتل المئات من المتظاهرين واعتقال واختفاء الآلاف. 

شكل التعليم إذن عقبة كبيرة في وجه الحكومة المغربية منذ فجر الاستقلال خاصة وأن اقتصاده وسياساته الاجتماعية ترتبط أساسا بما تمليه المؤسسات الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي. 

لجأت الحكومة المغربية مؤخرا إلى سياسة التوظيف بالتعاقد في سلك التعليم من أجل التخفيف من النفقات الاجتماعية التي تأتي على إثر التوظيف النظامي الذي يستلزم الترسيم والتغطية الصحية والكثير من الامتيازات الأخرى، التي يستفيد منها الأساتذة مدى الحياة، كما أن النمو الديموغرافي أدى إلى خصاص كبير في الأساتذة خاصة في المناطق النائية ناهيك عن الصعوبة التي تجدها الوزارة الوصية في تعويض الأساتذة المتغيبين لمدة طويلة إثر أسباب صحية أو غيرها. 

أدى السياق الدولي إذن والضغوطات المالية التي يتعرض لها المغرب من المؤسسات الدولية الدائنة إلى فرض سياسة التعليم بالتعاقد التي لم يكن المغرب أول ناهجيها بل سبقته إلى ذلك دول أخرى مثل الهند وبعض دولة إفريقيا الغربية وكمبوديا ونيكاراغوا.. إلخ.

عرفت هذه السياسة فشلا مهولا في الدول النامية، تحدثت عنه اليونيسكو في تقرير أصدرته سنة 2005. كما تبنت بعض الدول المتقدمة مثل السويد وإنجلترا وفرنسا سياسة التعليم بالتعاقد لكن السياق والأسباب والنتائج تختلف طبعا بين الدول الغنية والنامية. 

تبنت الدول النامية هذه السياسة رافعة شعار "التعليم من أجل الجميع" نظرا إلى الخصاص الذي يعاني منه قطاع التعليم ويرافقه تزايد ديموغرافي كبير، لكن الحقيقة ربما هي شيء آخر يكمن في تملص الدولة من واجبها في توفير تعليم جيد لجميع التلاميذ دون استثناء وذلك دون المساس بكرامة الأستاذ  التي تتمثل في التوظيف النظامي وراتب جيد يحفزه على العطاء والعمل من أجل الرفع من جودة التعليم الذي لا يزال يحتل مراكز غير مرضية البتة في السلم العالمي. 

يشهد المغرب اليوم إعادة مشابهة لسيناريو سياسة التقويم الهيكلي التي مازالت مخلفاتها تجثم بثقلها على التعليم والاقتصاد نظرا لنسبة الانقطاع عن الدراسة والأمية التي خلفتها آنذاك، يجدر القول بأن مئات الآلاف من الأشخاص الذين كانوا أطفالا في سنة التمدرس في بداية الثمانيات هم كُهـل غير متعلمون اليوم. 

خرج الأساتذة المتعاقدون في مظاهرات حاشدة من أجل التنديد بالوضع الذي فرضته عليهم الوزارة الوصية رغم أنهم وقعوا على العقود بملء إرادتهم لكن الظروف فرضت نفسها وتبين أنهم لن يستطيعوا التعايش مع هذا الوضع الذي يجعلهم رهن إشارة عقد يفرض عليهم الهشاشة ويتحكم في الكثير من جوانب حياتهم المادية والاجتماعية والمهنية دون أن تقدم لهم بالمقابل رواتب وامتيازات تشجعهم على العطاء والبذل من أجل إخراج التعليم من الأزمة التي يعيش فيها.

إن الهشاشة التي يعيشها الأستاذ المتعاقد وعدم الشعور بالأمان سببان رئيسان دفعاه إلى الانتفاض والغياب غير المبرر رغم اقتطاع كل أجرته الشهرية. 

تجدر الإشارة إلى أن الوزارة الوصية انفردت بصياغة عقود التعليم بالتعاقد رغم أن القانون ينص على ضرورة صياغة العقد بحضور الجهتين المتعاقدتين، كما تم حسب شهادة الكثيرين من الأساتذة التوقيع عليها دون الإطلاع على كل تفاصيلها وجلب الجهات المتخصصة بالمصادقة القانونية إلى الأكاديميات من أجل وضع طابع المصادقة دون أن يتسنى للأستاذ التمعن وقراءة العقد كما يجب لذلك أن يكون. 

تحول التعليم بالتعاقد إذن من خطة بديلة فرضها السياق الدولي والمؤسسات المالية العالمية إلى ورطة دفعت إلى خروج آلاف الأساتذة المتعاقدين وحرمان مئات الآلاف من التلاميذ من التمدرس.

بين جيل يطمح إلى التمدرس في ظروف جيدة ومظاهرات حاشدة يقودها أساتذة يسعون إلى عيش حياة كريمة تحفظهم من تقلبات الحياة تضيع الكثير من الأشياء والآمال الذهبية في إخراج هذا الجيل من الورطة التي تعثرت فيها الأجيال السابقة، التي تكمن في تعليم غير قادر على إشفاء غليل من يطمح إلى الأفضل. 

لم تصل الدول المتقدمة إلى ماوصلت إليه اليوم عن طريق الصدفة، بل عن طريق الاسثمار في التعليم وتوفير ظروف جيدة للمعلمين لدورهم العظيم في تكوين الكثير من الأجيال التي تصنع التغيير.

مهما كان ماتقدمه الوزارة الوصية من تبريرات عن دوافع تبنيها للتوظيف بالتعاقد إلا أن مواجهة العجز الاقتصادي وإرضاء صندوق النقد الدولي وحل المشكل الاقتصادية والاجتماعية لن يتأتى أبدا بحرمان الأساتذة من شروط العيش الكريم لأن مشوار الألف ميل يبدأ بإكرام الأستاذ والحكامة الجيدة في قطاع التعليم وليس العكس.