إطفاء الحرائق ليست البداية.. سر "المحبة" بين السيسي وتل أبيب

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

ربما لم يتفاجأ كثيرون من مساعدة مصر لإسرائيل في إطفاء الحرائق التي اشتعلت بالأراضي المحتلة، لكن المفاجأة كانت في المصدر الذي علم منه المصريون نبأ المساعدة، ثم اللغة الحميمية التي تحدث بها المسؤولون في إسرائيل.

لكنّ الحقيقة، وبعيدا عن سنوات من التطبيع العلني غير المسبوق، فإنّ العلاقة التي تربط رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي بإسرائيل وقادتها، لم يعكر صفوها شيء في الماضي أو الحاضر، فما بينهما محبة لم تسبقها أي عداوة.

تكتم شديد

رغم أن وسائل الإعلام المصرية سواء الرسمية أو الخاصة والتي توالي جميعها السيسي، لا تترك شاردة ولا واردة فيما يخص نشاط أجهزة الدولة إلا ذكرتها، فإنها لعبت في هذا الأمر دور "شاهد مشافش حاجة".

حتى النوافذ الإعلامية التابعة للجيش عبر مواقع التواصل الاجتماعي تجاهلت إرسال مروحيتين مصريتين، بدا أنهما تابعتان للقوات المسلحة، إلى الأراضي المحتلة لمساعدة إسرائيل في إطفاء الحرائق هناك.

المحصلة أن نظام السيسي إما لم يعد يقيم وزنا للشارع المصري الرافض لمسألة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، أو أنه يخشى من ردة فعله، وهو الأمر المستبعد لأنه كان يعلم بطبيعة الحال أن الاحتلال سيحتفي بالمساندة المصرية.

وبعد ساعات من نشر الخبر عبر صفحة "إسرائيل بالعربية" التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية، نشرت الصفحة ذاتها مقطع فيديو قالت إنه يظهر إحدى المروحيتين المصريتين المشاركتين في عمليات إخماد الحريق التي شبت في مناطق متفرقة بإسرائيل.

وقالت الصفحة في تغريدة مرفقة بمقطع الفيديو: "بالفيديو.. مروحية مصرية تساعد في إخماد حرائق اندلعت في جنوب إسرائيل.. أرسلت اليوم مصر وفي موقف إنساني مروحيتين للمساعدة في إطفاء حرائق شبت في إسرائيل بسبب موجة الحر الشديدة.. وقال رئيس الوزراء نتنياهو: "أشكر صديقي السيسي.. شكرا للمساعدة المصرية".

"أفيخاي أدرعي"، المتحدث باسم جيش الاحتلال لم يفوت الفرصة برصيده الكبير من إثارة الجدل فنشر مقطع الفيديو ذاته، قائلا: "الصديق وقت الضيق. مصر تقوم بإرسال مروحيتين للمشاركة في عمليات الإطفاء الجوية التي يتم القيام بها حاليا لإطفاء الحرائق الكثيرة التي تنشب في أنحاء متفرقة من إسرائيل منذ يوم أمس شكرا..".

وكان المتحدث باسم رئيس وزراء الاحتلال قد نشر مقطع فيديو لبنيامين نتنياهو وكلمة الشكر التي وجهها للسيسي، قائلا: "بالفيديو: رئيس الوزراء نتنياهو يشكر الرئيس المصري السيسي على قيامه بإرسال مروحيتين للمشاركة في عمليات الإطفاء الجوية التي يتم القيام بها حاليا لإطفاء الحرائق الكثيرة التي تنشب في أنحاء متفرقة من البلاد منذ البارحة".

عزيزي بيريز

في أكتوبر/تشرين الأول 2012 أثار الإعلام المصري الهائج ضد الرئيس محمد مرسي وقتها، ضجة ضخمة بتسريب صورة من خطاب اعتماد السفير المصري الجديد في إسرائيل "عاطف سالم" والذى سلمه للرئيس الإسرائيلي شيمون بيريز، حسب البروتوكولات الدبلوماسية، بسبب بداية الخطاب بجملة "عزيزي وصديقي العظيم".

وراحت وسائل الإعلام حينها تكيل الاتهامات لمرسي بإقامة علاقات مع الاحتلال إلى غيرها من الاتهامات التي اتضح فيما بعد أنها جزء من خطة الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب في البلاد.

وهو ما أكده الأكاديمي سيف عبد الفتاح أستاذ العلوم السياسية والمستشار السابق لمرسي، حين وصف الأمر بأنه مؤامرة من الحرس الجمهوري على الرئيس، حيث دسّ خطاب بريز وسط الخطابات الاعتيادية بالتهاني التي يوقعها الرئيس دون أن يلتفت لها أصلا.

جاء ذلك على الرغم من أن مرسي كان قد أعطى أوامره بأن أي رسائل موجهة للولايات المتحدة أو إسرائيل لا بد أن تعرض عليه منفصلة في مظروف خاص حتى يطلع عليها، على حد قول عبد الفتاح.

فما أشبه الليلة بالبارحة، فالإعلاميون أنفسهم والفضائيات ذاتها التي ضخمت تسريبا متعمدا بعد 3 أشهر من توجيه الخطاب واتهمت مرسي وهاجمته بشدة، هي التي صمت آذانها وعميت أبصارها عن خبر المروحيتين.

لكن الأمر لا يقتصر على الخبر الخاص بمروحيتي الإطفاء، بل يمتد إلى سنوات من التعاون الوثيق والعلاقة الحميمية التي تتجاوز في شواهدها مسألة التطبيع، وتصل إلى مرحلة غير مسبوقة من الاندماج دفعت نتنياهو وأدرعي إلى وصف السيسي بـ"الصديق".

السيسي يرحب باليهود

في أواخر فبراير/شباط الماضي، كشفت صحيفة "جيروزاليم بوست" العبرية أن السيسي أبلغ وفدا أمريكيا، أن اليهود إن كانوا يرغبون بتأسيس طائفة في مصر فإن الحكومة ستبني لهم معابد ومؤسسات مجتمعية.

وبحسب الصحيفة، فإن اللقاء الذي استمر ساعتين في القاهرة جمع بين السيسي ووفد من أعضاء اللجنة الأمريكية التي دعمت منح الرئيس المصري الراحل أنور السادات ميدالية الكونجرس الذهبية.

وترأس المجموعة، مؤسس اللجنة عزرا فريدلاندر، وهو مستشار أرثوذكسي متشدد من نيويورك قاد جهودا لإعطاء الجائزة للسادات.

وقال فريدلاند: "تحدث الرئيس السيسي باعتزاز ليس فقط عن الطائفة اليهودية النابضة بالحياة التي كانت موجودة بمصر سابقا، بل قال أيضا إنه في حال عودة الطائفة اليهودية إلى مصر، ستقدم الحكومة كل الضرورات الدينية المطلوبة، كان هذا قبولا حارا للغاية".

(السيسي خلال لقائه باللجنة الأمريكية ويظهر مصافحا فريدلاندر)

وأضاف: "السيسي قال بشكل أساسي إنه في حالة عودة المجتمع اليهودي من جديد، ستقوم الحكومة ببناء المعابد وغيرها من الخدمات ذات الصلة".

إلى ذلك، أفاد مؤسس اللجنة بأن السيسي وعد كذلك بإجراء عملية تنظيف وتنظيم لمقابر البساتين القديمة في القاهرة، وهي مقبرة يعود تاريخها إلى القرن التاسع ويُعتقد أنها ثاني أقدم مقبرة يهودية في العالم.

وقالت الصحيفة إن جذور الطائفة اليهودية في مصر تعود إلى العصور القديمة، وقبل عام 1948، مضيفة أن قرابة 75 ألف يهودي كانوا في البلاد، مشيرة إلى أن السيسي أعلن في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مشروعا بنحو 71 مليون دولار لترميم مواقع التراث اليهودي في البلاد.

جيل كامب ديفيد

وبينما يؤرخ الجميع لبداية العلاقات بين السيسي والاحتلال الإسرائيلي بالفترة القصيرة التي سبقت إطاحة الجيش بمرسي، إلا أن جذور هذه العلاقة، والسبب الحقيقي وراء نموها المطرد يرجع إلى قبل ذلك بكثير.

من واقع السيرة الذاتية للسيسي فهو من خريجي الكلية الحربية عام 1977، أي بعد 4 سنوات من حرب أكتوبر، وقبل عامين من توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل المعروفة باسم "كامب ديفيد".

وعليه، فإن الرجل لم يحارب الاحتلال في أي مواجهة عسكرية قط، على عكس الرئيس الأسبق حسني مبارك خريج عام 1949 والمشارك في حروب 1956، و1967، وقاد سلاح الطيران في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.

وبينما شكّل تاريخ مبارك العسكري حائط صد قوي أمام أي "تطبيع علني" أو لقاء مباشر له أو لأحد مسؤولي نظامه مع قادة الاحتلال على مدار عقود حكمه إلا مؤخرا، خلا تاريخ السيسي العسكري من أي موانع تحول دون هذه العلاقة المعلنة التي لا يستحي منها كما كان مبارك.

"جيل كامب ديفيد".. هكذا يطلق على القادة العسكريين الذين لم يعاصروا فترة الحروب مع إسرائيل، وتحديدا الذين ظهروا على الساحة بعد توقيع معاهدة السلام، ولعل السبب يرجع إلى العقيدة العسكرية التي سرت في الجيش المصري منذ هذا التاريخ.

فبعد أن كان الاحتلال عدوا أصبح دولة معترفا بها وتقيم معها مصر علاقات دبلوماسية وتجمعهما معاهدة سلام، وتحول العداء شيئا فشيئا إلى جماعات الإسلام السياسي.

على هذه العقيدة نشأ السيسي وارتقى في رتبه العسكرية حتى وصل إلى منصب وزير الدفاع في 2012 ورتبة المشير في 2014، ولهذا لم يكن لديه منذ بداياته أية أزمة في التواصل والتنسيق مع الاحتلال وقادته ومع اليهود بشكل عام.

"الزعيم المعجزة"

ورغم تلك الجذور والأصول، فإن نقطة البداية الحقيقية في الحديث عن العلاقات بين السيسي وإسرائيل تعود إلى يوليو/تموز 2013 عندما أطاح الجيش بمرسي، وتصدر بطل هذه الإطاحة المشهد، وأصبح لدى كثيرين بطلا قوميا.

هذه النظرة ليست لدى القطاع المؤيد للسيسي داخل مصر فقط، بل في قلب دولة الاحتلال التي رأى أحد قادتها بعد شهرين من عزل مرسي، فيها أن السيسي "زعيم سوف يتذكره التاريخ".

المدير السياسي والعسكري لوزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد قال في تصريحات صحفية: إن السيسي، وزير الدفاع حينها، "زعيم جديد سوف يتذكره التاريخ"، وأنه "أنقذ مصر من السقوط في الهاوية"، كما نقلت تقارير إعلامية، تعليقات حاخامات يهود على السيسي وقراراته وسياساته، وصلت إلى حد أن رأوه "معجزة".

بسرعة البرق تطورات العلاقات، التي ظلت سرية، إلى أن وصلت لأول لقاء معلن بين السيسي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في سبتمبر/أيلول 2017، بعد تسريبات عدة عن لقاءات سرية على استحياء.

الاحتفاء الإسرائيلي غير المسبوق بالسيسي لم يذهب سدى وأتت ثمار اللقاء العلني سريعا، فبعده بنحو 3 أشهر وقف السيسي على منصة الأمم المتحدة مؤكدا حرصه "على أمن المواطن الإسرائيلي".

وفي مايو/آيار 2016، ألقى السيسي خطابا شهيرا دعا فيه الفلسطينيين إلى الاستفادة من التجربة المصرية في إقامة السلام مع إسرائيل، الأمر الذي قابله الاحتلال بترحاب شديد وأبرزت عقبه الصحافة العبرية كما هائلا من الود والعلاقة الحميمية المتبادلة بين السيسي ونتنياهو، منها ما كُشف بشأن المكالمة الهاتفية الأسبوعية بينهما.

علاقة استثنائية

وفي حديثه عن تلك "العلاقة الاستثنائية" قال معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى: إن "إسرائيل كانت من الدول السباقة إلى تأييد النظام العسكري الجديد.. بل إنها قامت بإطلاق حملات دبلوماسية في واشنطن والعواصم الأوروبية الكبرى من أجل دعم الوضع السياسي الجديد في مصر، حتى لا يصنف في خانة الانقلابات العسكرية، وحتى تمنع أي محاولات لفرض حصار دبلوماسي على القاهرة".

الدراسة التي نشرها المعهد في يوليو/تموز 2016 خلصت إلى أن هذه الجهود "لم تمر دون أن تكلل بالنجاح، حيث شهدت العلاقات المصرية- الإسرائيلية نموا غير مسبوق خلال فترة حكم السيسي، والتي كانت في كثير من الأحيان، مدفوعة من قبل السيسي نفسه".

وحول العمليات العسكرية في سيناء رأت الدراسة أن "إسرائيل أصبحت تتعاون مع مصر، من خلال قيامها بعدة طلعات جوية استخباراتية للكشف عن بؤر الإرهابيين، وكل ذلك في إطار سري، إذ لم تكن القاهرة لتعلن للرأي العام المحلي طبيعة شراكتها الأمنية العسكرية مع تل أبيب، حتى تتفادى الجدل".

وبحسب الدراسة، "استفاد السيسي من حالة الفراغ الأيديولوجي لمؤيديه، حيث عمل على إعادة تسويق العلاقات المصرية الإسرائيلية، باعتبارها ضرورة في ظل وجود عدو إقليمي مشترك (حركة حماس)، وهو امتداد لعدو داخلي (الإخوان المسلمين)، ونقل بذلك إسرائيل من خانة صراع وجود إلى خانة الشريك الضروري".

وأضافت أن السيسي استغل العدوان الإسرائيلي على غزة في 2014، من أجل "تقديم نفسه للمجتمع الدولي بعيدا عن الأزمة السياسية الدائرة في مصر، فاستفاد من رفض إسرائيل لأي جهود وساطة دولية لوقف إطلاق النار لتلجأ إسرائيل إلى القاهرة أخيرا".

"توجه السيسي للتقارب العلني مع إسرائيل ليس نابعا فقط من إيمانه ببرجماتية العلاقة مع الإسرائيليين، وإنما لمروره بأزمات ضخمة داخل مصر، منها: الخصومة مع المعارضة الإسلامية والعلمانية، وتصاعد وتيرة العنف والإرهاب في سيناء والصحراء الغربية، وتباطؤ الاقتصاد المحلي، وتناقص حصة مصر من مياه النيل"، وفق الدراسة.