النسبية في تقييم الثورات.. نماذج ومقاربات

أيمن خالد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

النسبية في نظرية أينشتاين ترى أن "مرور الزمن ليس هو نفسه عند ملاحظين اثنين يختلف موقع كل واحد منهما". وفق ذلك تبدو لنا المسارات الثورية دائرة بين مراحل متعددة مختلفة كثيرا بين بدايات انطلاقها ومآلات نتائجها الحالية بعد طول سنين. ويبدو ذلك طبيعيا بحكم المتغيرات والمستجدات الهائلة التي دخلت على الخط الثوري العربي. حتى أصبحت معادلات حاكمة في توجيه الخط الثوري وطبيعة أهدافه. أردت تسليط الضوء على محطات من عمر الثورة.

أولا: الثورة المهاجرة

أي حدث بطبيعته يخضع لعنصرين أساسيين هما الزمان والمكان بكل ما يحملانه من انعكاسات للفعل في مرحلة ما. ويبدو أن حصار الثورة في الداخل من قبل الأنظمة المستبدة لم يترك للثورة مساحاتها وتفاعلاتها الداخلية المطلوبة. وهذا أمر طبيعي خاضع لسلطان الأقوى.

يبقى الحديث في زاوية من هجروا الأرض حاملين فكرة الثورة مع أمتعة الرحيل، سواء على مستوى الأفراد أو المتبقي من القيادات. وهنا حتما ولدت مرحلة جديدة من آفاق المطالب الثورية مختلفة بشكل كبير جدا عما كانت عليه في الداخل.

في التجربة الثورية المصرية على سبيل المثال، يبدو الخطاب المنطلق أكثره من بلاد المهجر دائرا ضمن المتغيرات الجديدة التي فرضتها عليهم جملة المتغيرات، وأهمها محاكاة الدول الداعمة المستضيفة، إضافة إلى الكيانات الدولية الأخرى والمنظمات الداعمة لحقوقهم واستحقاقات ثورتهم أو الهامش المسموح لهم الحديث عنه. لذلك تجد الخطاب الثوري المنطلق من المصريين المقيمين في أوروبا مختلفا عن خطاب زملائهم في الدول العربية، وحتى الدول العربية لها أجنداتها المختلفة في النظر إلى الثورة المصرية، ذلك يترك أثره المباشر في الخطاب الثوري، حتى مظاهر الحياة الجديدة تترك أثرها في فلسفة الثورة والتحولات الفكرية الجديدة. لذلك يأتي القول صحيحا في توقع حدوث متغيرات كثيرة كلما امتد وطال أمد تحقيق النجاح للثورات العربية عموما.

نعتقد أن شعارات كثيرة لم تعد ضمن مساحة الدفع الثوري في أدبيات المهاجرين وأقصد بلفظ المهاجرين اصطلاحا لكل حامل فكر وفعل ثوري هجر بلاده اتقاء شر الاستبداد باحثا عن بيئة للتعبير وإطالة عمر الثورة، بعيدا عن مواطن قمعها في الداخل. وفق أدبيات مهاجري الثورة لم يعد الحديث مركزا على بدايات مطالب الثورة ولم يعد قانون الطوارئ ولا قسوة الشرطة ولا إشكالية انتخابات مجلس الشعب هي المحرك الأبرز لإدامة الثورة بقدر ما أصبحت التحالفات الدولية والترضيات الإقليمية ووسائل الضغط على المنظمات القانونية التي بدأت تشغل المساحة الأكبر لمهاجري الثورة.

في التجربة السورية يبدو الأمر مختلفا من جهة مجموع المتغيرات الجذرية في الوصف الثوري نفسه، من ثورة تطالب بالحرية والكرامة إلى قتال بين الثوار والنظام، إلى حرب أهلية، إلى حرب على الإرهاب. وبرغم ذلك وهذا هو المختلف أكثر، هو البقاء الجزئي للتفاعلات الثورية الميدانية على الأرض السورية، مما ترتب على رحلة الثورة السورية الكثير من المتغيرات المذهلة.

تغيرات الداخل بأبعادها الديمغرافية شديدة الأثر، إضافة إلى تحول الأرض ساحة للنزاع الإقليمي والدولي، ولا يخفى طبيعة الجغرافية السياسية للثورة السورية التي وجدت من حدودها البرية المشتركة مع كل من لبنان والأردن والعراق وتركيا ما أضاف معادلات مختلفة إلى المسار الثوري السوري الذي لم يبق أي شبه بين بدايات الانطلاق ومآلات الثورة اليوم.

ثانيا: نماذج ومقاربات

ما تطرقنا إليه في الجزء الأول يأتي متوقعا في إطار التطور السياسي والإستراتيجي والاجتماعي والثقافي للثورات العربية، التي لا تقل بوصفها وشدتها عن ما أحاط بكبريات الثورات العالمية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر (الإنجليزية والأمريكية والفرنسية والروسية) ليأتي الأمر منسجما مع مقولة (كرين برينتن) وهو أبرز مؤرخي تلك الثورات: (إن الثورات لا تنتهي في معظم الأحوال إلى النجاح المشتهى أو المتخيّل. وأنها تفقد طاقتها وتتحرّر من رومنسيتها، ليعود المجتمع إلى الاشتغال بالطريقة العادية بعد التخلّص من حال الاستعصاء أو الانسداد التاريخي الذي فجّر الثورة).

يبدو والحالة هذه، أن الوعي الثوري يفرض نفسه اليوم كعامل ترجيح إذا ما أريد معاودة العمل الحقيقي لإنقاذ الثورات والوصول بها إلى آفاق النجاح، بعد حجم التضحيات المادية والبشرية وعلى وفق مقولة: "لا معنى لوجود ثوريين من دون فكرة".

ومن الضروري فهم، أن توقف نجاح خطوة صحيحة نتيجة تعذرها عن التطبيق لا يعني اعتبار غيرها هو الصحيح. فالثورات رغم أوجاعها وآلآمها قامت صحيحة، وكانت خيارا وحيدا، ما يعني أهمية الصبر. فالتحديات التي تواجه الثورات العربية تزيد من مشروعيتها وتجسد نبل مقاصدها، وهي طريق مفروضة وحياة مقترضة من عمر الزمن لمواجهة موانع الأنظمة الاستبدادية التي تحول دون الوصول إلى الحياة الكريمة للشعوب وتقتل آمال التغيير والتطوير.

الثورة الفرنسية (1789) مثال ونموذج لأكثر الثورات العالمية حضورا. فقد نجحت في البداية بشكل جزئي، بإسقاط الملكية، لكن سرعان ما وثب عليها العنف واقتحمتها الفوضى والتصفيات، الأمر الذي أدى إلى إعدام قائد الثورة على المقصلة ذاتها التي أزهقت روح الملك. الأمر الذي دفع لإزالة القوى الثورية لصالح نابليون (المؤسسة العسكرية)، والذي نصّب نفسه إمبراطورا.

وفق ذلك الصراع وشدته، فقد احتاجت فرنسا الكثير من الثورات الممتدة على مسافة قرن من الزمن تقريبا، لتستعيد قيم الثورة الأولى التي خرجت من أجلها. الثورات بطبيعتها تنطوي على آلآم ومخاطر وهذا قدرها.

لقد تحملت الثورات العربية أكثر من طاقتها، فهي التجربة الأولى من نوعها في تاريخ هذه المنطقة، وكان أمن هذه الثورات وجهد حمايتها ضعيفا أمام حجم الهجمة متعددة الأطراف والأهداف التي انقضت على تلك التجربة الوليدة، الكبيرة في أهدافها. لذا يصعب تحديد معايير الفشل والنجاح للثورات العربية على الأقل من خلال اختلاف النظر إلى مآلاتها المستقبلية، على قاعدة النسبية في التقييمات التي أشرنا إليها في بداية المقال، والتي تقول: "إن مرور الزمن ليس هو نفسه عند ملاحظين اثنين يختلف موقع كل واحد منهما".