نظام خانع.. إلى متى يصمد المصريون في اختبار التطبيع الشعبي؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"استثنائية"، بهذا التعبير الدقيق والمختصر، وُصفت العلاقات بين مصر والاحتلال الإسرائيلي في عهد عبدالفتاح السيسي، حيث وصل التطبيع منتهاه، سياسيا إلى حد لقاء معلن مع رئيس حكومة الاحتلال، استحى منه المخلوع حسني مبارك، "كنز إسرائيل الإستراتيجي" كما وصفوه.

عسكريا وأمنيا، كانت سيناء مسرحا لمقاتلات إسرائيلية تحت شعار مكافحة الإرهاب، أما الاقتصاد فيبدو السعي حثيثا من الجانبين إلى أن يبلغ ما بلغته مجالات التطبيع الأخرى، بينما بقي المصريون حائط الصد الوحيد أمام التطبيع الشعبي، فإلى متى يصمدون في وجه أمواج عاتية.

من أمام الأهرامات

أهرامات الجيزة إحدى عجائب الدنيا، شهدت فصلا بارزا من فصول التطبيع الاقتصادي، فهو المكان الذي اختاره وزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شتاينيتس، ليعلن أن التعاون بين بلاده ومصر في مجال الطاقة وصل حجمه إلى عشرات مليارات الدولارات.

تصريحات الوزير، جاءت على هامش جولة قام بها، الجمعة، لمنطقة الأهرام صحبة نظيره المصري طارق الملا، وفق ما نقلته وزارة الخارجية الإسرائيلية، عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك المسماة "إسرائيل تتكلم بالعربية".

الوزير الإسرائيلي، قال في إشارة إلى اتفاق كامب ديفيد بين الطرفين عام 1979: "لأول مرة منذ توقيع معاهدة السلام بيننا قبل 40 عاما، ثمة تعاون ملموس بقيمة عشرات مليارات الدولارات مع ‫مصر".

بيان الخارجية، أشار إلى أن الوزيرين "ناقشا مشروع تصدير الغاز من إسرائيل الى مصر"، في زيارة أولى لوزير إسرائيلي منذ ثورة يناير 2011 في مصر، استهلها شتاينيتس، بلقاء رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي.

وفي صفقة مثيرة للجدل، وبعد أن كانت مصر تصدر غازها لإسرائيل، وُقعت في فبراير/شباط 2018، صفقة ضخمة بين "شراكة الغاز تمار وليفيتان" وشركة "دولفينوس" المصرية، تشمل تصدير إسرائيل للغاز الطبيعي لمصر بقيمة 15 مليار دولار.

ولم تنفذ الصفقة التي شاركت فيها الحكومة المصرية حتى الآن، إلا أنه من المتوقع، بحسب مجلة "جلوبس" الإسرائيلية المختصة بالشؤون الاقتصادية، أن تخرج إلى حيز التنفيذ هذا العام بعد تنفيذ عدة شروط سابقة بين الطرفين.

وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أعلن في وقت سابق خلال هذا الشهر خلال احتفال أقيم بمنزل السفير المصري لدى إسرائيل أن الجانبين يقومان حاليا بتنفيذ مشروع لضخ الغاز بشكل تجريبي، وأن وتيرة تدفق الغاز ستزيد بعد أربعة أشهر.

مبارك والكويز

ورغم أن الرئيس المخلوع حسني مبارك وصفته دوائر السياسة الإسرائيلية بأنه "كنز إستراتيجي" للاحتلال، إلا أن فترة حكمه الطويلة أبقت على التعاون الاقتصادي بين الطرفين ضئيلا، بينما وقع البرلمان المصري على الاتفاق التجاري الأول مع إسرائيل في مايو/أيار 1980.

الاضطرابات التي أعقبت الإطاحة بمبارك عام 2011، شكلت هي الأخرى عائقا جديدا أمام تطوير العلاقات الاقتصادية، إلا أنه وبحسب دراسة نشرها "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، فإن الروابط الاقتصادية بدأت تتعمق في عهد السيسي، من خلال مبادرات في 3 مجالات وهي: مناطق التجارة الحرة المعروفة بـ "المناطق الصناعية المؤهلة" وقطاعَي السياحة والطاقة.

تتوزع "المناطق الصناعية المؤهلة" في مصر على مناطق القاهرة الكبرى والإسكندرية ومنطقة قناة السويس ومنطقة وسط الدلتا والصعيد، وهي تضم أكثر من 700 شركة وتوظف نحو 280 ألف عامل. وحاليا، تمثل هذه المناطق 45 بالمئة من الصادرات الوطنية إلى الولايات المتحدة.

وفي ديسمبر/كانون الثاني 2004، تم التوقيع على البروتوكول لتحديد المناطق كملحق لـ "اتفاقية التجارة الحرة" بين الولايات المتحدة وإسرائيل المسماة "الكويز"، وتنص على السماح للمنتجات المصرية بالدخول للأسواق الأمريكية دون جمارك، شرط أن يكون المكون الإسرائيلي من المواد الخام الداخلة في صناعة هذه المنتجات 11.5 بالمئة، وانخفضت النسبة إلى 10.5 بالمئة عام 2008.

ووفق تقارير إعلامية، فإن الاتفاقية التي حققت مكاسب محدودة للقاهرة، مكّنت تل أبيب من التوغل في الاقتصاد المصري بشكل غير مسبوق، لترتفع قيمة صادرتها إلى مصر بنسبة تتجاوز الـ800 بالمئة، علاوة على تحقيقها مكاسب سياسية كبيرة.

وتشير بيانات وزارة التجارة والصناعة المصرية المنشورة 2017، إلى أن إجمالي صادرات الاتفاقية منذ 2005 حتى عام 2016، بلغ 9 مليارات دولار أمريكي، منها 674.4 مليون دولار خلال عام 2015 فقط.

كما تظهر أرقام وحدة "كويز" بوزارة التجارة والصناعة المصرية أن قيمة صادرات البلاد للولايات المتحدة، خلال النصف الأول من عام 2017، سجلت 370، مقابل 346.5 مليون دولار، في الفترة المناظرة من العام الماضي بنسبة زيادة 6.7 بالمئة.

وطبقا لذات البيانات الرسمية المصرية، فقد بلغ إجمالي الشركات المستفيدة من الاتفاقية 966 شركة مصرية، منها 35 واحدة تستحوذ على 82 بالمئة من الصادرات، و931 شركة لها نسبة 18بالمئة فقط.

صحيفة "الوطن" المقربة من السلطة، كشفت أن 400 مصنع للملابس الجاهزة والنسيج تعمل في إنتاج صادرات "كويز" إلى الولايات المتحدة؛ 20 مصنعا منها تستحوذ على 80 بالمئة من تلك الصادرات، وأغلبها مصانع تتبع لكبار المصدرين والصناعيين في مصر.

ونقلت الصحيفة ذاتها عن مصدر حكومي، أن صادرات مناطق "كويز" المستهدفة تصل إلى 3.5 مليار دولار خلال 3 أعوام فقط، إلا أن الأرقام سابقة الذكر تؤكد عدم تحقيق هذا المبلغ، إذ بلغ متوسط قيمة الصادرات السنوي نحو 690 مليون دولار فقط، من أصل 1.16 مليار دولار سنويا.

على الجانب الآخر، فقبل دخول الاتفاقية حيز التنفيذ كان إجمالي الصادرات الإسرائيلية إلى مصر لا يتجاوز 29 مليون دولار فقط، وارتفع بشكل صاروخي ليصل عام 2011 إلى 236 مليون دولار، قبل أن يعود للانخفاض إلى 113.1 مليون دولار عام 2015.

وعلى الرغم من ارتفاع الصادرات الإسرائيلية إلى مصر، فإنه لم يكن هناك زيادة في حجم الاستيراد الإسرائيلي المتواضع للمنتجات المصرية، فقد بلغ 54.6 مليون دولار عام 2015، وفي 2014 كان الرقم يصل إلى 58.3 مليون دولار.

علاقة استثنائية

التطبيع الاقتصادي يأتي كامتداد لتطبيع سياسي وأمني وعسكري غير مسبوق في عهد السيسي، يرجع بالذاكرة إلى يوليو/تموز 2013 عندما أطاح الجيش بالرئيس الراحل محمد مرسي، وتصدر السيسي بطل هذه الإطاحة المشهد، وأصبح لدى كثيرين بطلا قوميا.

المدير السياسي والعسكري لوزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قال في تصريحات صحفية إن السيسي، وزير الدفاع حينها، "زعيم جديد سوف يتذكره التاريخ"، وأنه "أنقذ مصر من السقوط في الهاوية"، كما نقلت تقارير إعلامية، تعليقات حاخامات يهود على السيسي وقراراته وسياساته، وصلت إلى حد أن رأوه "معجزة".

وفي حديثه عن تلك "العلاقة الاستثنائية" قال "معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى": إن "إسرائيل كانت من الدول السباقة إلى تأييد النظام العسكري الجديد، بل إنها قامت بإطلاق حملات دبلوماسية في واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى من أجل دعم الوضع السياسي الجديد في مصر، حتى لا يصنف في خانة الانقلابات العسكرية، وحتى تمنع أي محاولات لفرض حصار دبلوماسي على القاهرة".

الدراسة التي نشرها المعهد في يوليو/تموز 2016 خلصت إلى أن هذه الجهود "لم تمر دون أن تكلل بالنجاح، حيث شهدت العلاقات المصرية- الإسرائيلية نموا غير مسبوق خلل فترة حكم السيسي، والتي كانت في كثير من الأحيان، مدفوعة من قبل السيسي نفسه".

وحول العمليات العسكرية في سيناء، رأت الدراسة أن "إسرائيل أصبحت تتعاون مع مصر، من خلال قيامها بعدة طلعات جوية استخباراتية للكشف عن بؤر الإرهابيين، وكل ذلك في إطار سري، إذ لم تكن القاهرة لتعلن للرأي العام المحلي طبيعة شراكتها الأمنية العسكرية مع تل أبيب، حتى تتفادى الجدل".

وبحسب الدراسة، فإن "السيسي استفاد من حالة الفراغ الأيديولوجي لمؤيديه، حيث عمل على إعادة تسويق العلاقات المصرية الإسرائيلية، باعتبارها ضرورة في ظل وجود عدو إقليمي مشترك حركة حماس، وهو امتداد لعدو داخلي الإخوان المسلمين، ونقل بذلك إسرائيل من خانة صراع وجود إلى خانة الشريك الضروري".

"إن توجه السيسي للتقارب العلني مع إسرائيل ليس نابعا فقط من إيمانه ببرجماتية العلاقة مع الإسرائيليين، وإنما لمروره بأزمات ضخمة داخل مصر، منها: الخصومة مع المعارضة الإسلامية والعلمانية، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب في سيناء والصحراء الغربية، وتباطؤ الاقتصاد المحلي، وتناقص حصة مصر من مياه النيل"، وفق الدراسة.

حلم التطبيع الشعبي

وعلى الرغم من تلك العلاقات المتصاعدة على جميع المستويات، بقي التطبيع الشعبي حلما يراود كيان الاحتلال، فسعى من خلال خطوات تمهيدية لكسر العزلة المفروضة عليه اجتماعيا وثقافيا وأكاديميا.

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، التقت الأكاديمية المصرية المثيرة للجدل منى البرنس، السفير الإسرائيلي ديفيد جوفرين في مقر السفارة الإسرائيلية بمصر، الأمر الذي أثار ضدها هجوما حادا من شخصيات عامة وإعلاميين وصوفها بالخائنة، في حين تتم الإشادة بالعلاقات الرسمية بين الجانبين.

ورغم الهجوم، ظهرت البرنس في تقرير تلفزيوني أذيع على قناة "المكان" الإسرائيلية، قائلة: "لا يوجد تطبيع ثقافي ولا رياضي ولا على المستوى الأكاديمي أو الجامعات"، وتمنت أن "تصل الشعوب إلى حلول إنسانية في المنطقة مبنية على التعاون".

أما صفحة "إسرائيل في مصر" فعلقت على المقابلة التليفزيونية للبرنس بالقول: "هذه رسالة واضحة لكل من لا يزال يعيش في الماضي، أن مزيدا من التعاون بين شعبي إسرائيل ومصر يدعم الاستقرار والتنمية لكلا الطرفين، وكافة شعوب المنطقة".

لم تكن البرنس، أول من واجهت عاصفة الهجوم بسبب لقاءاتها مع مسؤولين إسرائيليين، ولكن سبقها مدير "مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية" سعدالدين إبراهيم، الذي زار إسرائيل في يناير/ كانون الثاني 2017، وأيضا التقى جوفرين في يوليو/تموز الذي تلاه.

قبل أكثر من عام، صدر كتاب "غصن الزيتون، قصة المركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة" يوثق من خلاله الباحث الإسرائيلي "شمعون شامير" تاريخ العلاقات الأكاديمية الإسرائيلية المصرية وشبكة العلاقات المتداخلة بين الطرفين منذ سبعينيات القرن الماضي.

حيث قضت بنود معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل بالتبادل الثقافي بين البلدين، وعلى هذا الأساس، أقيم المركز الأكاديمي الإسرائيلي بالقاهرة عام 1982، واستثمرته تل أبيب جيدا، فجعلت منه قبلة ونقطة انطلاق لباحثيها في الشأن العربي والإسلامي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا.

ووفق تقارير إعلامية، فقد أتاح المركز للباحثين الإسرائيليين فرصة القيام بزيارات ميدانية برعايته، والقدرة على البحث والتحري والدراسة وإجراء جولات حرة لجمع وتحليل المعلومات فيما يخص مصر والشرق الأوسط.

وعلى مدار نحو 36 عاما يفتقد المركز الإقبال المناسب من المصريين المختصين، فضلا عن غيرهم، على حضور ندواته وأنشطته، وهو ما يطرح التساؤل حول جدوى وجوده رغم مقاطعته من جانب الجامعات ومعظم الأكاديميين المصريين، وإصرار إسرائيل على بقائه رغم ما يعتبره البعض فشلا في القيام بالدور المنوط به.

هذا الواقع الذي يجسده المركز الأكاديمي انسحب على رغبة إسرائيلية معلنة في تطبيع العلاقات بالمجالات الثقافية والفنية، وقال السفير الإسرائيلي السابق في مصر "إسحاق ليفانون" إن العديد من الإسرائيليين يثنون على التعاون الوثيق القائم القاهرة وتل أبيب في المجالين الأمني والعسكري، لكنهم يطالبون بتطبيع العلاقات في المجالات الثقافية والاقتصادية.

خط أحمر

ولا يمكن اعتبار القول، إن إسرائيل فشلت في التطبيع الشعبي مع المصريين، مبالغة، فالحالة المزاجية للمصريين رغم ما شابها على مدار عقود، ترفض حتى الآن فكرة الترحيب بأي شيء يمت بصلة لإسرائيل، التي لا ترى فيها سوى العدو الأزلي.

ولعل الدراما التي تعبر بشكل أو بآخر عن الفكر الجمعي والرأي العام المصري هي خير دليل على ذلك، فهي تزخر في وقت تزدهر به العلاقات السياسية والاقتصادية، بالعديد من الأعمال التي لم تخرج الإسرائيلي عن تلك الصورة الذهنية التي ارتبطت به في الدراما التي تؤرخ لفترة نكسة يونيو/ حزيران 1967 وما تلاها حتى بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

ويرى مراقبون، أن النخبة المثقفة المصرية تشكل حائط صد قوي ضد أية محاولات لإقامة تطبيع شعبي مع إسرائيل، لكن يبقى التساؤل إلى أي مدى يصمد المصريون أمام ضغوط عديدة يمارسها نظام السيسي، بتقاربه مع الاحتلال من جهة، وتسطيح القضية الفلسطينية وشيطنة المقاومة من جهة أخرى؟