هيئة موريتانية تعتمد مراسلاتها بالعربية.. هل بداية نهاية لغات الاستعمار؟

منذ ٣ أشهر

12

طباعة

مشاركة

كبارقة أمل وسط عتمة واسعة من هيمنة الفرنسية على المؤسسات الحكومية في موريتانيا، جاء الترحيب الكبير من ناشطين بقرار مؤسسة رسمية يقضي باستعمال اللغة العربية في جميع تعاملاتها الإدارية.

وأصدرت "مفوضة الأمن الغذائي" الموريتانية، فاطمة بنت خطري، تعميما إلى مسؤولي المفوضية كافة، يقضي بإلزامية إعداد التقارير والمراسلات باللغة العربية، اللغة الرسمية للبلاد.

وذكر موقع "تواصل" المحلي، في 29 يناير/ كانون الثاني 2024، أن القرار "سمح بإمكانية ترجمة تلك التقارير والمراسلات إلى الفرنسية عند الضرورة".

ونقل المصدر ذاته استغراب المواطنين من اعتماد غالبية القطاعات العمومية والخاصة على اللغة الفرنسية، رغم أن "دستور يوليو/تموز 1991" ينص بشكل صريح على أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية لموريتانيا.

جد مهم

وتفاعلا مع القرار، قال الأستاذ بكلية الآداب والعلوم الانسانية بجامعة نواكشوط، يحيى محمد الهاشمي، إن "العربية هي اللغة الرسمية بموجب الدستور المجمع عليه منذ ثلث قرن".

وأشاد الهاشمي، في حديث لـ"الاستقلال"، بـ"تعميم مفوضة الأمن الغذائي المقتضي العمل بالدستور، والموافق للتوجهات الوطنية بتقريب الإدارة من المواطنين".

بدوره، أكد الباحث الأكاديمي، عبد الرحمن عثمان الشنقيطي، أن قرار مفوضية الأمن الغذائي القاضي باعتماد اللغة العربية في معاملاتها "جد مهم".

وأوضح الشنقيطي لـ"الاستقلال" أن أهمية القرار "ستظهر حين يتم تعميمه على باقي مؤسسات وإدارات الدولة، لا أن يكون في هذه المؤسسة فقط أو في جزء محدود من أجهزة الدولة".

ونبه إلى أن "التعامل باللغة الفرنسية في الوثائق والمعاملات الرسمية أمر شائع وعام، ويفرض نفسه دون أي سند من الدستور أو مصلحة عامة أو إرادة مواطنين".

وأشار إلى عدد من المعاملات الأساسية للمواطنين، والتي يتم إصدار أوراقها باللغة الفرنسية، ومن ذلك ما ارتبط بوصفة الأدوية للمرضى أو الفواتير الدورية من ماء وكهرباء وغيرها، وكذلك المعاملات المالية والبنكية...

وأورد الباحث الأكاديمي، أنه "أمام استفحال استعمال الفرنسية، يتبين لنا أن الإشكال في هذا يرتبط بالدولة والنظام ككل".

ودعا الشنقيطي الأجهزة الرسمية، على مختلف المستويات، إلى "اعتماد إستراتيجية وطنية لتعريب الإدارة والخدمات العمومية الموجهة للمواطنين"، منبها إلى أن "القيام بهذا ستكون عوائده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية غاية في الأهمية والأثر".

من جانبه، قال البرلماني السابق، القطب محمد مولود، إن "هذا التعميم الذي أصدرته المفوضة المحترمة، هو تعميم موفق".

وأضاف مولود لـ"الاستقلال" أنه "بحسب علمي هو أول تعميم مؤسسي ينسجم مع المادة 6 من الدستور، ويطبق المادة 66 من قانون الإشهار، ويستجيب لتعميم رئاسة الجمهورية رقم: 32 بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول 1972، والقرار المبدئي للغرفة الإدارية بالمحكمة العليا رقم 2001/34 بتاريخ 23/09/2001".

واسترسل: "كما يخضع لمتطلبات الشفافية في تسيير الشأن العام، وتقريب الإدارة العمومية من المواطنين"، معبرا عن أمله في أن "تنعكس آثار ذلك التعميم المبارك إيجابيا على الوطن".

وطالب مولود بقية الوزارات والمؤسسات العمومية للدولة أن "تحذو حذو المفوضة، وتريحنا من هذه اللغة الأجنبية التي جُعِلَت سيفا مسلطا على رقاب المواطنين والمقيمين".

وشدد على أن "تفعيل المادة السادسة من الدستور لا يحتاج إلى كبير جهد، وإنما يحتاج إرادة رسمية قوية وجادة، وإدارة وطنية مستقلة، لا تؤثر عليها مطالب الأجنبي وإلحاحه الدائم على نكث العهد وخلف الوعد بالاستقلال الحقيقي الكامل".

وتابع مولود: "كما يحتاج كذلك إلى مؤسسات لا تتطلع لرشوة الأجانب الجاهزة، لإطالة عمر تخلفنا وفقرنا ووعودهم الزائفة، التي تهدف إلى تعطيل أولويات التنمية الوطنية الملحة، وإنهاء التبعية للأجنبي الذي لا يريد لنا خيرا وإنما يهدف إلى التحكم فينا من خلال لغته".

تفاعل مجتمعي

عدد من الفاعلين والحقوقيين والمؤسسات المدنية تفاعلت مع قرار مفوضية الأمن الغذائي، مؤكدين أهميته في تعزيز مكانة اللغة العربية في البلاد.

وفي هذا الصدد، قال المحامي والحقوقي، محمد المامي مولاي أعلي، إن "تعميم المفوضية هو أول تعميم مؤسسي ينسجم مع المادة 6 من الدستور، ويطبق المادة 66 من قانون الإشهار، ويستجيب لتعميم رئاسة الجمهورية رقم 32 بتاريخ 11 ديسمبر 1972".

وأعرب مولاي أعلي في تدوينة نشرها بحسابه على فيسبوك في 29 يناير 2024، عن أمله في أن "ينعكس ذلك إيجابيا على المواطن".

 

وشدد على أن "موريتانيا أمام تحد كبير، يتمثل في أن تتجاوز إدارة من إدارات البلاد تلك المتلازمة العتيقة المتعلقة بفرنسة الوثائق، واستخدام السجلات الزرقاء الضخمة".

من جانبها، قالت "الحملة الشعبية للتمكين للغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية"، إن "صدور هذا التعميم الأول من نوعه من طرف مفوضية الأمن الغذائي، يستلزم التثمين".

وذكرت الحملة الشعبية في بيان نشرته في 30 يناير، أن قرار المفوضية "يطبق مقتضيات المادة السادسة من الدستور".

وشددت على أنه "سيساهم - وبلا شك - في تقريب خدمات الإدارة من المواطن".

 

ودعت الحملة الشعبية "كل القطاعات والإدارات الحكومية إلى إصدار تعميمات مماثلة، تفعيلا للمادة السادسة من الدستور، وتقريبا لخدمات الإدارة من المواطن".

وتعهدت بـ"القيام بما يلزم تشجيعا لمن أصدر هذا التعميم المهم"، معبرة عن أملها في أن "يكون بداية لإصدار سلسلة من التعميمات المماثلة في مختلف القطاعات والإدارات الحكومية".

كلفة الفرنسة

وتعالت أصوات باحثين ومختصين للتحذير من الكلفة التي تتكبدها موريتانيا بسبب "الفرنسة"، على مختلف الأصعدة والمستويات، مع التنبيه إلى أهمية التعريب في معالجة الوضع وتلافي هذه الخسائر.

وفي هذا الصدد، قال القيادي بـ"منسقية الهيئات العاملة للتمكين للغة العربية"، يحيى محمد الهاشمي، إنه "في عدم استعمال البلد للغته الرسمية العربية خسارات عدة".

وأوضح الهاشمي لـ"الاستقلال"، أن هناك "خسارة معنوية تتعلق بالسيادة، لأن استعمال لغة المستعمر بقاء التبعية الثقافية".

وأضاف أن "هناك أيضا خسارة وطنية تتمثل في غربة المواطن في وطنه، تعليما وتوظيفا وتعيينا..".

وتابع: "فضلا عن خسارة أمنية، لكون البلد مفتوحا للأجانب، منغلقا عن معظم أبنائه، بسبب حاجز اللغة".

وقال الهاشمي إن "مسألة العربية في موريتانيا مسألة سيادة دستورية منتهكة، وعلى السلطات الرجوع إلى النصوص الدستورية واحترامها، وإلا كانت الخسارة خسارة الإنسان وكرامته وهويته وخسارة حقه في حياته الطبيعية السوي".

بدوره، توقف الباحث الأكاديمي عبد الرحمن عثمان الشنقيطي، عند الأثر السلبي الذي تشكله "الفرنسة" أمام تطوير البحث العلمي.

وقال الشنقيطي لـ"الاستقلال"، إن "العديد من الباحثين الأكاديميين يحرمون من إمكانية الاطلاع على الأرشيف التاريخي لبلدهم لأنه مكتوب في أغلبه باللغة الفرنسية".

وأضاف "أيضا ما تعلق بالصور القديمة للمقاومين والقبائل وغيرها، لأننا نجد أن التعليق عليها مكتوب باللغة الفرنسية"، ويرى أن "هذا يعوق البحث العلمي".

واستطرد: "أيضا نرى أن الطالب محروم من المادة العلمية المدرسة باللغة الفرنسية، لأن جهدا عقليا وذهنيا مضاعفا يقع عليه، إذ عليه التفكير في اللغة والتفكير في المضمون".

وشدد الشنقيطي على أن "هذه الازدواجية تؤخر الطالب ومستوى تلقيه للمعارف والعلوم وتفكيره فيها، وتؤثر سلبا على تطور أدائه الدراسي، مما يفسر تدني نسب النجاح في شهادة الثانوية العامة".

ونبه الباحث الأكاديمي إلى أن "اللغة هي من المقومات الوطنية، ولذلك لا يتم النظر إلى المسألة نظرة حسابية ضيقة، من حيث حجم الإنفاق الرسمي لأجل تفعيلها وتطويرها، بل العكس تماما، لأنه مهما ارتفع هذا الإنفاق سيكون أثره إيجابيا على مختلف المستويات".

وأشار الشنقيطي إلى النموذج الألماني والتركي والروسي وغيرها، مشيرا إلى أن هذه البلدان "صرفت جهدا لأجل التدريس والبحث العلمي بلغتها القومية، وحققت نتائج جد إيجابية على هذا المستوى".

وذكر أن "بعض المسؤولين في هرم الدولة ومؤسساتها بموريتانيا، يعوقون تعميم العربية وتطبيق الدستور في هذا الجانب، بسبب أنهم يخدمون أجندات أجنبية".

واسترسل، كما أنهم "هم في الحقيقة يجعلون من أنفسهم عملاء لفرنسا على أرض موريتانيا، فضلا أنهم يعانون من استلاب ثقافي لصالح المستعمر السابق مع كامل الأسف".

وبخصوص الخطر أو الأثر السلبي الذي تتركه الفرنسية على موريتانيا، قال البرلماني السابق، القطب محمد مولود، إن "مواطني الدول التي لا تغار على هويتها، يعيشون في حالة من الانهزام النفسي، وضعف القدرة على النهوض بسبب التبعية المقيتة، وفقدان الهوية، وضياع البوصلة الحضارية".

وأوضح مولود لـ"الاستقلال"، أن ذلك يظهر جليا في "انعدام التنمية وقلة الإبداع والضعف والهزال في جميع المجالات".

ولفت إلى أنه "حسب الإحصاءات فإن المتكلمين في بلدنا باللغة الفرنسية لا يتجاوزون 13 بالمئة، وفرض التعليم والمعاملات بلغة غريبة ستكون نتائجه كارثية".

وتابع: "لا أعارض تعلم اللغات الأجنبية لأن اللغة آية من آيات الله، قال تعالى (ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)، وإنما الذي أعارضه هو فرض التعلم بهذه اللغات الأجنبية على حساب لغتنا العربية".

وشدد مولود على أن "ذلك مؤذن بقلة الفهم وضعف المستويات، لأن التلميذ سيتعلم اللغة أولا، ثم يتعلم العلوم ثانيا، ثم يقوم بعملية تركيب ودمج لهذه العلوم مع تلك اللغة، وهكذا يضعف التحصيل ويتدنى الاستيعاب، وذلك حسب اتفاق الخبراء التربويين".

ونبه المتحدث ذاته إلى أن أضرار "فقدان احترام الهوية" تتجاوز الخسائر الفردية والأسرية، لتمتد إلى خسارة الوطن عندما يتولى هؤلاء الخريجون مناصب مهمة ومؤثرة بعد انتهاء دراساتهم للمواد الأساسية باللغة الأجنبية.

وأضاف: "إذ سيديرون مؤسسات الدولة وكأنهم أجانب على الوطن بكل ما تعنيه الكلمة، مع تبعية كاملة للأجنبي، ونظرة دونية إلى بلادهم، وتعال واستعلاء على المواطنين، وكذلك إهمال مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية".

والأخطر من ذلك كله، يقول مولود، "إهمال مصالحهم الثقافية، التي تشكل وجدان الأجيال، وتتحكم لاحقا في تفكيرهم وتصرفاتهم التي تصنع الحاضر وتتحكم في المستقبل".