سلمان العودة وعلي العمري وعوض القرني: "يا صحاب السجن!"

فرح أشباب | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يحكى أنه وقبل انتشار الإسلام والجهر به، قدم رجل من قبيلة غفار بين المدينة ومكة، كان سارقا وقاطع طريق، يسأل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وعن رسالته فلما لقيه وأسلم خرج إلى آل قريش مكبرا وموحدا فرفسوه رفسا بغية قتله لولا تدخل العباس رضي الله عنه. ويحكى كذلك أن نفس الرجل الذي كان غليظ القلب، يسرق الناس دون رحمة تأخر عن ركب المسلمين في غزوة تبوك، لضعف جمله فحمل متاعه على ظهره وسار على قدميه إلى أن لحق بإخوانه وحارب إلى جانبهم. فلما رآه أحد الصحابة من بعيد قبل التحاقه بهم تنبأ أنه أبو ذر فأخبر النبي محمد بذلك ليقول جملته الشهيرة عن أبي ذر الغفاري: "يرحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده".

عاش أبو ذر زاهدا في الدنيا وملذاتها، مكتفيا بالقليل، متورعا خاشعا باحثا عن الإيمان والمعنى ورضا الله، فعاصر حكم أبي بكر وعمر بن الخطاب رضى الله عليهما ثم ذهب إلى دمشق في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، لأنه كان دائم الترحال فشهد إقبال المسلمين على ملذات الدنيا وحبهم للمال والذهب والمظاهر، فسار إلى عثمان بن عفان وصار يحكي له ما صار عليه المسلمون بحرقة، خاصة وأنه كان موقنا أن المظاهر ليست هي روح الإسلام وجوهره. فساقه عثمان بن عفان إلى الربذة المقفرة لما بدر منه من انتقادات حادة لحال المسلمين.

فلما تقدم أبو ذر في السن وقربت ساعته طلب من زوجته وابنه أن يغسلاه بما وجدا من ماء ويكفناه بما تيسر من الكفن ويضعاه على قارعة الطريق لعل بعضا من المارة يقدمون ويتكلفون بصلاة الجنازة عليه ودفنه. عندما حضرته الوفاة صارت زوجته تبكي بحرقة على مآله وكيف سيموت فقيرا وحيدا منعزلا عن الناس، فقال لزوجته مبتسمًا أنه كان جالسًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض الصحابة فقال الرسول: "ليموتن رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين"، وقال لها أن جميع من حضروا ما قاله الرسول ماتوا في جماعة، وأنا من بقيت.

رغم أن الربذة كانت بعيدة ومقفرة ورغم أن موسم الحج كان قد انتهى ورغم أن تلك الطريق التي وضع فيه جثمانه كانت صعبة الوصول، إلا أن ركبا من الصحابة والمسلمين مر من هناك، فلما تعرف أحدهم على جثمان أبي ذر أخبر عبدالله بن مسعود بذلك ليبكي هذا الأخير بشدة قائلا: "صدق رسول الله حين قال تمشي وحدك وتموت وحدك وتبعث وحدك".

فماذا فعل رجل بسيط من غفار كان قاطع طريق سابق ليسأل عنه النبي كلما تغيب عن مجمع وليقول فيه: "ما أقلت الغبراء ولا أظلت الخضراء من رجل أصدق من أبي ذر"، وليدفن بهذه الطريقة ويبعث وحيدا وكأنه أُمّة؟".

ربما لأنه قال كلمة حق في الوقت الذي لم يأبه بها أحد، وربما لأنه ظل ثابتا على موقفه إلى أن مات فقيرا وحيدا في صحراء مقفرة، وربما لأن في قلبه أشياء نبيلة لا ندري عنها شيئا و لا يعلمها إلا من بثها في ذلك القلب الذي عاش زاهدا مسافرا لواما للنفس الأمارة بالسوء ولكل الشوائب التي من شأنها أن تلهي المؤمن عن طريق الحق. 

لا أدري لماذا كلما تردد اسم هذا الصحابي الجليل على مسامعي، إلا وتذكرت سلمان بن فهد العودة وكأن هذا الأخير فهم جيدا واستوعب ما استوعبه أبو ذر وقرر أن يثبت على كلمة حق ولو كلفه ذلك النفي والسجن والعزلة. وربما كذلك لأن سلمان العودة مثال مؤلم للابتلاء: فبعد السجن والمعاناة فقد ابنه وزوجته وبعد شهور زج به في السجن مرة أخرى إلى أجل غير مسمى بسبب تهمة مبهمة قد تكون غالبا تدوينة على تويتر دعا فيها ربه للتأليف بين قلوب الدول العربية المتنازعة. 

بيّن سلمان العودة منذ سنوات فردانية مساره الدعوي فصار ثابتا على كلمة الحق التي يؤمن بها منحازا إلى التسامح والرحمة قبل الشدة ودفع من حياته وقتا ليس بالقصير في السجن في سبيل ذلك، ولا يزال قابعا في السجن إلى يومنا هذا في وضعية صحية يندى لها الجبين وسط الكثير من الأخبار التي أطلقها موقع "ميدل إيست آي"، التي تؤكد أنه سيتم إعدامه رفقة الداعيتين عوض القرني وعلي العمري بعد انصرام رمضان. 

فكيف تعدم السعودية أشخاصا يدعون إلى الوسطية والاعتدال ويفضلون التنوير والترغيب على الترهيب ويصلون قلوب الشباب بالعقل والمنطق والمثير من الذكاء العاطفي والحكمة وإعمال العقل؟ وكيف يعقل أن تنهي رصاصة في الرأس أو حد سيف حياة ثلاثة أشخاص ممن فضلوا الثبوت على كلمة حق بعد أن قضوا شهورا طويلة من التعذيب الجسدي والنفسي والبعد عن الأهل والأحباب؟

يجتمع الثلاثة رغم اختلافهم الطفيف في نقطة مهمة تكمن في الاعتدال، ناهيك عن عدد التهم الموجهة إليهم، التي عددتها النيابة العامة السعودية في ثلاثين تهمة وطالبت بقتل الثلاثة تعزيرا لأنهم "خانوا الوطن". 

استثمرت العربية السعودية منذ تأسيسها في تكوين الدعاة والمشايخ الذين يشكلون جزءا كبيرا من قوتها الدعوية في العالم العربي، فكيف صار إعدام بعض من هؤلاء الدعاة الذين ثبتوا على كلمة الحق واردا في عهد ولي العهد بن سلمان، الذي تبنى نظاما إصلاحيا يدمج الجميع رغم الاختلاف ويراجع الكثير من الإرث الإسلامي ليتوافق مع مستجدات الساحة العالمية؟ 

سطر سلمان العودة في كتابه الذي منع من النشر في السعودية "أسئلة الثورة" أن التغيير مطلب ملح للسير قدما وأن الحرية هي أثمن شيء في حياة الإنسان. لم تصدر عن الأصحاب الثلاثة: علي العمري، عوض القرني وسلمان العودة القابعين في السجن أية مواقف رسمية تدين النظام السعودي أو تنتقده لكن الصمت في بعض الأحيان يكون أقوى من الكلمات ويمكن أن يؤدي بصاحبه إلى الثرى كما حدث مع الصحفي المغدور جمال خاشقجي. 

من الممكن أن نشهد خلال أيام قليلة إبادة سياسية في حق ثلاثة من الدعاة الذين لم يبد منهم سوء بل العكس تماما، انتهجوا قيد حريتهم منهاجا أساسه الترغيب والدعوة إلى الله بالعقل وتكريس القدوة الصالحة واحترام الحريات والاختلاف. 

لم تقتصر الاعتقالات على الدعاة فقط بل شملت عددا كبيرا من الناشطات الحقوقيات، مثل لجين الهذلول وإيمان النفجان والأستاذة الجامعية المتقاعدة عزيزة اليوسف، من أجل تكميم الأفواه والحد من تأثير الناشطين الحقوقيين على المجتمع في الوقت الذي خصصت فيه السعودية ملايين الدولارات من أجل نهج سياسة جديدة غرضها ثورة اقتصادية والانفتاح على العالم ومراجعة الإرث الديني وتنظيم المؤتمرات الكبرى والتظاهرات العلمية والثقافة واستقبال المشاركين والضيوف والمتحدثين من شتى أنحاء العالم من أجل العمل على تحسين صورتها عالميا. 

سيكون إعدام الناشطات السعوديات والدعاة الثلاثة بمثابة خطأ جسيم سينضاف إلى قتل الصحفي جمال خاشقجي، وستضرب السعودية بعرض الحائط كل جهودها من أجل تحسين صورتها على الصعيد العالمي. أمام التقارير التي أصدرتها المنظمات الحقوقية كالمندوبية السامية لحقوق الإنسان وهيومن رايتس واتش حول الوضع الحقوقي بسجون السعودية والسخط الدولي حول احتمال إعدام ثلاثة من خيرة الدعاة، لا يسع السعودية إلا أن تتراجع عن قرارها وتنتهج سياسة تتوافق مع خطتها في التجديد قبل أن تكون كمن يسقي أرضا بها رمال وينتظر أن تنبت له زرعا.