ناجي العلي.. رسام كاريكاتير فلسطيني تنبأت ريشته بخيانة الإمارات

آدم يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

29 أغسطس/آب 2020، يوافق الذكرى 33 لوفاة رسام الكاريكاتير الشهير ناجي العلي، الذي تم إطلاق الرصاص عليه في أحد شوارع لندن بالقرب من مكتبه في جريدة القبس الدولية في 29 أغسطس/آب 1987، عن عمر يناهز 51 عاما.

كان العلي رساما ساخرا من الطراز الرفيع، حيث كان يوجه رسائل قاسية للأنظمة السياسية عبر رسوماته الناطقة أحيانا، والصامتة أحيانا أخرى، وقد كان صمت رسوماته أشد على المستهدفين من نطقها.

انتقد العلي الأنظمة العربية بطريقته الخاصة، فكشف قبح طغيانها، وسخر من ممارساتها، بكلمات سلسة، وعبارات رشيقة، لكنها كانت أشد وقعا من الرصاص، فشاعت رسوماته وذاع صيته، حتى أصبح مطاردا ومهددا بالقتل.

كمواطن فلسطيني، كانت رسوماته تستهدف، في بادئ الأمر، القيادات الفلسطينية في منظمة التحرير، ثم توسعت لتشمل الأنظمة العربية الديكتاتورية، والشخصيات السياسية، والكيان الصهيوني المحتل.

ورغم مضي أكثر من 33 عاما على اغتياله، إلا أن رسوماته ما تزال حاضرة، وتبرز مع كل مناسبة وحدث سياسي، كعبارته الشهيرة "أخشى أن يأتي زمان تعتبر فيه الخيانة وجهة نظر"، وهي العبارة التي برزت مجددا وتناولتها مواقع التواصل الاجتماعي بالتزامن مع إعلان الإمارات التطبيع مع إسرائيل.

"الخيبة الأخيرة"

برز اسم العلي مؤخرا وعادت أعماله للظهور مجددا بالتزامن مع اتفاقية التطبيع التي أعلنتها الإمارات مع إسرائيل في 13 أغسطس/آب 2020.

من خلال أعماله الفنية ورسوماته الكاريكاتورية، ناهض العلي التطبيع ورفض تقديم أي تنازلات تشرعن للوجود الصهيوني الغاصب، وشن هجوما حادا على الأصوات التي تدعو للتطبيع مع إسرائيل.

موقف العلي من التطبيع كان صارما، إلى المستوى الذي دفعه لوصف الظهور العربي في وسائل الإعلام الإسرائيلية بـ"الخيانة"، لأنه يمثل اعترافا ضمنيا بشرعية الوسيلة الإعلامية التي تمثل دولة مغتصبة.

ووصف العلي الشاعر الفلسطيني محمود درويش بـ"الخيبة الأخيرة"، عندما أجرى الأخير مقابلة مع صحيفة عبرية، وعلى غرار قصيدة درويش "بيروت خيمتنا الأخيرة"، قال ناجي العلي: "دوريش خيبتنا الأخيرة".

كان العلي يخشى أن يمهد أي تطبيع جزئي مع تل أبيب إلى تطبيع عام، فكان عادة ما يصف المطبعين بـ"الخونة والشياطين"، ويقول عنهم: "لا يستحقون إلا اللعنة والقذف بالحجارة".

البداية 

بدايته الفنية كانت على جدران السجون الإسرائيلية، حيث تم اعتقاله وهو صغير، وهناك ملأ حوائط الزنزانة بالرسوم الكاريكاتورية الساخرة، ثم استأنف مسيرته على جدران الزنازين اللبنانية، حيث تم اعتقاله على خلفية مشاركاته في المظاهرات، حينما كان لاجئا في مخيم عين الحلوة جنوبي لبنان.

في الاحتفال الشعبي الذي أقيم بمناسبة "يوم فلسطين" بالمخيم عام 1961، التقى ناجي مع الأديب والكاتب الفلسطيني غسان كنفاني الذي كان يكتب حينها لعدد من المجلات، من بينها مجلة "الحرية" اليسارية الفلسطينية الذي كان مسؤولا ثقافيا فيها.

كان للشاب العشريني ناجي العلي معرضا بسيطا، يعرض فيه رسوماته التي جذبت أنظار كنفاني، من بينها رسمة لخيمة على شكل هرم، ويعتليه قبضه تطالب بالنصر والثأر واسترداد الحق، فأعجبته شخصية الرسام، وموقفه الصلب، فنشر رسمته تلك في مجلة "الحرية".

بعد الرسمة التي نشرت حينها في العدد 88 بمجلة الحرية في 25 سبتمبر/أيلول 1962، نشر كنفاني عملين آخرين للعلي، فجاءته بعد ذلك بعامين فرصة عمل في الكويت، فاتجه إليها وعمل رساما كاريكاتوريا بمجلة "الطليعة" الكويتية القومية اليسارية.

وبعد 5 سنوات من العمل في مجلة الطليعة، انتقل إلى للعمل في صحيفة "السياسة" الكويتية، وظل يرسم الكاريكاتير فيها حتى عام 1975، لينتقل بعد ذلك إلى جريدة القبس الكويتية ويعمل فيها لمدة عامين.

وفي عام 1985 انتقل إلى بريطانيا، للعمل في جريدة القبس الدولية، بعد أن تلقى كثيرا من المضايقات والتهديدات بالقتل، وهناك وجد مساحة حرية أوسع، فأطلق لريشته العنان، وبدأ بإيلام الأنظمة الديكتاتورية برسوماته وعباراته الساخرة، التي كانت حديث النخب المثقفة.

أيقونة "حنظلة"

خلال مسيرته الفنية الكاريكاتورية الساخرة، رسم العلي أكثر من 40 ألف رسم كاريكاتوري، انتقد فيها الحالة الديكتاتورية لدى الأنظمة العربية بطريقة ساخرة، وهاجم عددا من الحكام والمسؤولين العرب، ونقل هموم الشعوب العربية، وتناول القضية الفلسطينية في معظم رسوماته.

كانت أيقونة حنظلة التي رسمها العلي في عام 1969، أثناء عمله في جريدة السياسة الكويتية، هي الاختراع الفني الأبرز والابتكار الأشهر، حيث كان معبرا عن الحالة الثورية للشعب الفلسطيني.

كانت أيقونة "حنظلة" تدل على طفل في العاشرة من عمره، يدير ظهره للخلف، ويعقد يديه خلف ظهره، ويرتدي ثيابا رثة ومرقعة، للدلالة على المعاناة التي يعيشها الأطفال، والتي تعد دافعا لاستمرار عملهم الثوري ونضالهم حتى استرداد حقوقهم.

غموض شخصية "حنظلة" الذي لا يظهر إلا من الخلف، كان أمرا جذابا بالنسبة لكثير من النخب المثقفة والقراء، وكانت وضعية يديه إلى خلف ظهره، تدل على أن الطفل مثقل بالهموم، وفي نفس الوقت مليء بالعزيمة والإصرار.

مثلت هذه الشخصية أيقونة ثورية، وارتبطت بشخصية العلي، وكانت دالة عليه، حيث كان في ذات العمر عندما تم تهجيره من فلسطين، ومنحت العلي أملا بالعودة، حيث كان يردد، نحن نكبر لكن الطفل لن يكبر، وسيعود لبلده يوما.

أصبحت تلك الأيقونة رمزا وشعارا لعدد من الحركات الثورية داخل فلسطين وخارجها، وعلى رأسها الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (بي دي إس).

رحيل مبكر

لم يدم العلي طويلا في بريطانيا، وفي 22 يوليو/تموز 1987، أي بعد نحو عامين من انتقاله إلى بريطانيا، أصابته رصاصات غادرة من طرف مجهول، في منطقة نايتسبريدج وسط لندن، عندما كان يترجل من سيارته باتجاه مكتبه في مجلة القبس الدولية، ليتوفى بعدها بـ38 يوما متأثر بإصابته، ويدفن في  مقبرة بروكود الإسلامية بلندن.

ما يزال قاتله طليقا، وما تزال الجهة المنفذة مجهولة، كما لم تكشف ملابسات اغتياله حتى الآن، رغم إعادة الشرطة البريطانية فتح ملف التحقيق بقتله عام 2017.

يرجح مراقبون وقوف الموساد الإسرائيلي خلف الحادثة، وذلك ضمن قائمة القوميين العرب الذين استهدفهم جهاز الموساد، وهو ما أشارت إليه صحيفة يديعوت أحرونوت، عندما نشرت عقب فشل الموساد في اغتيال خالد مشعل، قائمة بالعمليات الناجحة التي قام بها الموساد، وكان اسم ناجي العلي من ضمن القائمة.

تأتي تلك الاتهامات في مقابل اتهامات أخرى بتورط منظمة التحرير الفلسطينية، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بتصفيته، على خلفية الانتقادات اللاذعة والهجوم الشديد الذي كان العلي يوجهه للمنظمة الفلسطينية، بسبب ما اعتبرها تنازلات ومواقف انهزامية من قبل المنظمة تجاه القضية الفلسطينية. 

ويشيع في الأوساط  الفلسطينية أن الرئيس الراحل ياسر عرفات بعث برسالة تهديد للعلي عبر عدة أشخاص، من بينهم محمود درويش، وذلك للضغط عليه وإيقاف انتقاداته وهجومه الذي كان قد تنامى في الفترات الأخيرة قبل اغتياله.

التحقيقات البريطانية كشفت أن الشاب الذي أطلق النار على العلي يدعى "بشار سمارة"، وأنه كان منتسبا إلى منظمة التحرير، وفي نفس الوقت كان عميلا للموساد، غير أن ذلك الاسم كان حركيا، ولم يعرف اسمه الحقيقي ولا الجهة التي تقف وراء اغتيال العلي حتى اللحظة.

رحيل العلي أثار موجة من الحزن والرثاء معا، فقد رثاه صديقه العراقي الشاعر أحمد مطر، وكذلك مظفر النواب وعبد الرحمن الأبنودي، وعديد من الشعراء والأدباء والأصدقاء، كما سجلت السينما العربية حياته في فيلم مصري فلسطيني مشترك عام 1992 بطولة الفنان المصري الراحل نور الشريف.

حامض الفوسفور

ولد ناجي سليم حسين العلي عام 1937 في قرية الشجرة الواقعة بين مدينتي طبريا والناصرة، في مدينة الجليل الفلسطينية، وهجر من قريته في النكبة عام 1948، وكان عمره حينها 11 عاما، فنزح مع عائلته التي كانت تعمل بالزراعة باتجاه مخيم عين الحلوة جنوبي لبنان، تاركا وراءه قريته ومنزله وأشجار الزيتون وكل ذكرياته، التي كان لفراقها القسري وقع أليم ودام على قلبه.

تلقى العلي تعليمه الابتدائي في مدارس صيدا، لكنه سرعان ما انقطع بسبب الاعتقالات التي كانت تطاله وهو صبي، غير أنه تمكن في شبابه من استئناف الدراسة في لبنان، فحصل على شهادة في ميكانيكا السيارات من طرابلس، كما درس الرسم في الأكاديمية اللبنانية عام 1960.

تزوج العلي من وداد صالح نصر، من بلدة صفورية الفلسطينية، وأنجب منها 4 أولاد، هم خالد وأسامة وليال وجودي.

عمل رساما لأكثر من 25 عاما، وانتخب رئيسا لرابطة الكاريكاتير العربي في عام 1979، وأصدر 3 كتب ضمن مجموعة من رسوماته المختارة، وأعاد ابنه خالد إنتاج رسوماته في عدة كتب جمعها من مصادر كثيرة، وتم ترجمة العديد منها إلى الإنجليزية والفرنسية ولغات أخرى.

حصل العلي على العديد من الجوائز، من بينها الجائزة الأولى في معرضي الكاريكاتير للفنانين العرب في دمشق عامي 1979 و1980، وصنفته صحيفة أساهي اليابانية كأحد أشهر 10 رسامين للكاريكاتير في العالم.

وقالت الصحيفة: إن "ناجي العلي يرسم بحامض الفوسفور" في إشارة إلى صراحته المباشرة في رسوماته، في حين قالت عنه مجلة التايم الأميركية: إنه الرجل الذي يرسم بعظام البشر.

وقالت عنه صحيفة نيويورك تايمز: "إذا أردت أن تعرف رأي العرب في أميركا فانظر في رسوم ناجي العلي"، بينما قال عنه الاتحاد العالمي لناشري الصحف: "إنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير منذ نهاية القرن الثامن عشر".