"لوموند": الانتحار حرقا يتحول إلى سلاح ضد اليأس في تونس

12

طباعة

مشاركة

سلطت صحيفة "لوموند" الفرنسية الضوء على تكرار حوادث إضرام تونسيين النار في أنفسهم احتجاجا على الأوضاع المعيشية، وذلك بعد مرور تسع سنوات على وفاة محمد البوعزيزي، الذي كانت وفاته سببا باندلاع ثورات "الربيع العربي"، في 17 ديسمبر/كانون الأول 2010.

وقالت الصحيفة في تقريرها: إن "عبدالوهاب الجيلاني، الذي توفي في نوفمبر/ تشرين ثاني 2019، عن عمر يناهز 30 عاما، لا يملك والداه سوى صورة هوية لابنهما، في المسكن الذي ينيره مصباح معلق في سلك عبر الجدران، حيث تنهد والده قائلا: كان قلقا بشكل كبير، أصبح غير قادر على تحمل ذلك".

وأشارت إلى أنه رغم "الآلية 16"، وهو نظام أنشئ بعد الثورة التونسية لتوفير وظائف بدوام جزئي للعاطلين عن العمل، لم يتلق عبدالوهاب الجيلاني بدل الوظيفة لمدة عامين، دون الحصول على توضيح.

وقبل أربعة أشهر من المأساة، قال مسعود شرفي، ممثل الدولة المعين في جلمة، وهي مركز لمعتمدية تابعة لولاية سيدي بوزيد: "رأينا أن هناك مشاكل في ملفه، حاولنا التعامل معه وسيتم حل وضعه".

بعد ظهر أحد أيام شهر نوفمبر/ تشرين ثاني 2019، انطلق عبد الوهاب سيرا على الأقدام في حقل، على بعد أربعة كيلومترات من هذه المدينة في وسط تونس، لإضرام النار بجسده.

ونقلت الصحيفة عن حمودة حرزالي، أحد جيران العائلة، قوله: "حاولت سيدات يقطفن الزيتون مساعدته، ولكن بعد فوات الأوان، لقد عزل نفسه للقيام بذلك، لأن هذه هي المرة الثالثة التي يحاول فيها الانتحار".

وأراد هذا الرجل مساعدة عبد الوهاب من خلال إعطائه عربة لبيع البضائع لبعض الوقت حتى يجد حلا، لكن الأمر لم يجد نفعا، ولا تزال العربة متوقفة على بعد أمتار قليلة من المنزل.

ويتذكر أحد الجيران أثناء حديثه للصحيفة: "لقد رأيته يذهب إلى البلدية كل يوم ليطلب مستحقاته ومحاولة فهم وضعه، كانوا يقولون له دائما "في غضون شهر، سيتم تسوية وضعك"، لكن لم يساعده أحد باستثناء المندوب الجديد الذي وصل متأخرا.

الانتحار حرقا

نوهت الصحيفة الفرنسية إلى أن حادثة عبدالوهاب الجيلاني ليست فريدة في تونس، فهي تعيد إلى الذاكرة القصة المؤلمة لمحمد البوعزيزي الذي أشعلت وفاته، في 17 ديسمبر/ كانون أول 2010، نيران "الربيع العربي".

وبعد وقت قصير من عبد الوهاب، حاول رجل آخر أن يلقي بنفسه من على سطح بلدية جلمة، علانية هذه المرة، لكن منعه السكان من القيام بذلك. وفي عام 2019، انتحر عشرات الأشخاص، وفقا للصحافة المحلية.

لكن الانتحار حرقا لم يعد يحظى بإحصاءات رسمية منذ الذروة الأخيرة عام 2016 (كانت هناك نحو 100 حالة سنويا)، لكنها أصبحت الطريقة الثانية للانتحار (ما بين 15 و20 بالمئة من الحالات) بعد الشنق، وفقا للطبيبة النفسية فاطمة شرفي، رئيسة اللجنة الفنية لمحاربة الانتحار في وزارة الصحة.

وأكدت شرفي في حديث للصحيفة الفرنسية أن "النسبة ثابتة منذ عام 2011، رغم أنها لم تكن موجودة من قبل".

وعن تفسير هذه الظاهرة، يشير الأطباء والنفسيون في بعض الأحيان، إلى اللفتة الاحتجاجية من محمد البوعزيزي، وأحيانا إلى اضطرابات عقلية، ولكنهم أقلية، فغالبية من ارتكب هذه الأفعال، رجال تتراوح أعمارهم بين 25 و 35 سنة، كانوا في حالات عدم استقرار اجتماعي واقتصادي، وهي أمور ينتج عنها شعور قوي بالظلم.

وأضافت الصحيفة الفرنسية أن تكرار هذه الحوادث يكشف عجز الدولة عن تلبية آمال ثورة 2011، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية (معدل البطالة حوالي 15 بالمئة) أو سياسية.

ونقلت "لوموند" عن سامي وناس، الطبيب النفسي السابق في مستشفى الرازي بتونس، الذي عالج العديد من المرضى الذين نجوا من محاولات انتحار، قوله: "هذه الظاهرة مستمرة لأن تأثير الثورة ما زال قائما، ولا تزال هناك احتجاجات اجتماعية، وعدم رضا عن العملية الانتقالية".

وتذكر الصحيفة أنه في عام 2013، أدى انتحار عادل خزري، 27 عاما، في شارع بورقيبة بقلب تونس العاصمة، إلى قيام السلطات بتدبير غير فعال وهو حظر بيع البنزين بالتجزئة في محطات الوقود، إذ تمكن عبدالوهاب الجيلاني من الحصول على زجاجة من البنزين سعة لتر واحد.

من جهته، قال أمين الله مسعادي، الذي يعمل في مستشفى بن عروس بضواحي تونس العاصمة في حديث للصحيفة الفرنسية: "لا يزال الوصول إلى أنواع معينة من الوقود أو السوائل القابلة للاشتعال، وهي الوحيدة المستخدمة في البلاد للانتحار حرقا، سهلا إلى حد ما، مقارنة بالعقاقير على سبيل المثال".

هذا الطبيب الذي لا يرغب في إعطاء تفاصيل عن الأرقام يضيف: "لقد ساهمت وسائل الإعلام في جعل هذه المسالة ظاهرة مثيرة، اليوم، علينا المضي قدما ومساعدة الناجين أكثر"، حيث أنشأ جمعية عام 2017 للمساعدة في علاج ضحايا الحروق الذين تكون رعايتهم باهظة الثمن ويستغرق شفاؤهم وقتا طويلا.

"زجاجة بنزين"

في قسم الجراحة التقويمية بمستشفى سهلول في سوسة، على بعد 130 كم جنوب تونس، يثير الدكتور نضال مهدي خلال حديثه للصحيفة مشكلة حساسة، وهي اللحظات الأخيرة للمنتحر في سريره.

وقال مهدي: "في معظم الحالات، الأشخاص الذين يشعلون النار بأنفسهم يتحدثون، لكنهم يموتون بعد فترة وجيزة بسبب التلف الذي تسببه النيران، فبدلا من إدخالهم مباشرة لمساعدتهم على التنفس، نمنحهم بعض الوقت للتحدث إلى عائلاتهم، غالبا ما يندمون على فعلتهم أو يريدون فقط مسامحتهم، من المهم جدا أن تسمع العائلة هذه الكلمات الأخيرة".

أما بالنسبة لأولئك الذين يبقون على قيد الحياة، فإعادة تعافيهم شاقة، لعدم وجود متابعة نفسية واجتماعية حقيقية، بحسب الطبيب التونسي.

ففي بلدة طبربة، على بعد 30 كم غرب تونس، تعافى عادل الدريدي، 35 سنة، من آثار الحروق على رقبته، فهذا البائع المتجول للفواكه والخضروات، التي تواصلت معه "لوموند"، أشعل النار في نفسه عام 2017 للاحتجاج على ضربه من الشرطة.

وقال هذا الشاب، وهو جالس في منزل العائلة، يدخن سيجارة: "أردت فقط وضع حد لهذا الإذلال"، ومنذ ذلك الحين، شفي عادل جسديا، لكن الغضب ظل كامنا في داخله، لعدم تمكنه من العيش بكرامة.

وأوضحت "لوموند" أن عادل بنى متجرا بقالة خاص به قرب مسكنه دون مساعدة أو إذن قانوني، وأثناء مرحلة البناء، وضع زجاجة من البنزين عند قدميه، وهدد أي شخص حاول منعه من إشعال النار في نفسه مرة أخرى.

وأكد الدريدي للصحيفة الفرنسية "ليس لدي ما أخسره إلا والدتي"، كاشفا عن متجر البقالة الخاص به من الداخل، حيث لا تزال الرفوف فارغة.

ولفتت "لوموند" إلى أن قصة الدريدي تشبه حالة عبدالوهاب الذي ترك المدرسة في وقت مبكر، وسط محاولات للاندماج في المجتمع دون جدوى، حيث قال: "ما يغضبني هو أن الناس احتجوا في الشوارع بعد محاولتي الانتحار، لكنني لم أحصل على أي شيء، ما زلت في نفس النقطة، أحارب من أجل الحياة".

وخلصت الصحيفة الفرنسية إلى أنه في مواجهة هذا اليأس الذي يلوح في الأفق، وخطر الانتكاس الدائم، يحشد العديد من الأطباء لمحاولة احتواء ظاهرة الانتحار في أقرب وقت ممكن، ولذلك أنشأت الطبيبة فاطمة شرفي، نظام للوقاية من الانتحار، قائلة: "هناك وعي جماعي تحسن اليوم بشأن الانتحار".