كرة القدم بين البعد الإنساني والسياسة 

فرح أشباب | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تجاوزت كرة القدم كونها رياضة تستوجب عددا محددا من اللاعبين يتنافسون فيما بينهم على تمرير كرة مستديرة واحتكار رقعة الملعب وتسجيل أهداف ضد الفريق الخصم. لم تعد حكرا على فئة معينة من الناس ولا على جنس معين فهي تعدت كونها وسيلة للتسلية وتمرينا بدنيا يمارسه الأشخاص من حين لآخر، بل صارت ظاهرة اجتماعية مركبة للغاية تتداخل فيها العديد من الجوانب الاجتماعية والسيكولوجية والثقافية والسياسية والجيوسياسية كذلك. 

في الظاهر يبدو أنها قطعة جلد منفوخة يتراكلها اللاعبون لتحقيق الفرجة والتسلية التي يطمح لها المتابعون والمشجعون، لكن الواقع أعمق وأكبر من ذلك بكثير؛ فالحمى والهستيريا التي تخلفها المستديرة في العالم بأسره تتعدى الخيال والتوقعات في كل الدول ما عدا تقريبا الولايات المتحدة الأمريكية نظرا لأن الرياضة الشعبية الأولى فيها هي كرة القدم الأمريكية، التي تعتبر كذلك من أكثر الفعاليات الرياضية مشاهدة في العالم بأسره بعد Champions leagu. إذ أظهرت إحصائيات رسمية أن حدث Super Bowl الذي ينظم سنويا في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل تتويج الفريق الفائز يشاهده أزيد من مائة مليون أمريكي ومليار إنسان عبر العالم منحدرين من أزيد من 200 دولة.

استمدت المستديرة القوة والتأثير من عدد الجماهير التي تتابعها في العالم بأسره: الأطفال والشباب والشيوخ، الطبقات الفقيرة والمتوسطة والغنية، مناطق الحرب والسلم، المثقفون وذوو الثقافة المحدودة، عمال البناء والعلماء، الجنود ورواد الفضاء.. يجد الكل متعة ما في مشاهدة كرة القدم، متعة تترجمها الهستيريا العارمة التي تضرب الملاعب والمقاهي والمنازل بعد تسجيل هدف في مرمى الخصم، وفي المقابل دموع وحسرة وانكسار وإحساس بالضياع بعد خسارة الفريق الذي يمثلنا.

خلال كأس إفريقيا الحالي يظهر جليا أن كرة القدم وحّدت ما لم تستطع قرارات سياسية توحيده، وحّدت الفصائل المختلفة وانصهرت على إثرها كل الاختلافات التي كانت تفرق بين بني الوطن الواحد؛ اليوم لا صوت يعلو على صوت الوطن حيث كان الفضل لكرة القدم في مراجعة الكثيرين لعلاقتهم بأوطانهم والنظر مرة أخرى في وطنيتهم التي بهتت بسبب الكثير من العوامل. 

من جهة أخرى وبالرجوع إلى تاريخ كرة القدم نجد أنه وابتداء من ثلاثينات القرن الماضي، صار البعد القومي يحتل مركزا مهما في الفعاليات الكروية الإقليمية والدولية، إذ لم تقتصر المنافسة على فرق محلية وصراع بين الأغنياء والفقراء والكاثوليك والبروتستانت كما جرت العادة منذ نشأة كرة القدم في إنجلترا سنة 1863، بل أخذت المنافسة بعدا دوليا عزّز النزعات القومية التي كانت متفشية آنذاك خصوصا في ألمانيا وإيطاليا بعد تنظيم أول بطولة لكأس العالم في الأوروغواي سنة 1930.

فازت إيطاليا بكأس العالم مرتين متواليتين منتصرة على تشيكوسلوفاكيا سنة 1934 ثم منتصرة على هنغاريا سنة 1938 الشيء الذي مد موسوليني الفاشي بقوة دعائية لم يشهدها العالم من قبل وذلك من أجل تكريسه التفوق العرقي الإيطالي وأحقيته بحكم العالم. 

من جهة أخرى وفي الوقت الذي كانت فيه معظم دول أمريكا اللاتينية قابعة تحت حكم عسكري دكتاتوري فازت الأرجنتين التي كان يحكمها الجنرال ڤيديلا الذي تولى قيادة البلاد بعد انقلاب عسكري والكثير من العنف والدماء بكأس العالم سنة 1978 رغم أصوات المثقفين والكتاب والصحفيين والمناضلين على رأسهم الفرنسيان ماريك هالتر ولويس آرغون اللذان ناديا بمقاطعة فعاليات كأس العالم والاصطفاف إلى جانب الطبقات المسحوقة والمناضلين الذين قتلهم نظام ڤيديلا بوحشية. 

غير بعيد عن الأرجنتين، في البرازيل التي لم يكن نظام الحكم فيها أفضل حالا من دكتاتورية ڤيديلا خرجت إلى النور فرقة مناهضة للاستبداد الذي يفرضه النظام اسمها نادي كورينثياس في ولاية ساو باولو، خاصة وأنه سيّر أموره بنفسه بعيدا عن الفساد الذي كان مستشريا حينها. ذاع صيت النادي خاصة بعدما ظفر مرتين متواليتين ببطولة الولاية وصار حالة خاصة تجسد مقاومة ديمقراطية تؤسس لإيديولوجية ثائرة غرضها التحرر من براثن الدكتاتورية.

من جهة أخرى أبدت الكثير من الفرق العربية والأجنبية كإيرلندا وتشيلي وغيرها تضامنها المطلق مع القضية الفلسطينية ضد الكيان المحتل الذي ينتمي منذ سنة 1991 إلى الاتحاد الأوروبي لكرة القدم. 

سنة 1998 وبعد الهزيمة التي ألحقها منتخب إيران بمنتخب الولايات المتحدة الأمريكية في فرنسا ورغم الورود وعبارات الود التي تبادلها الفريقان قبل المباراة إلا أن انتصار الفرس على بلاد العم سام كان مدويا ودفع مرشد الجمهورية علي خامنئي إلى القول أن إيران أذاقت العدو طعم الهزيمة مجددا. 

شهدت العقود الأخيرة تغييرا جذريا في عالم كرة القدم على جميع الأصعدة، إذ صارت هذه الأخيرة اقتصادا قائما بذاته ومدرا للمليارات من الدولارات على الفرق واللاعبين والقنوات التلفزيونية ومدراء أعمال اللاعبين ورجال الأعمال ذوي المطامح السياسية (حقوق البث والإشهارات وتذاكر المباريات وأقمصة اللاعبين...) دون ذكر قيمة المعاملات المالية في المونديال التي تتعدى أحيانا مئات المليارات من الدولارات. 

دخلت على الخط كذلك دول جديدة مثل الصين وبعض الدول الخليجية من أجل دعم أو امتلاك بعض الفرق الكبيرة في الدوريات الأوروبية حيث صارت التموقع في هذا المجال بالضبط دليلا قويا على القوة الاقتصادية والجيوسياسية للبلد الداعم أو المالك.  

بعد أيام قليلة على تتويج المنتخب الوطني النسوي الأمريكي لكرة القدم ببطولة كأس العالم ضد نظيره الهولندي، أكد الفريق على لسان بعض لاعباته أنه سيرفض جملة وتفصيلا أي دعوة رسمية في البيت الأبيض من طرف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بدعوى أنه أساء إلى النساء كثيرا في خرجاته وتصريحاته الإعلامية ناهيك عن سياساته وآرائه التي تضر بالمهاجرين والأقليات. 

صارت كرة القدم آلة اقتصادية ضخمة تصخ المليارات وقوة جيوسياسية لا يستهان بها تجمع بين الشعوب من جهة فيما يعرف بدبلوماسية كرة القدم وتتسبب في أزمات وصراعات سياسية خفية من جهة أخرى، لكنها لا زالت تمنح نفس الدرجة من المتعة والحماس لراعي أغنام صغير يتابع المباراة على أثير مذياعه ولرجل أعمال قلق يتابع المقابلة من المنصة الشرفية للملعب.