رغم مخاطره.. لهذا يرفض السيسي الانسحاب من "اتفاق مبادئ" سد النهضة

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"لغز كبير" يكتنف موقف رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي من عدم المساس باتفاقية "وثيقة إعلان المبادئ" الخاصة بسد النهضة، التي وقع عليها مع إثيوبيا والسودان، قبل 6 سنوات.

وفي 23 مارس/آذار 2015، ظهر السيسي رفقة قائدي السودان وإثيوبيا آنذاك، عمر البشير وهايلي مريام ديسالين، مبتسمين ومتشابكي الأيدي عقب توقيعهم الوثيقة بشأن سد النهضة.

خرجت صحف مصر حينئذ تقول "السيسي حلها"، بيد أن الابتسامات لم تتكرر، ودخلت القاهرة والخرطوم وأديس أبابا في سلسلة خلافات داخل نفق مفاوضات مظلم استمر لسنوات.

وفي كل مرة كان يحدث خلاف، كانت إثيوبيا تتشبث باتفاقية المبادئ، وتقول إنها أعطتها حق ملء السد بموافقة القاهرة والخرطوم، ما دفع المصريين لاتهام السيسي بالتفريط في حقوق مصر المائية ومطالبته بالانسحاب منها.

ورغم الموقف الإثيوبي المتعنت ورفض أي حلول واستقوائها باتفاقية السد، يرفض السيسي تماما دعوات المصريين لإلغائها، كي ينزع الشرعية عن السد، ويصبح بلا سند قانوني، ما يعطي مصر حق الحل العسكري.

لا يرفض السيسي فقط الانسحاب من الاتفاقية، لكنه يرفض أيضا الإيعاز لبرلمانه الذي تشكل تحت أعين أجهزته الأمنية، برفض التصديق عليها، كمخرج للانسحاب منها بما يحفظ ماء وجهه.

تحذير خبراء عسكريين من صعوبة القيام بأي عمل عسكري ضد السد لو تم التغاضي عن الملء الثاني في 22 يوليو/تموز 2021، ولم يتبق سوى نحو شهر على ذلك لم يشفع أيضا للسيسي بالتحرك.

رفض السيسي الانسحاب من الاتفاقي واستخدام الورقة الأخيرة لحفظ حقوق مصر، بعد استبعاده الخيار العسكري، يطرح تساؤلات عدة، فهل هناك بنود سرية أو تعهدات أخرى وقع عليها السيسي ولا يعلم الشعب عنها شيئا؟

وثيقة "حمزة"

فيما يتساءل الجميع عن سر رفض السيسي إلغاء اتفاقية السد، خرج المهندس ممدوح حمزة عبر فيسبوك، مظهرا وثيقة أميركية قال إنها جاءته من جهة سيادية تؤكد أن السيسي وقع على بند في الاتفاقية يقلص حصة مصر المائية.

بموجب هذه الوثيقة، سيمر لمصر 13.5 مليار متر مكعب وليس 55.5 كما هي حصتها التاريخية في اتفاقيات 1929 و1959، ما يعني التنازل عن 42 مليارا.

الوثيقة، وهي مسودة لاتفاقية واشنطن التي وقعت عليها مصر فقط دون إثيوبيا أو السودان، والتي عرضها حمزة، تبدو كتنازل رسمي من مصر لإثيوبيا.

لهذا اتهم المهندس حمزة -الذي يعيش خارج مصر بعد صدور أحكام قضائية ضده- السيسي بـ"الخيانة"، بعد كشفه الوثيقة.

وقال إنه لا يعترف بما يروج له الآن "إعلام سامسونج" الاستخباري المصري، ولا يريد أن يصنف السيسي سوى بـ"الغبي" قائلا: "أي وصف آخر غير الغباء سيكون جارحا جدا".

وشدد حمزة على أن "الحل هو الانسحاب الفوري من الاتفاقية"، قائلا للسيسي: "وجود أي سد بأي حجم لأي غرض على النيل الأزرق يعني نهايتك وربما محاكمتك".

حمزة كشف أيضا مخاطر السد، وتفاصيل "التصميم العدائي" له وكيف أن فتحات السد لن تمرر تصرفات النيل الأزرق بالكامل، كما عرض أبحاثا أجنبية دولية تشير إلى أن السد متعدد الأغراض، منها التخزين والزراعة وبيع المياه.

تكشف أن إثيوبيا ستبني 4 سدود، اثنان منها للتخزين، وأحدهما سد النهضة، وواردات مصر من المياه ستكون فائضة فقط من برنامج الملء الإثيوبي.

وقال حمزة: إنه "بدون السد يمر 60 مليار متر مكعب مياه من إثيوبيا، لكن بوجود السد ولتوليد الكهرباء سيمر 48 مليار متر مكعب، ما يعني ضياع 12 مليار متر مكعب مياه على مصر والسودان".

وأضاف "بعد مرور عدة سنوات ستمر 15 مليار متر مكعب مياه فقط بدل 60 بدون السد، وحين تعمل التوربينات العلوية مع تعلية المياه لن يمر سوى 6 مليارات متر مكعب".

وهاجم حمزة سلطة النظام: "انتوا بتتفاضوا على إيه؟ .. مصر هتضيع، وسنبدأ بالشعور بالذل من نقص المياه في سبتمبر/أيلول 2023".

تصريحات المهندس المقيم خارج مصر، سببت إزعاجا للدوائر الحكومية لدى نظام السيسي، ليتم الدفع أولا بالإعلاميين المقربين من السلطة أحمد موسى ونشأت الديهي للهجوم عليه.

وحين ردت وزارة الري ودخلت معه في سجال حول كمية المياه التي تسمح بمرورها توربينات سد النهضة، حذفت لاحقا الفقرة الأخيرة التي تنفي المعلومات التي ذكرها حمزة، ما أثار استغراب المصريين من دفاع وزارتهم عن السد الإثيوبي!.

خسارة 40 بالمئة

دراسة أخرى نشرها خبير الفضاء والتربة بوكالة ناسا، الدكتور عصام حجي، الذي سبق له طرح مبادرة رئاسية لانتخابات 2018 "لكن لم تنجح". 

وأورد حجي تفاصيل دراسة قام بها مع آخرين نشرت في مجلة iopscience العلمية في 11 يونيو/حزيران 2021، حول آثار سد النهضة على مصر في حال عدم معالجة العجز المائي.

ورصد فيها حدوث عجز مائي متوسط يقارب 40 بالمئة من الموازنة المائية السنوية التي تصل مصر، وتراجع الرقعة الزراعية بنسبة تصل إلى 72 بالمئة، ووصول معدل البطالة إلى 25 بالمئة، وانخفاض الناتج القومي للفرد بنسبة تصل إلى 8 بالمئة.

وأشارت دراسة "حجي" لفقدان مصر ما يقرب من نصف حصتها المائية من نهر النيل إذا ما تم الملء بسرعة خلال سنوات قليلة، والعجز المائي حوالي 31 مليار متر مكعب في السنة، أي أكثر من ثلث إجمالي ميزانية المياه الحالية لمصر. 

وأعاد نشر دراسة سابقة في "الجزيرة الإنجليزية" عام 2020 حول "إنقاذ النيل" تشير للآثار الخطيرة لسد النهضة على أرض مصر قبل وبعد تشغيله.

وأكد أنه "إذا تم ملء السد على مدار 21 سنة (في أفضل سيناريو لمصر) فسيزداد العجز المائي في مصر بمقدار 3 مليارات متر مكعب سنويا، أو ما يقرب من 5 بالمئة من حصة البلاد السنوية من النهر". 

ثغرات الاتفاق

وينص الاتفاق على 10 بنود أو مبادئ، بعضها يتعلق بدراسات الخبراء لسلامة السد ودراسات فنية وتبادل المعلومات والبيانات، وغيرها، بيد أن كل هذا تم التغاضي عنه واختصاره في بند واحد يجري التفاوض حوله وهو ملء السد!.

وأول البنود التي يمكن اعتبارها ثغرة في اتفاق المبادئ، هو البند الثالث المتعلق بالتعامل مع وقوع الضرر.

وبحسب النسخة الرسمية المنشورة على موقع الهيئة العامة للاستعلامات، التابعة لرئاسة الجمهورية المصرية، لا يمنح البند الدول المتضررة (مصر والسودان) صلاحية التدخل لمنع وقوع أي ضرر.

ويكتفي البند بإجبار الدول الراعية للسد على "مناقشة مسألة تخفيف الضرر أو التعويض بعد حدوثه"، وهو ما يتوج الشرعية الكاملة لإثيوبيا في البناء دون ضمان أو رقابة. 

هناك ثغرة أخرى في البند الرابع للاتفاقية، فيما يخص تقرير المكتب الاستشاري لبناء السد، في كلمة "تحترم إثيوبيا" بدلا من "تلتزم"، ما يجعل أي اعتراض حول الجوانب الفنية بلا قيمة قانونية.

حين أعلنت إثيوبيا أنه يحق لها البدء في الملء الأول للسد دون اتفاق، بادعاء أن الاتفاق ينص على "إخطار" دولتي المصب بتشغيل السد، وليس "استشارتهما أو استئذانهما"، ظهرت ثغرة أخرى، لذا لم يصدر رد فعل مصري قوي.

عقب الملء الأول للسد، بإرادة إثيوبية منفصلة ودون اتفاق مع مصر والسودان، تغاضى نظام السيسي عن ذلك رغم أن المبدأ الخامس من الاتفاقية ينص على "التعاون في الملء الأول وإدارة السد".

هذا البند نص على ضرورة "الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة، والتي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد"، لكن مر الملء الأول بلا اعتراض.

ولم ينص الاتفاق على الملء الثاني أصلا، لكن إثيوبيا تستند لعبارة غامضة حوله بالقول: "الاتفاق على الخطوط الإرشادية... والتي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر"، برغم أنه لا يوجد اتفاق تم أصلا!.

ووسط صمت نظام السيسي ومرور الوقت، أنقذته إثيوبيا بإعلان أن ظروفا فنية تتعلق بعدم اكتمال تعلية السد، ستجعل الملء الثاني غير مكتمل ويقف عند 4 مليارات متر مكعب (بدل 13.5 كما كان مقررا) ومع هذا ظل الموقف المصري هادئا.

وقبل ذلك أعطى وزير الخارجية المصري سامح شكري لإثيوبيا الضوء الأخضر للملء الثاني بتأكيده في 19 مايو/ أيار 2021 أن بلاده لن تتأثر بالملء الثاني لأن "لدينا رصيدا في خزان السد العالي"، ما يعد "تسليم تمام" بحق إثيوبيا في الملء.

ثغرة أخرى في البند الخامس تهدم كل التحركات المصرية نحو مجلس الأمن، حيث يشترط البند حال اختيار جهة للوساطة بين الأطراف الثالثة موافقة الجميع.

هذا الشرط يعني إجهاض فكرة التحرك المنفرد نحو مجلس الأمن التي لجأت لها مصر للمرة الرابعة 12 يونيو/حزيران 2021.

وأخطر ثغرات الاتفاق وفقا لرواية المستشار القانوني للخارجية المصرية محمد هلال، بموقع opiniojuris 4 مايو/أيار 2020 هي "عدم سعي مصر لانتزاع أي اعتراف من إثيوبيا بالمعاهدات التي تضمن حقوق مصر المائية (1929 و1959)".

وقال هلال: "في غياب بند واضح باتفاق المبادئ حيال اتفاقيتي 1929 و1959، تصر إثيوبيا على إلغائهما وعدم الاعتراف بهما، وتعتبر اتفاق 2015 موافقة من دولتي المصب على إنشاء أديس أبابا أي سدود قادمة".

بالمقابل، تعتبر القاهرة "إعلان المبادئ" معاهدة قاصرة على اتفاق الدول الثلاث حول ملء وتشغيل سد النهضة، ولا علاقة لها بمسألة إعادة توزيع مياه النيل من جديد. 

لهذا لا يرى سامح شكري أن اتفاقية 2015 أضاعت الحقوق المائية لمصر في مياه نهر النيل، قائلا لقناة "صدى البلد" في 12 يونيو/حزيران 2021 إن "الاتفاق وضع الإطار القانوني الذي نرتكن إليه الآن، وبدونه لم يكن هناك أي طريقة لقياس مدى التزام إثيوبيا"، التي رأى أنها خالفته.

آراء خبراء

دبلوماسي مصري شارك في جلسات التفاوض المصرية الإثيوبية السودانية الأخيرة أبلغ "الاستقلال" أن "أجواء التفاوض كانت عقيمة وتوحي أنهم لا يريدون اتفاقا".

وقال الدبلوماسي، طالبا عدم ذكر اسمه، إنهم "يشعرون أن إثيوبيا تملي إرادتها على مصر، بحيث تمر عمليات ملء السد سنويا دون موقف مصري حازم فتصبح لها اليد العليا وتفرض إرادتها في الملء بلا اتفاق".

وأضاف أن "إثيوبيا تستهدف من التسويف الوصول إلى اليوم الذي يصل فيه منسوب بحيرة السد حد صعوبة استهدافها بعمل عسكري".

وأوضح الدبلوماسي أن إثيوبيا كانت تعتزم في الملء الثاني (دون اتفاق) ملء السد بـ13.5 مليار متر مكعب مياه، ليصبح بها 18.4 (بعد الملء الأول في يوليو/تموز 2020 بـ4.9 مليارات متر مكعب).

وأرجع هدف ذلك إلى  "تصعيب أي حل عسكري مستقبلا، لأن الملء الثاني يجعل أي خطط مصرية للضغط على إثيوبيا بعد هذا التاريخ عديمة الجدوى، بما فيها ضرب السد عسكريا".

وأوضح أن "قدرة سد الروصيرص السوداني، الذي يقع على بعد 15 كلم فقط من النهضة، 7.4 مليارات متر مكعب، ولو تعرض السد الإثيوبي لعمل يهدمه ويخرج مياهه الـ 18.4 مليار متر مكعب، ستغرق هذه المياه أجزاء كبيرة من السودان".

واعتبر الدبلوماسي أن "إعلان إثيوبيا عدم قدرتها هذا العام على ملء 13.5 مليار متر مكعب المعلن عنها سابقا لعدم انتهاء تعلية خزان السد، والاكتفاء بـ4 مليارات، هو خرق للاتفاق وترحيل للأزمة للعام المقبل، لأن المشكلة ليست كمية المياه المخزنة بقدر ما هي توقيع اتفاق".

ورفض المصدر التعليق على أسباب رفض السيسي القيام بأي تصعيد ضد تسويف إثيوبيا باستثناء بيانات الرفض والشكوى لمجلس الأمن، رغم تأكيده أنها "غير مجدية" في تغيير الموقف الإثيوبي.

فرض للإرادة

أستاذ الجيولوجيا والموارد المائية بجامعة القاهرة، عباس شراقي، نبه ضمنا إلى أن "أي تخزين من جانب إثيوبيا للمياه، دون اتفاق موقع مع مصر والسودان، هو فرض للإرادة".

وأوضح في حديث مع "الاستقلال" أن "التخزين دون اتفاق بأي كمية مرفوض من مصر والسودان حتى ولو كان بمليار متر مكعب".

وأكد أن "إعلان إثيوبيا عزمها تخزين 18.5 مليار متر مكعب عند منسوب 595 متر تم بموافقة مصر والسودان فى واشنطن على هذه الخطوة ضمن باقي البنود، إلا أن إثيوبيا تغيبت عن التوقيع وبالتالي ألغي كل شيء".

وهذا يؤكد ما قاله المهندس حمزة، عن موافقة مصر في الوثيقة الأميركية على الملء والتنازل عن كميات ضخمة من مياه النيل لصالح إثيوبيا.

"شراقي" قلل من تحركات إثيوبيا وأفاد بأن تعلية السد الحالية "بلا فائدة" ولن يتمكنوا من حجز كميات مياه كبيرة، مشيرا إلى بناء أديس أبابا 8 أمتار بدلا من 30 مترا بنسبة 27 بالمئة، ما يعني حجزهم 4 مليارات متر مكعب في يوليو/تموز 2021 بدلا من 13.5 مليار متر مكعب أي بنسبة 30 بالمئة من المستهدف هذا العام، ولم تنته هذه الخطوة حتى الآن.

وذكر بيان وزارتي الخارجية والري بمصر والسودان في 9 يونيو/حزيران 2021 حول فشل المفاوضات برعاية الاتحاد الإفريقي على مدار عام كامل، بشأن سد النهضة، ووصولها إلى "طريق مسدود"، يمهد الطريق نحو مجلس الأمن.

واعتبر طلب إثيوبيا تدخل الاتحاد الإفريقي في البداية "نية خبيثة" لإبطال جلسة مجلس الأمن وسحب الملف منه، واتهم الاتحاد الإفريقي بأنه "أضاع ما كسبناه في واشنطن بعد توقيع مصر على الاتفاق وتغيب إثيوبيا".