"الجيل الخامس".. لماذا أشعلت حربا بين الحكومة الأميركية ومشغلي الشبكات؟

في ظل سباق متسارع نحو تطوير شبكات الجيل الخامس "5G"، تتقدمه الصين، المعروفة بريادتها لهذه التقنية، تقف الولايات المتحدة متخبطة في جدالات بين مسؤولي قطاع الطيران ومشغلي الخدمة اللاسلكية بشأن مخاطر التكنولوجيا على سلامة الطائرات.
وتتخوف وزارة النقل الأميركية وإدارة الطيران الفيدرالية من حدوث اضطراب واسع في الحركة الجوية، على خلفية تداخل إشارات شبكة الجيل الخامس مع إلكترونيات وأدوات الهبوط الحالية بالطائرات.
تقابل هذه التخوفات برفض مشغلي الشبكات الذين استثمروا مليارات الدولارات من أجل إطلاق هذه التقنية وتعمل الحكومة على تأجيل ذلك.
ويطالب المشغلون بإعطاء الأولوية لتشغيلها، في ظل السباق المتواصل مع الصين، وتصاعد الطلب على الخدمة اللاسلكية وسط جائحة كورونا.
وفي 3 يناير/كانون الثاني 2022، توصل عملاقا الشبكات اللاسلكية في أميركا "أيه تي آند تي" و"فيريزون كوميونيكيشنز" إلى حل وسط مع المسؤولين.
ووافقا على تأخير إطلاق خدمة الجيل الخامس لمدة أسبوعين (19 يناير) والحد من وضع الأبراج الخلوية بالقرب من 50 مطار لمدة ستة أشهر على الأقل.
وتمتعت الصين عبر شركتها الشهيرة "هواوي" بهيمنة مبكرة على تقنية وتحديات الجيل الخامس التي أصبحت حاليا جزءا مهما من الاقتصاد العالمي, رغم ضغوط أميركية شديدة تروج إلى أن هذه الطفرة الصينية تهدد الأمن والخصوصية في العالم الديمقراطي.
وفي أبريل/نيسان 2019، كشف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب (2017-2021) عن خطط لإطلاق مزادات ضخمة للطيف الراديوي لدعم تطوير وبناء شبكات الجيل الخامس بقيمة 275 مليار دولار.
وحينذاك، قال ترامب في تصريحات صحفية بالبيت الأبيض: "سباق تكنولوجيا الجيل الخامس يجب أن تفوز به أميركا، لا يمكننا السماح لأي دولة أخرى بالتفوق على الولايات المتحدة في هذه الصناعة القوية للمستقبل".
تقنية جديدة
وفق الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول "GSMA"، يقصد بالجيل الخامس شبكات خلوية ذات نطاق عريض في مجال الاتصالات بدأت في الانتشار بالعالم عام 2019، وهي الخلف المخطط له لشبكة الجيل الرابع.
وقبل الوصول للجيل الخامس، أتاحت تقنية الجيل الأول الاتصال بين الأفراد عبر المكالمات الصوتية، وفي الجيل الثاني تمت إتاحة خدمة الرسائل النصية القصيرة.
وجاء الاتصال بشبكة الإنترنت مع الجيل الثالث، وفي الرابع زادت سرعة الاتصال بالإنترنت.
فيما يوفر الجيل الخامس سرعة عالية للغاية، لدرجة أن المستخدم العادي سيتمكن من تحميل فيلم في حدود 10 ثوان، ويؤكد مختصون أنه سيغير عالم الإنترنت وسينتج ثورة في مجالات كالطب، والصناعة، خاصة السيارات ذاتية الدفع.
وتتجه غالبية دول العالم حاليا إلى اعتماد هذه التكنولوجيا في كافة بناها التحتية، بما فيها المستشفيات، والمواصلات، ومحطات إنتاج الطاقة، ويتوقع أن تضم شبكات الجيل الخامس أكثر من 1.7 مليار مشترك في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2025.
في هذا السياق، قالت وكالة بلومبيرغ الأميركية إن الرسائل النصية جاءت مع شبكات الجيل الثاني، وبشرت شبكات الجيل الثالث بقدوم "آيفون"، ومكنت شبكات الجيل الرابع خدمات مثل "أوبر" و"فيس تايم".
واستدركت في تقرير بتاريخ 16 يونيو/ حزيران 2021: "أما الجيل الخامس فيوفر لقطاع الأعمال الأمان، والسرعة الفائقة، وتقليل ازدحام الشبكة، واستيعاب عدد كبير جدا من المستخدمين، ما يمهد الطريق للمصانع الذكية".
ويقدم الجيل الخامس لمستخدميه سرعة تتجاوز 100 ضعف السرعة التي يوفرها الإنترنت حاليا، إضافة إلى أن الخدمة لا سلكية تنتقل عبر الهواء وليس عبر سلك يتصل بالمنزل.
أنواع التقنية
من جانبه، أوضح موقع "دالاس نيوز" الأميركي في تقرير بتاريخ 6 مارس/ آذار 2021 أن شبكات الجيل الخامس تتنوع بحسب الجزء المستخدم فيها من الطيف الراديوي.
فيستخدم النطاق المنخفض منها ترددات 600 و800 و900 ميغا هرتز وتبلغ سرعته القصوى أثناء التحميل 100 ميغا بايت في الثانية.
ويستخدم النطاق المتوسط ترددات تتراوح بين 2.5 و4.2 غيغا هرتز، وتصل ذروة سرعته إلى واحد غيغا بايت في الثانية.
أمّا النطاق العالي فيستخدم ترددات متعددة تتراوح بين 24 و47 غيغا هرتز وينتج سرعات قصوى تصل إلى 10 غيغا بايت في الثانية.
والنطاق الأول هو الأقل سرعة، لكن إرساله ينتقل لمسافة أبعد من البرج الخلوي ويخترق الأبنية بنجاح.
في حين أن النطاق العالي فهو الأسرع، لكن إرساله لا ينتقل لمسافة بعيدة عن الأبراج، ولا يخترق الأبنية بالدرجة المطلوبة.
أما النطاق المتوسط، فيمكن اعتباره حلا يقدم مزيجا مرضيا من السرعة، والمسافة، واختراق الأبنية.
وفي الولايات المتحدة، تستخدم شركة "تي موبايل" قسما كبيرا من طيف النطاق المنخفض، بينما تملك شركة "سبرينت" القسم الأكبر من النطاق المتوسط.
أما النطاق العالي، فتشغله العملاقتان "أيه تي آند تي" و"فيريزون كوميونيكيشنز".
تخبط مخجل
ومع الشركتين الأخيرتين بدأت المواجهة الحالية بينهما من جهة، ووزارة النقل الأميركية وإدارة الطيران الفيدرالية، فضلا عن عملاقي تصنيع الطائرات "بوينغ" الأميركي و"آيرباص" الأوروبي من جهة أخرى.
وأشارت وكالة بلومبيرغ في الأول من يناير 2022 إلى أن إدارة الطيران الفيدرالية حذرت في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2021 من أن أجهزة سلامة الطائرات قد تتعطل بسبب قراءات عداد الارتفاع المفقودة أو الخاطئة، على خلفية النطاقات العالية من الجيل الخامس.
وردت الشركتان بأن مستويات الترددات بالنطاقات منخفضة بما يكفي لمنع التداخل، وأشارت إلى أن عمليات الجيل الخامس المشابهة خارج الولايات المتحدة لم تلحق بالطيران أي أضرار.
فيما أوضح خبراء بالفضاء الجوي أن مستويات الترددات تختلف في الدول الأخرى، التي وضعت في بعض الحالات الحماية التي تطلبها شركات الطيران الأميركية.
وفي 31 ديسمبر، وقبل 5 أيام من الموعد المتفق عليه لإطلاق الخدمة، طلبت وزارة النقل الأميركية من الشركتين تأجيل ذلك أسبوعين إضافيين بعد تأجيل سابق دام شهرا كاملا كان يفترض انتهاؤه في 5 يناير.
وقالت الوزارة إنها ستحدد أثناء تلك المدة مدى سلامة عمل المطارات، وإن كان سيسمح فرض منطقة عازلة للرحلات الجوية، بالاستمرار بأمان.
كما اقترحت تفعيل الخدمة لاحقا على أساس التناوب بالقرب من المطارات ذات الأولوية حتى مارس/ آذار 2022.
وبعد جدل كبير، استجابت الشركتان للطلب وأجلتا الخدمة حتى 19 يناير، وقالتا إنهما ستعملان بطاقة منخفضة، بهدف تبديد مخاوف الطيران.
وفي 14 يناير، عادت إدارة الطيران الفيدرالية لتحذر من أن المخاطر التي يتداخل فيها النطاق الأسرع من الجيل الخامس مع معدات الطائرات تتطلب فرض قيود حتى يجري التأكد من سلامة العمليات.
وبدأت نشر واحدة من أكثر إخطارات المهام الجوية شمولية في تاريخها، وفق بلومبيرغ، تضمنت 1462 طلبا ينطبق على العشرات من المطارات الكبيرة التي من المتوقع أن توجد فيها إشارات الجيل الخامس.
على سبيل المثال، سيجري منع الطائرات التي تهبط في مطار "أوهير" الدولي بشيكاغو من استخدام بعض إجراءات هبوط أدوات الرؤية الضعيفة، ما لم يتمكن مصنعو الطائرات إثبات سلامة معداتهم.
وهذه القيود من شأنها تعطيل آلاف الرحلات الجوية وتكبيد شركات الطيران نحو 1.6 مليار دولار سنويا.
حقيقة المواجهة
ولمعرفة العلاقة بين نطاقات الجيل الخامس فائقة السرعة بخسائر شركات الطيران في الولايات المتحدة، سلطت صحيفة "إندبندنت" البريطانية الضوء على حقائق صادمة بهذا الشأن في تقرير بتاريخ 22 ديسمبر 2021.
وأوضحت أن المواجهة تدور حول أداة إلكترونية تسمى "مقياس الارتفاع الراديوي (الراداري)"، الذي تستخدمه جميع أنواع الطائرات لقياس الارتفاع والمسافة بين الطائرة والأرض، حيث يعمل عبر إرسال إشارة نحو الأرض، ثم تحديد الارتفاع، بناء على الوقت الذي تستغرقه الإشارة للانعكاس والعودة إلى الطائرة.
وتعمل مقاييس الارتفاع الراديوي في نطاق التردد 4.2 إلى 4.4 غيغا هرتز، وستوضع هذه الأجهزة مع خدمات الجيل الخامس، بما في ذلك الأجهزة التي يحملها الركاب بشكل روتيني على متن الطائرة (مثل الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية).
وتحذر الشركات المصنعة للطائرات من أنه إذا تداخلت ترددات الجيل الخامس مع مقاييس الارتفاع الراديوي، فإنه من المتوقع حدوث اضطرابات كبيرة في السفر الجوي للركاب، والنقل التجاري، وخدمات مروحيات الهليكوبتر المتنوعة.
وتدرك هذه الشركات مدى حساسية مقاييس الارتفاع الراديوي للتداخل، وهناك دراسات تؤكد أن التداخل بينها مع ترددات النطاق العالي من الجيل الخامس لا يمكن التنبؤ به.
وتخصيص الحكومة الأميركية هذا النطاق من شبكة الجيل الخامس لمشغلين، يفرض مشاكل على أنظمة الرادار القديمة أو غير المطابقة للمواصفات بالطائرات.
وهو ما يفرض بدوره، تكاليف كبيرة على صناعة الطيران لتحديث إلكترونياتها.
ولهذا اضطرت إدارة الطيران الفيدرالية إلى حظر عمليات الهبوط منخفضة الرؤية في المناطق التي تغطيها شبكة الجيل الخامس.
وهي خطوة من شأنها تعطيل ما يصل إلى 350 ألف رحلة طيران، وخسائر بنحو 2.1 مليار دولار سنويا، بحسب تقديرات مجموعة الضغط "إيرلاينز فور أميركا".
غير أن هذه التحذيرات لا تلقى صدى لدى مشغلي الشبكات، الذين أنفقوا ما يقرب من 81 مليار دولار للحصول على حقوق استخدام النطاق محل الخلاف، ويؤكدون بشكل متكرر أن المخاوف المتعلقة بالسلامة لا أساس لها من الصحة.
ويقترحون تقليل جودة الترددات بالقرب من المطارات، وهو الطرح الذي لا يعتقد مسؤولو الطيران أنه كاف.
كما أن شركات الطيران لا تريد تقديم أي تنازلات، خاصة بعد عامين قاسيين شهد القطاع خلالهما خسائر بمليارات الدولارات بسبب جائحة كورونا.
والآن صارت الكرة في ملعب المشرعين، الذين عليهم أن يتوصلوا إلى اتفاق بين القطاعين في الوقت المناسب.
وفي الوقت ذاته، تعتزم الشركات المصنعة للطائرات مثل "بوينغ" بناء طائرتها المقبلة وفق هذه المستجدات.
ومن المؤشرات على حجم التخبط الكبير الذي تشهده الولايات المتحدة في هذا السياق، نشرت إدارة الطيران الفيدرالية وحدها 10 بيانات في نحو 30 يوما حول النطاق العالي من شبكة الجيل الخامس فقط، مليئة بتحذيرات تارة ورسائل تهدئة تارة أخرى.
ومع ذلك لا تزال الخارجية الأميركية عبر موقعها "شير أميركا" تنشر بيانات تعرب فيها لدول العالم عن استعدادها لمساعدتها في بناء شبكات جيل خامس "آمنة" بعيدا عن شركات وتقنيات الصين التي "تهدد الأمن القومي، والخصوصية، وحقوق الإنسان، والملكية الفكرية".
وتأتي في مقدمة الشركات غير الأميركية العاملة في هذه التقنية، "هواوي" و"زي تي إي" الصينيتان، و"نوكيا" الفنلندية، و"سامسونغ" الكورية الجنوبية، و"أريكسون" السويدية.