أعراض جانبية مفيدة.. كيف قلل كورونا تداعيات بريكست على مركز لندن المالي؟

محمد أيمن | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

بعد سنة على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي "بريكست" لا يزال قطاع المال والأعمال البريطاني مهيمنا في أوروبا رغم خسارته شركات رئيسة ومصارف انتقلت إلى مراكز مالية أخرى في القارة العجوز.

وكشفت دراسات أن عدد الوظائف والمؤسسات المالية التي هجرت لندن؛ بعد بريكست كانت أقل من التوقعات.

ففي عام 2018 ووسط تعثر المفاوضات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي حيال بريكست برزت تحذيرات صادمة حيال تداعيات الخروج على لندن كثقل مالي اقتصادي أوروبي.

وذهبت التحذيرات عام 2018 إلى توقع خسارة 75 ألف وظيفة ونحو عشرة مليارات جنيه إسترليني؛ أي ما يعادل 11.1 مليار يورو من العائدات الضريبية السنوية. 

وحذر وقتها السير مارك بوليت، الرئيس السابق لمؤسسة الحي المالي في لندن أو "سيتي أوف لندن كوربوريشن"، مما سماه "السيناريو النووي" الذي يشمل إجبار البنك المركزي الأوروبي على نقل التعاملات المالية التي تتم باليورو من لندن إلى منطقة اليورو.

لكن مع مرور الأيام؛ خرجت المجموعة المالية "إرنست آند يونغ" لتعلن أنه بنهاية عام 2021 بلغ إجمالي تحويلات الأصول 1.3 مليار جنيه إسترليني.

وذلك بالتزامن مع إقدام البنوك الاستثمارية في لندن على تعديل عدد الموظفين الذين سيتم نقلهم إلى الاتحاد الأوروبي ليصبح أقل من 7400 وظيفة.

ويشكل هذا الأمر نسبة ضئيلة من عدد موظفين يصل إلى 1.1 مليون شخص يعملون في القطاع المالي؛ بينهم 400 ألف موظف في لندن بقطاع الخدمات؛ الذي يمثل 12 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي لبريطانيا، وفق "إرنست آند يونغ".

هل نجت لندن؟

ولا يعني هذا أن الحي المالي في لندن نجا تماما من تداعيات بريكست وفق "إرنست آند يونغ" فهناك قرابة 44 بالمئة من الشركات العاملة في مجال الخدمات المالية تعتزم أو تخطط لنقل عملياتها وموظفيها إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. 

ويرى الخبير الاقتصادي بمجلة فايننشال تايمز البريطانية الدكتور أنور القاسم أن لندن حافظت لفترة طويلة على مكانتها الاقتصادية؛ كأكبر تجمع لرؤوس الأموال في العالم، مستفيدة من تشريعاتها السهلة ووجودها في الاتحاد الأوروبي.

ويضيف لـ"الاستقلال" أن تحولا تاريخيا طرأ دفع تصنيف "المؤشر العام للمراكز المالية" للحديث عن انقلابٍ؛ وضع لندن في المرتبة الثانية وراء نيويورك.

ولعل إنجاز البريكست بحسب القاسم يهدد لندن بفقدان حتى المركز الثاني لصالح المراكز المالية الآسيوية في هونغ كونغ وسنغافورة، التي باتت قريبة في تصنيفها من مدينة لندن المالية.

بل وباتت لندن مهددة بالخروج من قائمة الثلاثة الكبار في مجال المال والأعمال كما يرى القاسم.

وتزامنت هذه التوقعات مع تقديرات لمجموعة "سبيو غلوبال ماركت" التي تعد من أكبر شركات التبادل المالي عالميا، بانخفاض التداول في سوق الأوراق المالية بلندن بنسبة 40 بالمئة مطلع عام 2021 بعد حرمانها من تقديم عروض للأسهم المدرجة في الاتحاد الأوروبي للعملاء خارج بريطانيا.

وقالت المجموعة إن هذا الأمر صب في صالح بلدان أوروبية؛ وربما ستكون دبلن ولوكسمبورغ مقصدا لإدارة العمليات مستقبلا، فيما قد يُنقل الموظفون إلى باريس.

وعزز ذلك الطرح تراجع لندن خلال 2021 أمام مراكز مالية أخرى على صعيد التداول بالأسهم منذ الأسابيع الأولى؛ إذ إن المتعاملين البريطانيين حُرموا بين ليلة وضحاها من الحق في طرح أسهم متداولة ببورصات في الاتحاد الأوروبي خارج بريطانيا.

وكانت أمستردام المستفيد الأكبر متجاوزة لندن لتصبح المركز المالي الأول أوروبيا على صعيد حجم الأسهم المتداولة خلال الجزء الأكبر من السنة الماضية بحسب أرقام تلقتها وكالة الصحافة الفرنسية.

أوروبا تنتقم

ودشن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو /حزيران 2021 المقر الباريسي لمئات المتعاملين بالبورصة من شركة "جي بي مورغان تشايس" الذين غادروا لندن.

يشار إلى أن الاتحاد الأوروبي لم ينفذ بعد الإطار التنظيمي الجديد للتعامل مع بريطانيا في مجال الخدمات المالية الذي تم الاتفاق عليه من حيث المبدأ في ديسمبر/ كانون الأول 2020.

وذكرت تقارير صحفية أن هذا الأمر يعد عاملا أساسيا لإعادة بناء الثقة بعد أن ضغط البنك المركزي الأوروبي على البنوك في لندن لتوظيف عدد كاف من الموظفين في مراكزها الجديدة في الاتحاد الأوروبي بعد التأخير جراء قيود كورونا. 

وفي هذا السياق، لا يزال التكتل الأوروبي منخرطا لحسم النقاط الخلافية مع بريطانيا حول البروتوكول المتعلق بإيرلندا الشمالية في مرحلة ما بعد بريكست، بحسب وكالة بلومبيرغ الأميركية. 

وأضافت أن البريكست يهدد بزيادة معدل التضخم وخفض الاستثمار في المملكة المتحدة، كما قد يتسبب في رفع معدل فائدة البنك المركزي البريطاني وستكون "من أولى ضحاياه" صفقة التجارة بين لندن وواشنطن.

وأوضحت أن الحكومة البريطانية هددت بتفعيل المادة الـ16 من البروتوكول المتفق عليه مع الاتحاد بخصوص أيرلندا الشمالية، في وقت حذر اقتصاديون من أن الإجراءات الانتقامية من بروكسل قد تضر بالصادرات والاستثمارات وتوجه ضربة أخرى للجنيه الإسترليني.

وتحدث الموقع عن احتمال وقوع صدمة في حال اختارت لندن استخدام هذا البند الذي يسمح لها بتعليق بعض القواعد التجارية المتفق عليها عندما غادرت الاتحاد، ومن المحتمل أيضا أن يؤثر الأمر أيضا على حسابات بنك إنجلترا بشأن موعد رفع أسعار الفائدة ومعالجة ارتفاع التضخم.

واتفق الطرفان في أكتوبر/تشرين الأول 2019 على صفقة بريكست خاصة بأيرلندا الشمالية عرفت بـ"البروتوكول" تترك الأخيرة في السوق الأوروبية الموحدة للسلع فيما تخضع تلك التي تصل إلى أيرلندا الشمالية من بقية بريطانيا للفحص والرقابة.

وتحدد المادة الـ16 من البروتوكول عملية اتخاذ تدابير وقائية أحادية الجانب إذا خلص أحد الطرفين إلى أن الصفقة تؤدي لمشاكل عملية خطيرة أو تؤدي إلى تحويل التجارة.

وبالنسبة للجنيه الإسترليني سيعتمد رد فعل السوق على تفعيل المادة الـ16 على كيفية تصرف الحكومة البريطانية.

ففي حال اختارت لندن "تمزيق بروتوكول أيرلندا الشمالية" فقد يؤدي ذلك لانخفاض سريع بنسبة خمسة بالمئة في قيمة الجنيه، وفق ما يؤكد ديريك هالبيني، رئيس أبحاث الأسواق العالمية الأوروبية في مجموعة "إم يو إف جي" المالية (MUFG) لبلومبيرغ.

كما يؤكد محللون بـ"بنك أميركا" في تقرير لهم أن السوق قد تواجه على المدى الطويل نظرة مستقبلية "أكثر استمرارا في عدم اليقين والتقلب" مع وجود هذا النزاع بالذات.

وقد تدفع هذه العملة الأسعار إلى الارتفاع، في وقت يبلغ فيه معدل التضخم فعليا مستوى أعلى من هدف بنك إنجلترا البالغ 2 بالمئة.

ويرى جاغجيت تشادا، مدير المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية البريطاني في مقال عبر موقع المعهد أن أي خلافات تجارية جديدة يمكن أن تزيد من حدة مشكلة نقص الإمدادات لدى المملكة المتحدة وتتسبب في ضغوط تضخمية دائمة.

ما تملكه لندن

ورغم ذلك تبقى لندن ثاني أكبر مركز مالي عالمي بعد نيويورك إذا ما أخذت في الحسبان عوامل متنوعة مثل البنى التحتية والسمعة وبيئة الأعمال، بحسب مؤشر "غلوبال فايننشال سنترز" لعام 2021.

وفيما يتعلق بتداعيات خروج بريطانيا على الأهمية العالمية للحي المالي في لندن، فإن لندن بحسب مؤشر غلوبال فايننشال لا تزال تمتلك مزايا تصب في صالحها. 

وأضاف أن المدينة "توفر سيادة القانون ونظاما مصرفيا مركزيا مستقلا بالإضافة إلى لغة تُستخدم في الأنشطة التجارية في جميع أنحاء العالم".

ولا يزال الحي المالي في لندن يتمتع بقوة خاصة في تداول العملات الأجنبية والمشتقات المالية ويهيمن على أسواق التأمين التجاري؛ فيما سجلت لندن رقما قياسيا في عدد الشركات التي طرحت أسهمها للاكتتاب لأول مرة في 2021.

وبلغت القيمة السوقية للعروض العامة الأولية لقرابة 122 شركة 16.8 مليار جنيه إسترليني وهو يعد أعلى رقم منذ 2007.

لكن الصمود اللندني المؤقت أمام تداعيات "بريكست" يرجع بالدرجة الأولى لجائحة كورونا بحسب الخبير الاقتصادي في فايننشال تايمز البريطانية أنور القاسم؛ بعد أن وفر الوباء فرصة للمدينة للتكيف مع التغييرات الجذرية في ممارسات العمل.

ويضيف القاسم لـ"الاستقلال" أن الروابط المالية بين لندن والاتحاد الأوروبي أصبحت بعد بريكست أقل سلاسة، وبدأت الشركات المالية المسجلة في بريطانيا تخسر حرية الحركة التي كانت تسمح لها ببيع الأصول والديون والاستشارات.

ورغم ذلك يفيد خبراء التوظيف بأنه من غير المرجح حصول نزوح للعاملين في القطاع المالي إلى الاتحاد الأوروبي مستقبلا ويشكل عدد الشركات الجديدة التي طرحت أسهمها بالبورصة في 2020 دليلا على جاذبية لندن.

بيد أن بعض الخبراء يرون أن التداعيات الكاملة لبريكست تجد طريقها إلى الحي المالي في لندن.

وفي ذلك، أرجع روس مولد - مدير الاستثمار في شركة " أيه.جيه بيل " الاستثمارية، عدم وقوع تأثير كبير حتى الآن إلى وباء كورونا.

وأضاف "لقد جعل الوباء انتقال الناس أكثر صعوبة مما سيكون عليه الوضع لولا تفشي جائحة كورونا".

بدوره، كتب عمر علي، رئيس الخدمات المالية في "إرنست آند يونغ"، على موقع الشركة "بالنسبة للعديد من شركات الخدمات المالية، لا نزال بعيدين عن الآثار للخروج الكامل لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي".

أوروبا المجزأة

وفي سياق متصل، بلغت الأسواق المالية في الاتحاد الأوروبي، بما فيها المعاشات التقاعدية، وإدارة الأصول، وأسواق الأسهم، وأسواق السندات، والأسهم الخاصة ورأس المال المغامر، نصف حجم الناتج المحلي الإجمالي البريطاني في نيسان/أبريل 2021، وفقا لمركز أبحاث "نيو فاينانشيال".

ورجح تحليل أجراه "نيو فايننشال" (مقره لندن)، أن تواجه باريس وفرانكفورت صعوبات في حال خاضتا تحديا جادا أمام العاصمة البريطانية، وكشف التحليل عن تواجد خمسة أضعاف النشاط المالي الدولي في بريطانيا مقارنة بفرنسا أو ألمانيا.

ورغم أن التقرير يعتمد على بيانات من عام 2019، قبل دخول بريكست حيز التنفيذ، وقبل أن تفقد لندن قمة مجدها كأفضل مكان بأوروبا لشراء وبيع الأسهم.

لكنه يؤكد تفوق المدينة على المنافسين الأوروبيين باعتبارها مركزاً لتداول المشتقات، والعملات الأجنبية، وإدارة الأصول، ورأس المال المغامر، والخدمات المصرفية.

ولم تتمكن الشركات المالية من استخدام قواعدها في لندن لبعض الأعمال داخل الاتحاد الأوروبي، ما أجبر البنوك بما في ذلك "جي بي مورغان" و "غولدمان ساكس" على نقل أصول بمئات المليارات من الدولارات وآلاف الموظفين إلى القارة.

لكن لندن، في الوقت الحالي، لا تزال المركز المالي المهيمن في أوروبا.

وقال الاتحاد الأوروبي، إنه ليس في عجلة من أمره لمنح ما يسمى بقرارات التكافؤ التي من شأنها تمكين الشركات من العمل في لندن. 

وصنف التقرير بريطانيا كثاني أكبر مركز مالي في العالم، بعد الولايات المتحدة، وجاءت الصين في المركز الثالث، بينما احتلت فرنسا وألمانيا المركزين السادس والسابع على التوالي.

وفي حين أن بريطانيا ربما لا تزال متقدمة على منافسيها الأوروبيين، يكشف التقرير أنها متأخرة كثيرا عن الولايات المتحدة، وخسرت المزيد من الفرص منذ عام 2019.

فبينما سارعت بريطانيا لمنح المؤسسات المالية الأوروبية تصريحا مؤقتا للاستفادة من القوانين السارية حاليا لمدة 3 سنوات إضافية، إلا أن هذه المبادرة لم تُقابل بالمثل من الجانب الأوروبي، وفق الخبير الاقتصادي أنور القاسم. 

ويرى القاسم أن تلك الخطوة ربما تكون السبب وراء تراجع عمليات التداول بالأسهم في بورصة لندن إلى نسبة 40 بالمئة تقريبا ما يكلف الاقتصاد البريطاني آلاف الوظائف إضافة لمبلغ يفوق تريليون جنيه إسترليني من الأصول تم نقلها فعلا إلى داخل الاتحاد الأوروبي.

ورغم ذلك يرى القاسم أن احتمالية أن ينتزع منافسون أوروبيون تاج المركز المالي الأهم من بريطانيا ما زال بعيدا على المدى القصير، حتى وإن نقلت 44 بالمئة تقريبا من شركات الخدمات المالية في لندن عملياتها، وبعض موظفيها إلى دول الاتحاد الأوروبي.

وفي تأثيرات هذه التطورات على مركز لندن المالي؛ أظهر استطلاع رأي لمؤسسة "ستاتيستا" الألمانية أن 49 بالمئة من البريطانيين يعتقدون أن قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي خاطئ، في وقت أعلن 38 بالمئة تأييدهم للفكرة، وهو ما يعكس تغيّر المزاج الشعبي بعد سنة من بريكست.

كما لا تتوقف رئيسة وزراء أسكتلندا، نيكولا ستورجن، عن المطالبة بتنظيم استفتاء جديد للانفصال عن المملكة المتحدة، أمام تعنّت من رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون الذي يقول إن الاستفتاء لا يتم إلا مرة واحدة كل جيل.

وتستند الحكومة في لندن على رفضها بكونها سمحت بهذا الاستفتاء في 2014، وفاز خيار البقاء تحت التاج البريطاني.

في المقابل يقول الحزب الوطني الإسكتلندي الحاكم إن إسكتلندا لم تصوت لخيار الانسحاب من الاتحاد، ومن حقها البقاء داخله.

وتظهر استطلاعات الرأي تقارب وجهات النظر بين الراغبين في البقاء وبين مؤيدي الانفصال، مما يعني أن إجراء أي استفتاء لن يكون محسوم النتيجة.