اختراق خطير.. كيف وصلت بيانات المسلمين في فرنسا إلى الاستخبارات الإسرائيلية؟

داود علي | منذ ١٦ ساعة

12

طباعة

مشاركة

في تطور يمسّ موقع ملايين المسلمين في فرنسا، تفجّر جدل واسع بعد اتهامات رسمية- كشفت عنها مؤسسات إسلامية- تُحمّل المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) مسؤولية الإشراف على عملية ممنهجة لجمع معلومات حساسة عن المسلمين.

وتكمن الصدمة في أن هذه البيانات نُقلت إلى جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، وبمشاركة شخصيات فرنسية سياسية وأمنية، ما ضاعف خطورة القضية.

وبدأت القصة بتسريب فيديو لرجل أعمال فرنسي، لكنها سرعان ما تحوّلت خلال ساعات إلى عاصفة سياسية وأمنية، لارتباطها بملفات شديدة الحساسية داخل فرنسا، من بينها علاقة الدولة بالمؤسسات الدينية الإسلامية واليهودية، وحقوق المواطنين المسلمين، إضافة إلى الاتهامات المتصاعدة بشأن النفوذ الإسرائيلي داخل المؤسسات الفرنسية.

بداية الانفجار

بحسب بيان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الصادر في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، فإن ما جرى لا يقتصر على "تحقيق خاص"، بل يمثّل سابقة خطيرة تمسّ سيادة الدولة وخصوصية ملايين المسلمين في فرنسا.
ويرى المجلس أن ما كُشف عنه يعكس تحوّلًا مقلقًا في الثقافة السياسية تجاه المسلمين، في سياق سياسات الرئيس إيمانويل ماكرون التي توسّعت خلال السنوات الأخيرة تحت عنوان "محاربة الانفصالية الإسلامية".

وانفجرت الأزمة بعد انتشار فيديو لرجل الأعمال والخبير الرقمي ديدييه لونغ، يؤكد فيه أنه كلِّف منذ مطلع 2023 بإعداد إستراتيجية شاملة لصالح المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF)، وبالتعاون مع دوف مايمون، أحد أبرز مستشاري الحكومة الإسرائيلية في ملفات الأمن اليهودي بأوروبا.

وقال لونغ: إنه أجرى لقاءات مباشرة مع مسؤولين كبار داخل مؤسسات الدولة الفرنسية، بينهم عناصر من الاستخبارات الداخلية، وضباط شرطة سابقون في سان سانت دوني، ومسؤولون من مديرية الاستخبارات العسكرية، إلى جانب منتخبين محليين وشخصيات أمنية ومفكرين مقربين من دوائر صنع القرار.

وبحسب روايته، أسفر هذا العمل عن تقرير كامل حول المسلمين في فرنسا، يضم بيانات شخصية واجتماعية وديموغرافية، وتقديرات حول مستوى "التهديد المحتمل" الذي قد يشكلونه على الجالية اليهودية.

أما النقطة الأخطر، فجاءت حين اعترف لونغ بشكل صريح بأنه رفع التقرير كاملا إلى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.

هل شاركت مؤسسات فرنسية في العملية؟

وبحسب التسريبات، فإن التقرير المزعوم صنّف المسلمين في فرنسا على أنهم تهديد محتمل للجالية اليهودية، مستنتجًا أن نحو 150 ألف يهودي يعيشون في مناطق تضم سكانا عربا أو مسلمين أو أتراكا أو باكستانيين قد يكونون "في خطر".

ويرى مراقبون أن هذه اللغة لا تمثّل مجرد توصيف أمني، بل تقع ضمن خطاب الوصم الجماعي الذي يضرب أسس التعايش الفرنسي، ويمنح غطاءً سياسيًا لسياسات التضييق المفروضة على الجالية المسلمة منذ عام 2020.

وقد أدان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية هذا الخطاب، ويرى أنه يعكس مناخًا سياسيًا مضطربًا تغذّيه دعايات اليمين المتطرف، حيث يُنظر إلى المسلم بصفته  "جسمًا قابلًا للارتياب" بدلًا من كونه مواطنًا كامل الحقوق.

وطرح المجلس جملة أسئلة باتت تتردد بقوة في الأوساط السياسية والإعلامية:
باسم ماذا ولماذا جُمعت بيانات تخص مواطنين فرنسيين لصالح جهاز الاستخبارات الإسرائيلية؟ ومن سمح ونسّق وسهّل هذه العملية؟

يشير بيان المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية إلى أن طبيعة المعلومات المتداولة- والتي تشمل بيانات شخصية وديموغرافية واتصالات مع مسؤولين أمنيين- تفرض فتح تحقيق رسمي عاجل لكشف كيفية جمعها، ومسار انتقالها من الأراضي الفرنسية إلى أجهزة استخبارات خارجية.

ولم يستبعد المجلس التقدّم بشكاوى قضائية ضد المتورطين، وكذلك ضد أي موظف رسمي يثبت أنه سهّل أو شارك أو علم بعملية نقل البيانات. وتبرز هنا إحدى أكثر النقاط حساسية في الملف: الاشتباه بإمكانية تورّط جهات سياسية أو إدارية أو أمنية فرنسية من خلال توفير معلومات، أو فتح أبواب مؤسسات رسمية، أو منح تسهيلات للوصول إلى البيانات.

مثل هذه الاتهامات تضع وزارة الداخلية الفرنسية في صلب العاصفة؛ إذ إن القوانين تجعل البيانات الحساسة محفوظة حصريًا داخل مؤسسات الدولة، وهو ما يفتح الباب أمام فرضية وجود طرف داخل الجهاز الإداري سهّل التواصل مع جهة ثالثة تعمل لصالح إسرائيل.

أما المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (CRIF) ـ المعروف بنفوذه السياسي وعلاقاته الواسعة داخل الدولة ـ فيواجه اليوم أكبر اختبار لشرعيته التمثيلية، وسط اتهامات باستغلال موقعه لممارسة نفوذ يتجاوز إطار العمل الأهلي التقليدي.

دعوة للتحقيق

دعا المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية وزارة الداخلية إلى فتح تحقيق شامل وشفاف في القضية، محذّرًا من أن الأمر "لا يُعالَج بتصريحات صحفية، بل بإجراءات قضائية جادة؛ لأن ما جرى يمسّ الأمن المجتمعي وحقوق ملايين المواطنين المسلمين".

ويرى مراقبون أن أي تباطؤ رسمي في التعامل مع الملف قد يُفسَّر بوصفه تواطؤًا صامتًا أو محاولة لاحتواء الأزمة نظرًا لحساسيتها السياسية، خاصة أن الحكومة الفرنسية تواجه منذ سنوات انتقادات حادّة بسبب سياساتها تجاه المسلمين تحت عنوان "محاربة الانفصالية"، وما رافق ذلك من إغلاق جمعيات، وحل مؤسسات دينية، وتشديد الرقابة على المساجد.

وفي 5 ديسمبر/كانون الأول 2025، كشف تقرير لهيئة "الدفاع عن الحقوق" الفرنسية عن ارتفاع مقلق في معدلات التمييز الديني داخل المجتمع الفرنسي. وبحسب التقرير، قال واحد من كل ثلاثة مسلمين شملهم الاستطلاع: إنه تعرّض لشكل من أشكال التمييز خلال السنوات الأخيرة، في مؤشر يعكس عمق التحديات التي تواجه الجالية المسلمة.

وتعد فرنسا موطنًا لأكبر جالية مسلمة في أوروبا الغربية، تشكّلت تاريخيًا عبر موجات الهجرة القادمة من مستعمراتها السابقة في شمال إفريقيا. ورغم ذلك، يحظر القانون الفرنسي جمع بيانات رسمية على أساس العرق أو الدين، ما يجعل رصد التمييز الديني والظواهر العنصرية مهمة شديدة التعقيد.

واعتمدت رئيسة الهيئة، كلير هيدون، في تقريرها على استطلاع أُجري عام 2024 وشمل خمسة آلاف مشارك يمثلون مختلف فئات المجتمع الفرنسي. وأظهر الاستطلاع أن 7% من المشاركين قالوا إنهم تعرضوا للتمييز الديني خلال السنوات الخمس الماضية، مقارنة بـ 5% عام 2016.

غير أن الأرقام ترتفع بشكل لافت عند النظر إلى المسلمين تحديدًا؛ إذ قال 34% من المسلمين إنهم تعرضوا للتمييز، مقابل 19% من أتباع ديانات أخرى مثل اليهودية والبوذية، و4% فقط بين المسيحيين.

ويحذّر التقرير من أن استمرار هذه الممارسات قد يؤدي إلى إقصاء مُمنهج لفئات واسعة من المسلمين، ما يعمّق شعورهم بالتهميش ويفتح الباب أمام توترات اجتماعية أشد حدّة في المستقبل.

هندسة الإسلام في فرنسا

قال الصحفي الجزائري المقيم في فرنسا ناصر بن محمد لـ"الاستقلال": إن القضية المتفجرة حول اتهامات التجسس التي تستهدف المسلمين لا يمكن فصلها عن المسار السياسي والأمني الذي تبنته باريس منذ عام 2017 في تعاملها مع الوجود الإسلامي.

وأوضح أن الدولة الفرنسية انتقلت تدريجيًا من خطاب "مواجهة التطرف" إلى محاولة إعادة هندسة الإسلام الفرنسي نفسه، عبر تشجيع تيارات معينة وتهميش أخرى، واعتماد مقاربة أمنية واسعة تحت مظلة "الحماية المجتمعية".

وأشار ابن محمد إلى أن السنوات الأخيرة شهدت محطات مفصلية رسخت هذا التحول؛ أبرزها قانون "مكافحة الانفصالية" عام 2021، الذي مثّل نقطة انعطاف جوهرية في علاقة الدولة بالجالية المسلمة.

كما شمل ذلك حل مئات الجمعيات الإسلامية والخيرية بدعوى عدم الامتثال للمعايير الجمهورية، وفرض رقابة مالية وإدارية مشددة على المساجد، ومتابعة مؤسسات تعليمية مرتبطة بالمجتمع المسلم. وترافق ذلك مع تضخيم إعلامي منظم لملف "الإسلام السياسي" لتبرير الإجراءات الحكومية.

وفي السياق نفسه، تعاظم دور منظمات يهودية مقربة من اللوبيات الداعمة لإسرائيل، والتي تحظى بنفوذ مؤثر في صياغة المقاربات الأمنية والتمثيلية داخل فرنسا.

ويضيف ابن محمد أن هذا المناخ وفر أرضية مثالية لمؤسسات مثل المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا لاستثمار اللحظة، وإعادة تقديم نفسها كوسيط أمني بين الحكومة والجالية اليهودية، مستفيدة من العلاقات المتشابكة بين باريس وتل أبيب، التي ازدادت رسوخًا في عهد إيمانويل ماكرون.

ويرى أن قضية التجسس المفترضة ليست حادثًا معزولًا، بل جزء من مشهد أوسع يضع ملايين المسلمين تحت مراقبة دائمة، ويمنح منظمات ذات ارتباطات خارجية دورًا أكبر في صياغة التصورات الأمنية للدولة تجاههم.

ويؤكد أن هذه القضية —بصرف النظر عن نتائج التحقيق— فجّرت أزمة ثقة حقيقية بين الدولة الفرنسية ومواطنيها المسلمين؛ فالجالية التي تعيش منذ سنوات تحت ضغط خطاب سياسي وإعلامي مشحون، تجد نفسها اليوم أمام احتمال أن تكون بياناتها الشخصية قد تدفقت إلى أجهزة استخبارات إسرائيلية معروفة بسجلها الحافل في استهداف العرب والمسلمين حول العالم.

ويختم قائلًا: “يبقى السؤال الأكثر خطورة اليوم: هل ستتعامل الحكومة الفرنسية مع هذه القضية بوصفها اختراقًا أجنبيًا يستهدف جزءًا من شعبها؟ أم ستطوى الصفحة كما طويت عشرات الملفات التي أثارت ضجة ثم اختفت في صمت؟”