هوس النظافة.. تركيات يخاطرن بحياتهن لتلميع نوافذ البيوت

12

طباعة

مشاركة

"كانت النظافة إحدى السمات التي تميز الأتراك، فربما تكون منازلهم متواضعة ومن دون سجاد، لكن من المؤكد أن كل حصير قد كنس وأن الأرضيات قد دعكت، والصحون والقدور قد غسلت. بوسعكم أن تتناولوا الطعام وأنتم مطمئنون في أي مكان خاص بالأتراك وإن كان متواضعا، فنظافة الأتراك خصلة قومية لديهم".

ما رصدته الباحثة التاريخية التركية من أصول أمريكية، أصلي سنجر، في كتابها "المرأة العثمانية بين الحقائق والأكاذيب" يظهر للعيان في الشوارع والمطاعم وداخل البيوت التركية، فمشهد سيدة تتعلق في نافذة من الخارج لمسح ما عليها من غبار لا يمكن أن تشاهده إلا وأنت تزور البلد.

هذا الهوس الذي يجعل النساء يخاطرن بحياتهن لأجل نظافة مثالي، ينهي، حسب إحصاءات تركية، سنويا حياة نحو 50 سيدة في تركيا، نصفهن ربات بيوت، والنصف الآخر عاملات تنظيف.

النظافة هي العامل المشترك في الـ 50 حالة وفاة السنوية في تركيا، وإن اختلفت الوسائل من حالة إلى أخرى، فهناك من تفارق الحياة اختناقا بسبب الإفراط في استعمال مواد التنظيف، فيما تُسجل حالات وفيات أخرى بسبب السقوط من أعلى الطوابق خلال تنظيف نوافذ البنايات.

زجاج النوافذ

في 2019 لقيت سيدة تركية - أم لطفلين - مصرعها عندما سقطت من شرفة منزلها في الطابق الرابع بمنطقة "كوتشوك تشكمجي" وسط مدينة إسطنبول.

وفي الشهر الأخير من نفس السنة لقيت أربعينية مصرعها على الفور، عندما سقطت من الطابق الحادي عشر أثناء تنظيف نافذة شقتها في منطقة "باغجيلار" بالمدينة نفسها، بعد أن فقدت توازنها أثناء قيامها بتنظيف زجاج النوافذ من الخارج.

وذكرت تقارير صحفية تركية أن السيدة البالغة من العمر 32 عاما كانت تنظف السجاد في شرفة المنزل، وخلال سقوطها اعتقد الجيران أنها أقدمت على الانتحار.

وفي 2016 عاشت عائلة تركية مأساة عندما تسبب خلط مواد تنظيف منزلية بمقتل شخص ودخول 3 آخرين من أفراد العائلة في غيبوبة استمرت 5 أشهر.

وتعود تفاصيل الحادث الذي جرى بمحافظة "كهرمان مراش"، عندما كانت ربة البيت تنظف المطبخ، وللحصول على نتيجة مثالية لجهاز شفط البخار عمدت إلى خلط مادتي مزيل الدهون والمبيض بسبب تراكم الدهون.

أصيبت الأسرة بتسمم بسبب الرائحة، ما جعل وزارة الشؤون الاجتماعية توجه نداء تحذر فيه ربات البيوت بعدم اللجوء إلى خلط مكونات التنظيف المنزلية واستخدامها على السطوح المعدنية، ما يحولها لأسلحة كيميائية، قد يترتب عليها نتائج كارثية.

الحالات المتعلقة بهذا النوع من التسمم بسبب مواد التنظيف سجلت بين 15 و20 حالة تسمم سنويا تذهب إلى المشافي، حسب إحصاءات تركية، يسبب سائل التبييض المخلوط بالملح تسمما عن طريق الاختناق.

"صناع المنظفات"

تأسست جمعية صناع المنظفات في عام 1989 بتركيا، وفي عام 1991 أصبحت عضوا في الرابطة الأوروبية لمنتجات التنظيف والعناية، ومن أهم المشاكل التي واجهتها الجمعية هي أماكن إنتاج المنظفات الغير معترف بها، التي تنشر منتجاتها في الأسواق، ولا تخضع لأي من شروط سلامة المستهلك، إذ تتضمن مواد ضارة بالجلد والصحة.

لمواجهة هذا التحدي خضعت المنتجات في السوق للرقابة من وزارة الصحة، لكن التراخيص كانت تعطى في المكاتب، ولا يتم إجراء أي تفتيش أو مراقبة فيما بعد على المنتجات التي تقدم للمستهلك، ما خلق منافسة غير عادلة ضد المنتج الخاضع للشروط.

أفاد تقرير صادر سنة 2004 أن الأتراك هم الأكثر استهلاكا للصابون ومواد التنظيف على مستوى أوروبا، مشيرا إلى أن صادرات الصابون تصل إلى أرقام كبيرة.

وتنتج تركيا حوالي 500 ألف طن من الصابون، وتصدر علامات تجارية للبلد إلى 102 دولة. وحسب المصدر ذاته عادلت الصادرات 140 مليون دولار في نهاية عام 2001، أي ما يصل إلى 175 طنا، ورأت تركيا حينها أن عليها السعي أكثر لإيجاد فرص للتصدير.

وقُدّر إجمالي سوق مواد التنظيف بحوالي 1.5 مليار، وكان يعمل حوالي 4 آلاف و500 شخص في الإنتاج في هذا القطاع.

انفتحت تركيا على مجال وكلاء التنظيف - أي الشركات التي تشتغل في المجال وترسل عاملين إلى المنازل والشركات باليومية تحت الطلب - رصد التقرير في 2004 إجمالي عدد الشركات العاملة في القطاع بحوالي 200 شركة 10 منها فقط كانت أجنبية.

عادات تاريخية

تحدثت المؤرخة أصلي سنجر عن النظافة الشخصية فقالت في كتابها: إن الطهارة التي نص عليها الإيمان أصبحت جزءا من نظام اعتاد عليه الأتراك، ولعل هذا ما جعلهم أقل عرضة للإصابة بالأمراض المؤثرة. 

ووصف الكتاب انتشار الحمامات في كل مدن وشوارع تركيا، قائلا: "يطلق الأتراك عليها اسم حمّام، وهي موجودة في كل المدن الكبيرة، وفي العاصمة فإن الحمامات كثيرة جدا، وبعض القديمة منها في إسطنبول والحمامات المعدنية في بورصة تعد من أجمل نماذج هذا النوع من العمارة، ويذهب الناس إليها من كل طبقات المجتمع، إذ أن أجرة الدخول إليها رخيصة جدا، وثمة الكثير من الحمامات الصغيرة التي ألحقت بأبنية الوقف أو الجوامع لكي يستخدمها الفقراء".

وعادت سنجر لتتحدث عن نظافة المنزل، وهي تصف أحدها قائلة: "كانت الأرضيات الخشبية تغطى بالسجاد تماما، سواء في منازل الفقراء أو الطبقة الراقية، وكان الجزء المتبقي ينظف ويدعك بعناية كل أسبوع".

وزادت الكاتبة: "لا تشاهد ذرة صغيرة من الغبار أو الطين أو القاذورات في أنحاء المنزل، لأن الرجال والنساء بصرف النظر عن وضعهم ودرجتهم كانوا يخلعون أحذيتهم أمام عتبة الباب قبل دخول المنزل، ورغم استخدام بسط أقل قيمة في الدوائر الرسمية إلا أن العناية بنظافتها كانت في المستوى نفسه، دع عنك المقاهي والحوانيت والمصانع والحمامات العامة، كلها كانت نظيفة بالمستوى نفسه". 

شدة النظافة هي السمات البارزة لبيوت الأتراك، بحسب سنجر، "فلا يمكن أن ترى أي أثر لقدم أو ذرة غبار في الردهات الواسعة المفتوحة، ولا يمكن أن ترى أي بقعة صغيرة في ملابس سيدة تركية".

أما الكوب المستخدم للشرب يحفظ باهتمام خشية تلوثه، وفور أن تنتهي من طعامك يحضر أحد الخدم ماء ومنشفة كي تغسل يدك، تقول المؤرخة: "وهو ما يفسر حرص النادلين في المقاهي والمطاعم التركية على إخلاء المائدة من أي فوارغ وتنظيفها لدرجة تزعج الزبون الأجنبي في كثير من الأحيان".

هوس النظافة

هوس السيدات التركيات بالنظافة والترتيب وتنسيق ألوان المفروشات ولوازم المطبخ جعلهن محط اهتمام نظيراتهن العربيات عبر تطبيق "إنستجرام" المخصص للصور ومقاطع الفيديو، فقد انتشرت حسابات لسيدات تركيات ينقلن عبرها طرق التنظيف ورص مائدة الطعام بأطباق ملونة، وأصبحت هذه الصفحات تحظى بمتابعات مهمة من النساء العربيات.

هذا الانبهار قد يكون بدأ من المسلسلات التركية التي لها قاعدة جماهيرية عريضة في العالم العربي، ثم عززته مواقع التواصل الاجتماعي، لتشابه نمط الحياة وبعض العادات إلى حد كبير.

تغيير ديكورات المنزل باستمرار عبر حيل بسيطة يجعل شكله مميزا. تركز التركيات على الألوان الفاتحة في الأثاث، ما يجعل سيدات عربيات يتساءلن كيف تتجرأ التركيات على فعل ذلك في بيت فيه أطفال.

لكن هناك بعض الحيل التقنية، تبدأ من منع فتح النوافذ إلا في أوقات محددة وقصيرة لمنع دخول الأتربة.

يغطى السجاد بغطاء مخملي مزخرف لا يختلف عن تصميم السجاجيد، ويمكن غسله كل أسبوع أو أسبوعين واستبداله بآخر والحفاظ على السجاد الأصلي، فضلا عن تغطية أطقم الاستقبال ومقاعد السفرة بالمفروشات والأغطية الملونة، كما يسمح ذلك بتجديد الألوان والديكورات عبر خدع بسيطة.

للزجاج وضع خاص فيجب أن يلمع من الداخل والخارج ليظهر كالمرآة، بحسب ما تروي سيدة تركية في مقال على إحدى الصحف التركية عن هوس التركيات بالنظافة، وتقول: إن الجارات يطلبن خلال الزيارة فتح النوافذ بحجة أن "الجو حار أريد" في حين أن هدفها هو مراقبة مدى لمعان الزجاج.

ومن بين العادات الغريبة للأتراك التي رصدها المقال، عند طلب يد الفتاة ترمي إحدى النسوة المرافقات للعريس من أسرته شيئا عنوة تحت الأريكة لترى مدى نظافة الأرضية.

يخضع نشر الغسيل على الحبل لطقوس خاصة، وتصفها كاتبة المقال بـ"المهارة" فالأمر معقد بعض الشيء، تبدأ السيدة التركية من أكبر القطع وأحلك الألوان، ثم القطع الصغيرة والخفيفة اللون، وتبرر وجهة نظر في الموضوع بالقول: "يجب أن تكون الحبال مرصوصة بذات اللون، ويجب أن تعلق الملابس الكبيرة في القسم الخارجي وما تبقى في الأسفل، يمكن أن نقول أن هذا جزء من الضغط الاجتماعي أو أن الأتراك يهتمون كثيرا بمن حولهم".

تبدأ التركيات تنظيف المنزل من المطبخ، وأول شرط يجب أن لا يبقى شيء على سطح المطبخ، ظنا منهن أن وجوده "يسبب تعبا للعين".