عن ما كان يطلق عليه سفريات مشبوهة

أحمد ماهر | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بعد الثورة المصرية عام 2011 كان هناك شغف كبير لدى الدوائر الغربية (الرسمية والأكاديمية والإعلامية والشعبية) لمعرفة المزيد حول تلك الثورة وأسبابها وطبيعة المجموعات التي ساهمت في انطلاق شرارتها، ولذلك كانت هناك العديد من الدعوات من مراكز بحثية غربية أو جامعات أو بعض البرامج التابعة لجهات دبلوماسية - للعديد من المجموعات أو الشخصيات التي كان لها دور معروف.

وفي هذا الإطار سافرت لتلبية بعض تلك الدعوات في الأعوام الثلاثة التالية لقيام الثورة للحديث عن تجربة الحركات الاجتماعية في مصر، أو للرد على أسئلة صحفية وأكاديمية حول الوضع السياسي في مصر أو عن مستقبل الحركات الشبابية التي كان لها الدور في إشعال الفتيل وباقي تلك الموضوعات التي كانت حديث الساعة ومصدر إلهام لشباب العالم وقتها.

كان أنصار الرئيس المخلوع مبارك وأنصار المجلس العسكري وقتها يطلقون على ذلك النوع من السفريات مصطلح "السفريات المشبوهة"، وحتى اليوم يستخدم بعض أنصار السلطة الحالية هذا المصطلح، فهم يرغبون في احتكار كل شيء؛ المعرفة والمنح التعليمية والحوار مع الدوائر الغربية بكل تنوعاتها -رسمية كانت أو أكاديمية أو إعلامية أو شعبية.

وبالنسبة لي لا أخجل من سفرياتي السابقة ولا من تواصلي مع شخصيات أكاديمية أو إعلامية أو تاريخية في الغرب، ولا أعتبر ذلك عيبا يحتاج المواربة، بل أعتقد أنه من المفيد الانفتاح على الجميع وعدم اعتبار ذلك حكرا على السلطة الحاكمة.

في إحدى المرات عام 2011 تم دعوتي ضمن وفد من ممثلي الحركات الشبابية للسفر لبولندا، بهدف التعرف أكثر على تجربة الثورة البولندية 1989، ودراسة مرحلة المائدة المستديرة وكيف حدث الاتفاق بين سلطات الحزب الشيوعي مع المعارضة وقادة الثورة على الانتقال السلمي للسلطة والتحول الديمقراطي، ثم كيف بدأت المرحلة الانتقالية التي قادت بولندا لمزيد من الديمقراطية والتقدم. قابلت في تلك الزيارة المناضل الثوري "ليخ فاونسا"، عامل الكهرباء الذي قاد "حركة تضامن" وأصبح أول رئيس لبولندا بعد الثورة، وقابلت كذلك العديد من قادة حركة "تضامن".

تعرفت كذلك على تجربة الحكم المحلي في بولندا، وقمت بزيارة جلسات واقعية للمجالس المحلية في وارسو وجدايسك، وشاهدت كيفية مشاركة الجمهور والسكان ومنظمات المجتمع المدني في تقديم اقتراحات وطرحها للمناقشة والضغط من أجل الموافقة عليها.

فبولندا اتجهت نحو اللا مركزية الإدارية والمالية في الحكم المحلي، وإعطاء فرصة أكبر للمشاركة الشعبية، وهو ما ساهم بنسبة كبيرة في نهضتها الحالية؛ فالمجالس المحلية للمدن والمقاطعات لها الحق في تقرير موازناتها وميزانياتها حسب احتياجات ومصالح السكان. الأعضاء يكوّنون بالانتخاب الحر، بجانب إمكانية المشاركة الشعبية والرقابة الشعبية على المجالس المنتخبة، وقبل اتخاذ قرار هام في المدينة يكون هناك فترة كافية للنقاش المجتمعي ويتم السماح للجمهور بحضور الجلسات وكذلك متابعة التصويت، وفي كثير من الأحيان يتم طرح الأمور المصيرية أو الخلافية للاستفتاء العام.

في ٢٠١٢ و٢٠١٣ عندما كانت المجموعات الثورية أو المجتمع المدني يتحدثون عن فكرة الرقابة الشعبية على المجالس المنتخبة، كان هناك رفض لدى الإخوان لهذه الفكرة، وكان البعض يقول لنا ليس لكم الحق في ذلك، فالشعب انتخبنا ولنا الحق أن نفعل ما نشاء حتى موعد الانتخابات القادمة، وقد وضح هذا كثيرا في دستور ٢٠١٢.

حضرت العديد من النقاشات داخل الجمعية التأسيسية لوضع الدستور عندما كنت عضوا بها، وكان رأي الأغلبية الإخوانية أن اللا مركزية والحكم المحلي غير مناسبين لمصر في الوقت الحالي، وأنه يجب الاحتفاظ بجوهر النظام المركزي وسلطات رئيس الجمهورية في تعيين المحافظين ورؤساء الأحياء، وليس بالانتخاب الحر كما هو مرغوب من القوى الشبابية والثورية، وذلك حتى يقوموا بتنفيذ برنامج الرئيس وتحقيق مشروع النهضة.

بناء على ذلك تم الاحتفاظ بالطبيعة المركزية لنظام الحكم وللسلطة التتفيذية، وكان هناك رفض شديد من قبل جماعة الإخوان لفكرة الحكم المحلي وإمكانية انتخاب المحافظين ورؤساء الأحياء، وكان دستور ٢٠١٢ لا يختلف كثيرا عن دستور ١٩٧١ في منح سلطات مقيدة للمجالس المحلية المنتخبة في مراقبة المسؤولين التنفيذيين في المحليات.

لا يعني انتقادي لتجربة كتابة الدستور في فترة حكم الإخوان وإصرارهم على الاحتفاظ بجوهر نظام الحكم المركزي، أن الوضع الحالى أفضل، ففي عهد الإخوان كان هناك نقاش على الأقل، صحيح أنهم كانوا يتجاهلون أي رأي توافقي ويفرضون إرادتهم في النهاية بعد كل نقاش، لكن كان هناك نقاش ونقد على الأقل حتى لو كان صوريا، أما الآن فقد أصبح النقاش رفاهية غير مطلوبة، ومجرد الحديث حول فكرة الرقابة الشعبية أو المشاركة المجتمعية قد يفتح أبواب الجحيم على صاحبه.

وهناك في دستور 2014 المادة 175 التي تتحدث عن اللا مركزية على استحياء، ويبدوا أنها وضعت على عجالة ضمن المواد التي تم وضعها لمعالجة أخطاء دستور ٢٠١٢ ولكن لم تذكر تلك المادة أية تفاصيل عن معنى وكيفية تلك اللا مركزية المنشودة، فالمادة 180 على سبيل المثال تشجع على مشاركة الشباب في عضوية المجالس المحلية المنتخبة.

وكذلك تضع نسبة للمرأة وللعمال والفلاحين، كما أن هناك إمكانية لمناقشة الميزانية وخطة التنمية وكذلك سحب الثقة، كذلك نصت المادة 181 على عدم جواز تدخل السلطة التنفيذية في عمل المجالس المحلية المنتخبة.

ولكن هل يحترم نظام الحكم الحالي أي دستور أم يعتبره شكل من أشكال العراقيل والعقبات الكريهة، فحتى الدستور الذي تم وضعه في عجاله عام ٢٠١٤ لا يتم احترامه، ونظام الإدارة المحلية في مصر أصبح أشد في درجة المركزية من ذي قبل رغم مواد اللا مركزية وسلطات المجالس المحلية.

والانتخابات المحلية تعتبر مصدر إزعاج جديد وشديد للنظام الحاكم في مصر، يتم تأجيلها بشكل تلقائي حتى يتم الانتهاء من تفصيل قانون يضمن السيطرة الكاملة للسلطة التنفيذية على المجالس المحلية المنتخبة، في حالة الاضطرار لإجراء الانتخابات، مع استمرار تعيين أهل الثقة في المناصب التنفيذية من ضباط الجيش المتقاعدين، وهو ما يفسر استمرار ذلك الفشل الإداري المتواصل منذ عشرات السنوات.

زيارة سريعة للمنافذ الحكومية في مصر لمعرفة كم الفساد والفشل الإداري المستمر منذ عشرات السنين، المنظومة في غاية المركزية والإدارات المحلية غارقة في الفساد والبطء، الموافقات الحكومية والتراخيص تحتاج لمئات من الإجراءات والزيارات واللوائح المعقدة والمتداخلة، وهذا يتطلب تدخل الوساطات والاستثناءات والاتصالات توفيرا للوقت، وإن كنت لا تملك ذلك النفوذ فأنت تحتاج لكثير من الحيل والرشاوى التي لها عدة مسميات في مصر مثل "الشاي والحلاوة".

لم يتغير أي شيء في منظومة إدارة الدولة رغم كل ما حدث ورغم هذا العدد من الشهداء والمعتقلين، فالحفاظ على ذلك الفشل يطلق عليه في وسائل الإعلام الموالية مصطلح "الحفاظ على الدولة"، ويرفضون فكرة اللا مركزية وحرية الإبداع والتفكير من خارج الصندوق، يكرهون كلمات مثل "الإصلاح" ويعتبرونها مؤامرة لتدمير المؤسسات وهدم المعبد، وكل من يحاول التعلم من التجارب الناجحة أو يحاول نقل الخبرات إليهم وتطوير طرق الإدارة يعتبرونه متآمر لديه أجندات أجنبية ولديه تاريخ من "السفريات المشبوهة".

أتذكر تلك المبادرات التي تم طرحها ثورة 2011 من شباب مخلص لا يرغب إلا في الإصلاح، مبادرات وأفكار لدعم اللا مركزية والإصلاح الإداري ودعم الشفافية والحكم الرشيد ومكافحة الفساد، مبادرات لدعم المشاركة الشعبية والمساءلة والمحاسبة، كانت كفيلة بوضع مصر نحو الطريق الصحيح وحسن استغلالها لمواردها وثرواتها.

لكن الجميع أخطأ وأضاع الفرص المتوالية، فتشوهت تلك الأحلام وانعكست المعايير، فأصبح الحالم بالإصلاح هو الخائن والمخرب.