إسلاميو السودان.. كيف يواجهون تحديات ما بعد البشير؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في ظل اختلافات حزبية وصراع هوية، ناتج عن قسوة التغيير، بسقوط نظام عمر البشير، تأتي طبيعة تشكيلة المسرح السياسي السوداني لتحمل معها معطيات واستنتاجات قد تختلف نوعا ما عن فترة الحكم السابقة التي استمرت نحو 3 عقود.

فبعد ثورة عارمة أسقطت النظام وفتحت المشهد السياسي على مصراعيه أمام خريطة حزبية واسعة ومعقدة التفاصيل ومتشابكة العلاقات، لها تاريخ ممتد في عرض الحياة السياسية للبلاد، وعلى رأسها الحركة الإسلامية بشتى أطيافها ومشاربها.

أحد المشاهد التي يمكن قراءة دلالتها حدثت الجمعة 19 أبريل/ نيسان 2019، داخل مسجد الخرطوم الكبير، حينما تعرض القيادي في حزب المؤتمر الشعبي (أسسه حسن الترابي عام 1999) إبراهيم السنوسي للطرد من المسجد من قبل المصلين، وقذفت سيارته بالحجارة.

طرد السنوسي كان ردا على موقف قيادة الحزب الإسلامي، التي استمرت في حكومة "الوحدة الوطنية"، التي شكلها البشير، قبل قرار عزله في 11 أبريل/ نيسان 2019، رغم مطالبة قواعد الحزب، والأحزاب المعارضة بالانسحاب من تلك الحكومة قبل ذلك الوقت بكثير.

الحادثة رغم فرديتها، لكنها تدلل على الوضع الحرج للإسلاميين بعد سقوط حكومة البشير، وعدم قبول أطراف كثيرة من المتظاهرين بوجودهم في المشهد، رغم تسجيل الكثير من القواعد والقيادات الإسلامية حضورا في الاحتجاجات التي انتهت بعزل البشير.

وفي 29 أبريل/ نيسان 2019، دعا تيار "نصرة الشريعة ودولة القانون" الذي يضم أحزابا وجماعات إسلامية مختلفة إلى مظاهرات حاشدة في العاصمة السودانية الخرطوم قرب القصر الرئاسي، وهي الدعوة التي واجهت رفضا من تيارات أخرى على رأسها "تجمع المهنيين السودانيين" الذي قاد مظاهرات عزل البشير.

وبعدما ظهرت بوادر أزمة في الأفق، تم تأجيل المظاهرة قبل انطلاقها بيوم، إثر اجتماع تم بين نائب رئيس المجلس العسكري السوداني الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، وعضو تيار "نصرة الشريعة"، محمد عبد الكريم.

معضلات التغيير

في 15 نوفمبر/ تشرين الأول 2018، انعقد المؤتمر التاسع للحركة الإسلامية في السودان، وهي أحد روافد جماعة الإخوان المسلمين بالسودان، بحضور الرئيس عمر البشير، وخلال ذلك المؤتمر بدا أن الحركة تخطو خطوات حثيثة لإحداث تغيير في إرث التنظيم القديم، والكثير من المفاهيم السائدة، والتعريفات الخاصة بها، وذلك في محاولة لتهيئة القواعد التنظيمية لاستقبال الشكل الجديد للحركة كحركة مدنية، غير مرتبطة بتنظيمات دولية.

ومن أبرز المستجدات خلال المؤتمر، ذلك التغيير الذي طال بعض الشعارات التي دأبت الجماعة على ترديدها عبر سنوات في مختلف المحافل، ومنها الذي يقول: "في سبيل الله قُمنا.. نبتغي رفع اللواء.. لا لدنيا قد عملنا نحن للدين فداء.. فليعُد للدين مجده، وليعد للدين عزه.. أو ترق منا الدماء"، وتم استبداله إلى: "في سبيل الله قمنا.. ونعمنا بالإخاء.. لا لدنيا قد عملنا.. نحن في الحق سواء.. فليعد للدين مجده.. فليدم ذاك النقاء".

لكن فرع حركة الإخوان المسلمين الذي أسس في السودان في أربعينيات القرن الماضي، لم يمض على نسق واحد، ولم يخضع لجانب منفرد في تمثيل أفكار الجماعة وأيديولوجيتها، بل وقعت انشقاقات كبيرة داخل التنظيم، أدت إلى وجود العديد من الكيانات المُمثلة له في العمل السياسي والعام، لكن ظلت "الحركة الإسلامية" هي الكيان الدعوي التقليدي الذي يخضع لرؤية المراقب العام ومجلس الشورى، والتي ينضوي تحتها عدد كبير من منتمي جماعة الإخوان.

شهدت جماعة الإخوان السودانية عدة انشقاقات كبرى في تاريخها، أولها كان على يد حسن الترابي، الذي نجح في تكوين تنظيمه الخاص، ودشن ما سماه "الجبهة الإسلامية القومية".

أما الانشقاق الثاني فكان بقيادة مجموعة الشيخ سليمان أبونارو في 1991م، والذي رأى أن الجماعة ظلمته عندما لم تسمح له أن يصلحها بالسلفية عندما فاز في المؤتمر العام، وقرر أن يجمع بين محمد بن عبد الوهاب، وحسن البنا، ورأى أن المنهج التربوي عند الإخوان ناقص ما لم يدرسوا كتاب "التوحيد" لمحمد بن عبد الوهاب في الأسر التنظيمية.

وجاء الانشقاق الثالث من رحم الانشقاق الثاني، وهو خروج "مجموعة الإصلاح"، على سليمان أبو نارو، بسبب ما رأوه انحرافا عن منهج الإخوان، ثم اندمجت هذه المجموعة في النهاية مع "الحركة الإسلامية" في العام 2018.

قرب الجماعة بشكل عام من دائرة الحكم وصنع القرار في البلاد، سبب لها الكثير من الأزمات والإشكاليات على مستوى التوجه، والمنهج، هذا ما أكده حسن الترابي مهندس انقلاب 1989، ومن أكبر رموز الحركة الإسلامية في السودان والعالم الإسلامي.

الترابي قال في برنامج "شاهد على العصر" على قناة الجزيرة: "إن الفساد انتشر في مفاصل الدولة تحت سمعي وبصري وعجزي". مؤكدا أن السلطة "فتنت أعضاء جماعته، وانساقوا خلفها لأنهم منذ البداية كانوا يجهلون أن السلطة يمكن أن تفتن من تربى وتزكى في حركة دينية عشرات السنين".

صراع بقاء

ظلت مقولة الترابي التي تقول "إن السلطة جرفت بعض عناصر الحركة الإسلامية عن المسار والنهج"، تجد قبولا لدى عموم الإسلاميين في السودان، رغم أنه من قاد الانقلاب العسكري في 30 يونيو/ حزيران 1989، في الحدث التاريخي المعروف بثورة الإنقاذ الوطني، عندما تولى العميد عمر البشير الحكم، وانقلب على الترابي نفسه ووضعه في السجن.

ومع أن السلطة أخذت من الإسلاميين الكثير، لكن النائب السابق للأمين العام للحركة عثمان رزق، بحسب وكالة الأناضول، اعتبر أن انقلاب 1989 جاء لضرورات حتمية ارتبطت بحياة ووجود الإسلاميين داخل البلاد.

وأكد: "لو لم نقم بالانقلاب لفُعل بنا مثل ما فعله الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، بقيادات الإخوان المسلمين في مصر، وما حدث للإسلاميين في العراق في تلك الفترة".

رزق تحدث عن  انقلاب 1989 بقوله: "كنت أحد الذين شاركوا في اجتماع الحركة الذي أقر تنفيذ الانقلاب، حيث توصلنا إلى معلومات مؤكدة تفيد بوجود 3 محاولات انقلابية تقف وراءها تنظيمات علمانية، هدفها بعد الوصول إلى الحكم تصفية القيادات الإسلامية، لذا قررنا الوصول إلى الحكم قبلهم، لأنهم إن وصلوا فلن يكون لنا وجود".

وأشارت تقديرات إلى تجاوز عدد أعضاء الحركة الإسلامية في السودان المليوني شخص، وهم جزء أصيل من مكونات الشعب السوداني، يصعب تنحيته، وإزالته من المشهد بصورة كلية، وإن كان التربص بهم واضحا في ظل مشروع إقليمي تقوده الإمارات والسعودية ومن ورائهم مصر، لضرب جماعات الإسلام السياسي في مختلف دول المنطقة.

المؤتمر الوطني

ولد حزب المؤتمر الوطني الذي حكم البلاد تحت قيادة عمر البشير، من رحم الجبهة الإسلامية القومية ومؤسسها حسن الترابي، على وقع الاختلاف الجذري الذي حدث بينهما، بشأن بعض القضايا على رأسها الحد من صلاحيات رئيس الجمهورية، وتوسيع مهام البرلمان والحكومة، وتأسيس نظام برلماني.

بعدها أقدم البشير على حل البرلمان، وإعلان الأحكام العرفية، واعتقال الترابي والكثير من أعضاء جبهته، ثم قام بتأسيس حزب المؤتمر الوطني عام 1998، بهوية إسلامية محافظة، ووضع الحزب مجموعة من المبادئ، مع إعلانه ترسيخ الحكم بآليات الديمقراطية، وتحقيق الوحدة الوطنية، وتطهير المجتمع من الفساد، وهي المفارقة التي لم تحدث واقعيا.

البشير اتخذ الحزب ذراعا سياسية لنظامه، فمنذ تأسيس الحزب كواجهة للحكم والحاكم، قام بالسيطرة المباشرة على جميع أجهزة الدولة، واستحوذ على البرلمان، والحكومة، والاتحادات العمالية، بالإضافة إلى الأجهزة الأمنية.

وفي فبراير/ شباط 2014، دعا الحزب إلى ما يعرف بوثيقة الوفاق الوطني الجامع، وهي الدعوة التي قبلتها بعض الأحزاب ورفضتها أحزاب أخرى رأت أن طريقة عمل الحزب ورئيسه جزء حقيقي من مشاكل السودان.

وإثر اندلاع المظاهرات المنددة بحكم البشير، أصدر الحزب مجموعة بيانات ترفض تلك الاحتجاجات، وتتهم القوى المعارضة بالعمل على الإثارة والفتنة والنيل من استقرار البلاد.

وبعد الإطاحة بنظام البشير، ضعف موقف الحزب الذي يمتلك إمكانيات مادية وبشرية ضخمة وضاربة في أعماق المجتمع السوداني، وأصبح أمامه تحدي إعادة طرح نفسه بصورة جديدة، ومغايرة لصورته القديمة في عهد رئيسه السابق.

رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول عبد الفتاح البرهان، أعلن في 27 أبريل/ نيسان 2019، بأن حزب المؤتمر الوطني لن يكون جزءا من المرحلة الانتقالية، في إشارة إلى أن المجلس العسكري عازم على القضاء تماما على إرث البشير، رغم أن الحزب يمتلك كتلة كبيرة في مفاصل الدولة، وداخل الأطر السياسية والاجتماعية.

النداء المبكر

في ديسمبر/ كانون الأول 2011، قدم 1000 من شباب الحركة الإسلامية، مذكرة طالبوا فيها بإصلاحات جوهرية داخل حزب المؤتمر الوطني، بما في ذلك استبدال القيادات، بقيادات جديدة لها أفكار قادرة على مواجهة التحديات الجسام التي تواجهها الحكومة والحزب معا.

وكان من أبرز ما ورد في المذكرة، هو فك الارتباط العضوي بين أجهزة حزب المؤتمر الوطني، وأجهزة الدولة ماليا وإداريا، وذلك بكل شفافية وعدل، بالإضافة إلى تحييد كل أجهزة الدولة وعدم إقحامها في الصراع السياسي إنفاذا للعهد والميثاق الذي أقرته الحركة الإسلامية بينها وبين الآخرين.

ذلك النداء المبكر من شباب الإسلاميين، لم يجد صداه في أروقة الحزب الحاكم، ولا لدى البشير، الذي انفرد بالأمر تماما عقب المفاصلة الشهيرة داخل الحركة، والإطاحة بالترابي ومجموعته عام 1999.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2013، انشق القيادي البارز بحزب المؤتمر الوطني والمستشار الأسبق لرئيس الجمهورية الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، عن حزب المؤتمر الوطني، وأنشأ حزبا جديدا يحمل اسم "حركة الإصلاح".

وقبل انشقاق العتباني بشهور قليلة، سلمت مجموعة من القيادات الإسلامية بلغ عددهم 31 قياديا، مذكرة إصلاحية للبشير، تزامنا مع الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات التي قُتل فيها العشرات في ذلك الوقت.

مجموعة القيادات المنشقة، والمجموعة الأخرى من شباب الإسلاميين، كانوا يرون أن ثورة "الإنقاذ الوطني" التي قادها إسلاميون عام 1989 تراجعت عن الكثير من ثوابتها، وطالبوا بعودتها إلى الجذور.

ومن التسلسل التاريخي للحركة الإسلامية في السودان، نجد أنها اتخذت مواقف مختلفة من الحكم، فجزء منها توحد مع قصر الحكم في الخرطوم تحت قيادة البشير العسكري الذي جاء بخلفية إسلامية في بدايته.

لكن جزءا ثانيا من الإسلاميين اتخذ موقف المعارضة ومحاولات الإصلاح المستمرة، بل وتعرض للعسف وقسوة القبضة الأمنية، واعتقلت كوادره وزج بها في السجون.

وهناك جزء ثالث تمثل في شريحة كبيرة من الشباب الإسلامي، الذي رفض طريقة حكم البشير والمؤتمر الوطني، وانخرط في المظاهرات من بدايتها، وساهم في إسقاط المنظومة الحاكمة.