مهاتير محمد.. حقق نهضة ماليزيا وحارب الفساد وترك السلطة مرتين

أحمد يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قدم رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، استقالته من منصبه لملك البلاد، في 24 فبراير/شباط 2020، وهو ما جاء مبكرا عن الموعد الذي أطلقه في 19 فبراير/ شباط 2020، عندما أعلن اعتزامه ترك منصبه عقب قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي "إيبك"، في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، لكنه فاجأ الجميع وقدم موعد استقالته.

بعد فوزه في الانتخابات العامة في 9 مايو/ آيار 2018، وعد مهاتير محمد في خطابه بأنه سوف يترك منصبه لرئيس حزب العدالة الشعبية أنور إبراهيم، بعد عامين وفقا لقرار الائتلاف الحاكم. 

استقالة مهاتير المبكرة جاءت في ظل حالة من الغموض بعدما انسحب حزبه السياسي من الائتلاف الحاكم في البلاد (تحالف الأمل)، وإجراء محادثات مفاجئة مع أحزاب معارضة وأعضاء داخل حزب أنور إبراهيم لتشكيل حكومة جديدة.

البناء الفكري

مهاتير محمد البالغ من العمر 94 عاما، لعب دورا بارزا في الحياة السياسية الماليزية، منذ قرابة نصف عقد من الزمن، ونجح في تحقيق نهضة كبرى لبلاده على جميع المستويات، ووضعها في مصاف الدول الصناعية المتقدمة، والنمور الآسيوية البارزة.

بنى رئيس الوزراء الماليزي معالم أفكاره، على أيديولوجية واضحة، قائمة على التوجه الوطني الإسلامي، قائلا: "إذا كنا جميعا علماء دين فمن سيقوم بتصنيع الطائرات والصواريخ والسيارات وأدوات التكنولوجيا الحديثة؟".

مضيفا: أنه "يجب أن يكن هناك علماء في التجارة وفي العلوم التقنية الحديثة وفي كل مجالات المعرفة، ولكن على أساس من التعاليم الإسلامية". وكان ذلك سببا مباشرا في خوضه معارك متعددة للحفاظ على هوية شعبه الإسلامية.

انتقد مهاتير نظام العولمة الغربي ووصفه بالدمار الأخلاقي، وحذر من أخطار تلك العولمة المهددة للثقافات المحلية، لأن التجارة تؤثر في الثقافة، وأن بلاده تمثل معبرا اقتصاديا وتجاريا هاما، يتعرض للكثير من الثقافات، والأطروحات الواردة من الخارج شرقا وغربا، من الصين وروسيا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.

وهو ما جعله ينظر في كتبه حول تلك المسائل، بجانب نظرياته الاقتصادية والعملية لتحرير البلاد، وتطويرها. 

صانع الثورة

ولد مهاتير محمد في 20 يونيو/حزيران 1925 في ألور سيتار بولاية كيداه بماليزيا، لأسرة والدها معلم مدرسة من أصول هندية، ووالدة ملايوية ربة بيت.

درس الطب البشري في كلية السلطان عبد الحميد بماليزيا، ثم التحق بعدها بكلية الملك إدوارد السابع الطبية في سنغافورة (حاليا جامعة سنغافورة الوطنية) وتخرج فيها عام 1953، ثم عاد إلى مقاعد الدراسة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1967 ليتخصص في العلاقات الدولية.

في عام 1970 أثار الجدل في بلاده، بإصداره كتاب "معضلة الملايو"، الذي انتقد فيه شعبه بقوة، ودعاه إلى العمل، وامتلاك أسباب القوة، وإحداث ثورة صناعية، فارقة في تطلعاته المستقبلية. ولم تكن دعوة الرجل، بعيدة عن سلوكه، ومساره العملي، فقد التزم بسياق أفكاره الرامية إلى صناعة نهضة حقيقية لبلاده.

ويعود صعود مهاتير محمد، داخل أروقة صنع القرار السياسي في بلاده، مع انتخابه عضوا في البرلمان الاتحادي الماليزي، عن دائرة كوتا سيتار سيلاتان عام 1964.

وفي عام 1973 تم تعيينه عضوا في مجلس الشيوخ، غير أنه تنازل عن العضوية بالمجلس للمشاركة في الانتخابات البرلمانية 1974، وفاز فيها، وفي العام الموالي انتخب مساعدا لرئيس حزب "منظمة الملايو الوطنية المتحدة"، ثم نائبا له 1978 قبل أن يصبح رئيسا للحزب 1981. 

رئيسا للوزراء

وفي 16 يوليو/ تموز 1981، تولى مهاتير محمد منصب رئيس الوزراء بعدما استقال حسين أون، وسرعان ما أعطى الأولوية للتعليم والبحث العلمي في خطته الحكومية، وخصص له ميزانية كبيرة، واهتم بمحو الأمية وتعليم اللغات، بالإضافة إلى التأهيل الحرفي والمهني، والبعثات العلمية بإرسال نخبة من الطلبة الماليزيين للدراسة في الجامعات الأجنبية.

قال عنه عادل الجوجرى صاحب كتاب "مهاتير محمد.. النمر الآسيوي من شاب متمرد إلى بطل إسلامي": "النضال بالعلم والتكنولوجيا هو الإنجاز الأكبر في تجربة مهاتير محمد، الرجل بنى بلاده على القيم الإسلامية والحضارية بدون شعارات ودعاية سياسية". 

وهو ما ظهر عندما أدخلت الحكومة الماليزية في عهده الحاسب الآلي ووفرت شبكة الإنترنت في أغلب المدارس الماليزية، وأنشأت مدارس ذكية تتوفر على مواد دراسية تساعد طلابها على تطوير مهاراتهم بمواد متخصصة في شبكات الاتصال وأنظمة التصنيع.

تم في عهده إنشاء أكثر من 400 معهد وكلية جامعية خاصة، وتقوية العلاقة بين مراكز البحوث والجامعات والقطاع الخاص، وخلال 22 عاما من ولايته استطاع أن يحقق مكانة لبلاده بين الدول الصاعدة.

ارتفع بالاحتياطي النقدي من 3 مليارات إلى 98 مليارا، ووصل حجم الصادرات إلى 200 مليار دولار، وبات قطاعا الصناعة والخدمات يساهمان بقرابة 90% من الناتج المحلي الإجمالي لماليزيا. 

وفي 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2003، أعلن تنازله عن السلطة واعتزاله العمل السياسي طواعية، وهو في سن 76 عاما. وحصل مهاتير محمد على أوسمة وألقاب عديدة، أبرزها لقب "تون" وهو أعلى تكريم لشخصية مدنية في ماليزيا.

عودة العجوز

وبعد نحو 15 عاما من اعتزاله المشهد السياسي، عاد مهاتير مرة أخرى لكن من صفوف المعارضة بعد أن أثار غضبه فضيحة فساد كبرى تورط فيها رئيس الوزراء نجيب عبد الرزاق، حيث وجدت المعارضة في مهاتير الملاذ الوحيد للخلاص من فساد رئيس الوزراء.

وفي مايو/آيار 2018، فاز تحالف المعارضة بزعامة مهاتير بالانتخابات البرلمانية التي جرت في ماليزيا، وهو ما كفل له العودة إلى منصب رئاسة الوزراء، الذي شغله لمدة عقدين من الزمن، وخلال ولايته الثانية، رفع شعار مقاومة فساد الحكومة السابقة. 

ورصد تقرير نشرته صحيفة الجارديان البريطانية أن رئيس الحكومة الماليزية السابق نجيب عبد الرزاق، أنفق خلال فترة حكمه مليارات الدولارات بشكل غير مشروع في جميع أنحاء العالم على كل شيء، من العقارات والفنادق في مانهاتن، إلى اليخوت ولوحات بيكاسو وألماس وأفلام هوليود.

ورغم أن الرجل نفى علمه بهذه الأموال، إلا أن حساباته البنكية الخاصة أكدت أنه يمتلك أكثر من مليار دولار. وحسب الجارديان فإن عبد الرزاق يحاكم في 42 تهمة جنائية، منها 27 تهمة بغسل الأموال، و9 مخالفات جنائية للثقة، و5 لإساءة استخدام السلطة، وواحدة من أجل التلاعب في التدقيق. 

معركة الإمارات

المعارك التي يخوضها رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، ضد الفساد، لم تتوقف على الجبهات الداخلية، بل امتدت خارجيا، ففي 10 يناير/ كانون الثاني 2019، عقدت رئيسة هيئة مكافحة الفساد الماليزية (التي شكلها مهاتير محمد) مؤتمرا كشفت فيه عن تسجيلات صوتية تُظهِر ولي العهد الإماراتي محمد بن زايد يعِد رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب عبد الرزاق، بالمساعدة على التغطية على قضية فساد تورط فيها نجل زوجته بالولايات المتحدة.

وأظهر التسجيل الذي عُرِض في مؤتمر صحفي عقدته رئيسة هيئة مكافحة الفساد لطيفة كويا، عبد الرزاق يطلب من ابن زايد تحويل مبالغ مالية إلى (رضا عزيز ابن زوجته المقيم في نيويورك)، في شكل هدية من ولي العهد الإماراتي لتغطية نفقات إنتاج فيلم في هوليوود بما يُقدَّر بملايين الدولارات.

وهو ما دعا الكاتب الماليزي "جوزيف كاوس جونيور" للقول في مقال نشره بصحيفة "thestar" اليسارية الماليزية: إن "أفضل إنجاز لمهاتير محمد، والذي يعرف في اللغة الماليزية باسم "باكاتان هارابان"، هو نجاحه في التصدي للفساد الذي انتشر خلال حكم سلفه عبد الرزاق".

وأشار جونيور، إلى أنه "يكفي أن الأجانب لم يعودوا يصفون ماليزيا بأنها دولة لا تحارب الفساد، كما أن قضايا الفساد الكبرى المرتبطة بالصندوق السيادي الماليزي، اختفت، ولم يعد رئيس الوزراء يسرق الأموال من الصندوق، وأصبحت كوالالمبور قبلة لدول أخرى من أجل التعلم من تجربتها الواضحة". 

نهضة شاملة

على غرار الزعيم التركي الراحل نجم الدين أربكان، يؤمن مهاتير محمد بحلم النهضة الإسلامية الشاملة، ولذلك عقد شراكة وثيقة مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وعزز علاقات بلاده مع تركيا. 

وفي 26 يوليو/ تموز 2019، قال مهاتير محمد، في مؤتمر صحفي بالعاصمة التركية أنقرة، عقده مع أردوغان: إنه "عبر توحيد عقولنا وقدراتنا، يمكننا النهوض بالحضارة الإسلامية العظيمة التي كانت موجودة يوما ما، وذلك بالعمل المشترك بين ماليزيا وتركيا، وبالتعاون مع باكستان في الوقت ذاته".

وأكد أنه "يجب على هذه البلدان الإسلامية أن تكون جميعها متطورة، وينبغي على دولة ما أن تحقق هذا الهدف، واستكمل "نرى أن تركيا بلد مرشح في هذا الشأن".

وقال: إن "بلاده ستبقى صديقة لتركيا، وأن بلاده تتقاسم مع تركيا المنظور نفسه تجاه العديد من القضايا، خاصة إزاء فلسطين".

بعث مهاتير محمد، برسالة من إسطنبول إلى معظم أرجاء العالم الإسلامي، عندما شدد على ضرورة استقلال البلدان الإسلامية، معربا عن ثقته في أن "التعاون بين ماليزيا وتركيا سينقذ الأمة الإسلامية من الضغوط التي تتعرض لها".