صراع بوتفليقة والجيش الجزائري يطفو.. ماذا عن 28 أبريل؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

ظن كثيرون لوقت قريب، أن العلاقة بين الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والمؤسسة العسكرية في بلاده على ما يرام، سواء من جهة قبضة الأول ومؤسسته على الجيش، أو حتى من قبل سيطرة الجيش على الرئيس ومجموعته، بينما رأى آخرون أن صانع الرؤساء هو المهيمن على المشهد والممسك الحقيقي بمفاصل السلطة والقوة في البلاد.

ربما تغيرت المعادلة الآن، بعد أكثر من شهر على اندلاع احتجاجات غير مسبوقة رافضة بداية للعهدة الخامسة للرئيس، ثم لخارطة الطريق التي وضعها بتمديد عهدته الرابعة عاما واحدا، وقد يلمح كثيرون نبرة تحد في الخطابات المتبادلة بين الطرفين، تجلت في أحدث رئاسل بوتفليقة وتصريحات نائب وزير الدفاع رئيس أركان الجيش أحمد قايد صالح.

ويرى مراقبون أن إعلان الجيش الجزائري أو تلميحه لإمكانية التدخل في الأزمة الحالية، قد يُعقّد المشهد برمته، ويضفي على مستقبل البلاد مزيدا من الغموض، كما يفتح الباب واسعا أمام سيناريوهات متعددة حول كيفية هذا التدخل وإلى أي طرف يميل، ليترقب الجميع موقف الشارع المنتفض كما يترقب تدخل الجيش المتأهب.

خطابان متناطحان

بوتفليقة الذي لا يعلم أحد على وجه الدقة حالته الصحية في هذه الأثناء، بعث برسالة تحدي للشارع الجزائري المُصر على رحيله دون تمديد عهدته الرابعة، مؤكدا تصميمه على تنفيذ خطة لانتخاب خليفة له بعد عقد مؤتمر وطني لإصلاح النظام السياسي، مشيرا إلى أن المؤتمر سيعقد قريبا لإنهاء الأزمة.

ونقلت قناة "النهار" الخاصة عن بوتفليقة، الإثنين الماضي، قوله إنه سيتم قريبا عقد "ندوة وطنية جامعة" لإنهاء الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد،  وأن هذه الندوة ستتخذ "قرارات حاسمة"، مجددا الإشارة إلى الجدول الزمني الذي أعلنه في 11 مارس/آذار الجاري المتضمن تراجعه عن خوض انتخابات الرئاسة وتأجيلها، عبر الحديث عن أن "الدستور الجديد سيمهد الطريق أمام اختيار رئيس جديد للبلاد".

وعلى الرغم من المناسبة الرسمية البروتوكولية لكلمة بوتفليقة عن "عيد النصر"، إلا أن فحواها المؤكدة على عزمه الاستمرار في الحكم لحين الانتهاء من وضع دستور جديد، تثير تساؤلات، خاصة أنه تم بثها بعد وقت قصير من تصريح رئيس أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح عبر التلفزيون الرسمي في اليوم نفسه.

صالح أكد أن الجيش "يجب أن يكون مسؤولا عن إيجاد حل للأزمة السياسية التي تشهدها البلاد"، في أكبر إشارة علنية على احتمال تدخل الجيش منذ اندلاع الاحتجاجات، حيث التزمت القوات المسلحة ثكناتها ولم تخرج أبداء أمام احتجاجات اتسمت غالبيتها بالسلمية وتعاملت معها قوات الأمن.

رئيس الأركان قال في تصريحات أذاعها التلفزيون الرسمي: "الجيش الوطني الشعبي سيكون دوما، وفقا لمهامه، الحصن الحصين للشعب والوطن في جميع الظروف والأحوال.. ثقتي في حكمة هذا الشعب، وفي قدرته على تجاوز كافة الصعاب مهما كانت طبيعتها، غير محدودة بل ومطلقة".

وفي الكلمة التي تجاهلت الإشارة من قريب أو بعيد للرئيس بوتفليقة، تابع صالح: ""لكل مشكلة حل، بل حلول، فالمشاكل مهما تعقدت لن تبقى من دون حلول مناسبة، بل وملائمة"، مضيفا أن ذلك يتطلب "التحلي بروح المسؤولية من أجل إيجاد الحلول في أقرب وقت".

إذن فنحن أمام خطابان يبدوان منفصلان تماما، كل منهما يتحدث في جانب، وكأن الرئيس والجيش لم يصبحا رقم واحد في المعادلة الجزائرية، تحت وطأة الحراك الجماهيري المتصاعد، بخلاف مواقف سابقة كانت متطابقة، وتفسيرات متواترة بشأن خضوع الجيش للرئيس وولاءه لشرعيته التي باتت هي الأخرى على المحك.

ملامح الخلاف تتجلى

ويبدو أن مشهد استقبال بوتفليقة لرئيس أركان الجيش عقب إعلان انسحابه من الترشح لعهدة خامسة وتأجيل الانتخابات لمدة عام، وما أبداه الأخير من احترام وتوقير للرئيس لم يكن كافيا للإيحاء بأن الأمور بين المؤسستين على ما يرام، لتظهر ملامح الخلاف واحدة تلو الأخرى.

الخطابان الأخيران لبوتفليقة وصالح، كشفا العديد من تلك الملامح ذات الدلالات القوية، بدايتها أن كلمة رئيس الجمهورية نقلتها محطة خاصة، مع أنه يفترض أن ينقلها التلفزيون الرسمي للدولة حصرا كما هو المعتاد، بينما نقل التليفزيون الرسمي كلمة رئيس الأركان على الهواء مباشرة.

ربما يبدو الأمر رمزيا إلى كثيرين، لكنه عميق الدلالة ويعطي انطباعا أن ثمة "فسطاطين" للحكم في البلاد ليسا على وفاق، بل يتنازعان فيما بينهما، وكان الأمر ملاحظ بشدة أيضا في رسالة بوتفليقة بشأن التراجع عن العهدة الخامسة، حيث نقلها تليفزيون "النهار " أيضا، وليس التليفزيون الرسمي.

التزامن بين الكلمتين يوحي أيضا، بأن الثانية الخاصة بالرئيس جاءت ردا على الأولى الخاصة بقائد المؤسسة العسكرية، وكان لافتا فيهما أيضا ملاحظة أخرى، فرئيس البلاد أشار إلى دور الجيش في الحفاظ على "أمن البلاد واستقرارها"، وكأنه يريد تنحيته عن لعب أي دور ألمح إليه رئيس الأركان في كلمته.

وبينما قال بوتفليقة ذلك عن الجيش، تجاهل صالح ذكر الرئيس مطلقا في خطابه، الأمر الذي يزيد من تكهنات وجود خلاف بينهما، رغم أن رئيس الأركان تحدث في مناسبات أخرى في خضم الحراك الجماهيري عن "الرئيس المجاهد"، كما أشار إلى التزام الجيش بالبعد عن أداء أي دور سياسي في البلاد.

وقبل أقل من أسبوعين كان الجزائريون على موعد مع خطاب لرئيس أركان الجيش فسره الجميع على أنه تهديد مباشر للمتظاهرين ملخصه إما استمرار بوتفليقة أو الدخول في نفق من الفوضى، حيث قال في كلمة أمام قيادات عسكرية بأكاديمية شرشال العسكرية: "الشعب الذي أفشل الإرهاب وأحبط مخططاته ومراميه هو نفسه مطالب اليوم في أي موقع كان أن يعرف كيف يتعامل مع ظروف وطنه".

وأضاف: "ندرك أن هذا الأمن المستتب وهذا الاستقرار سيزداد تجدرا وترسيخا، وسيبقى الشعب الجزائري يعيش في ظل هذه النعمة، وسيبقى الجيش الوطني الشعبي ماسكا بزمام إرساء هذا المكسب الغالي الذي به استعاد الوطن طيبته".

الاتهام غير المباشر للمتظاهرين والتهديد بمآلات الفوضى حضر في كلمة الفريق صالح، حين قال: "لم يرض بعض الأطراف الذين يزعجهم بأن يروا الجزائر آمنة ومستقرة، بل يريدون العودة بها إلى سنوات الألم والجمر التي عايش خلالها الشعب كل أشكال المعاناة وقدم خلالها ثمنا غاليا".

تناقض واضح

هذا الارتباك يجبرنا على الرجوع إلى الوراء قليلا، حيث أعلن بوتفليقة قراراته المفاجئة بتأجيل الانتخابات، والتي أثارت تساؤلات بشأن من اتخذها، ليس للوضع الصحي المتردي الذي بدا عليه الرئيس، بل لاعتبارات أخرى.

القرارات المعلنة حينها تضمنت قوله: "لا محلَّ لعهدة خامسة، بل إنني لم أنْوِ قط الإقدام على طلبها.."، بينما قال الرئيس في رسالته للمواطنين عقب إيداع أوراق ترشحه رسميا والمنشورة عبر الوكالة الرسمية بتاريخ 4 مارس/آذار الجاري: "قبل بِضعة أيام، واستجابة لنداءات المواطنين والطبقة السياسية والمجتمع المدني، وبروح تحذوها نية استكمال الواجب السامي لخدمة بلدنا وشعبنا، أعلنتُ عن ترشحي للانتخابات الرئاسية لشهر أفريل (أبريل) المقبل".

هذا التناقض له علاقة قوية بالجدل المثار الآن حول طبيعة العلاقة التي باتت تربط الرئيس بقائد جيشه، الأمر الذي يحيلنا لشاهد آخر يعضد احتمالات الخلاف الظاهر بين مؤسسة الرئاسة إن جاز التعبير، والمؤسسة العسكرية، اللتان اعتبرتا على مدار عقود جزءا واحدا.

مساء الجمعة 1 مارس/آذار الجاري، قالت وسائل إعلام عالمية، إن طائرة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، غادرت جنيف قادمة إلى الجزائر دون أن يتواجد على متنها، ونُقل عن مصادر قولها إن قائد الجيش هو الذي أجبر الرئيس على البقاء لحين استقراء رد فعل الشارع وشكل الحراك الجماهيري.

وطالما وُصف الجيش الجزائري من شدة سيطرته على السلطة بأنه "صانع الرؤساء"، وظل يلعب دوره المؤثر في السلطة من وراء الكواليس لكنه تدخل في وقائع محورية، مثلما حدث في أوائل التسعينيات عندما ألغى قادة الجيش انتخابات برلمانية فازت بها جبهة الإنقاذ الإسلامية ما أسفر عن حرب أهلية أودت بحياة نحو 200 ألف شخص، في سنوات سميت بـ"العشرية السوداء".

هل انقلب الجيش؟

التوصيف المبالغ في التشاؤم بالنسبة إلى حالة التناطح البادية بين المؤسستين العسكرية والرئاسة، أن الجيش اتخذ قراره بالانقلاب على الرئيس، ربما في صورة الاستجابة لتطلعات الشعب الثائر.

يعزز من إمكانية تحقق هذا السيناريو، حقيقة الوضع في الجزائر من حيث إمساك الجيش بمقاليد السلطة، بحسب تقرير نشرته مجلة "إيكونوميست" البريطانية، رأى أن مصير بوتفليقة يرجع إلى عصبة الجنرالات ورجال الأعمال والسياسيين، المعروفة باسم "السلطة- le pouvoir" الذين يحكمون الجزائر، تلك العصبة الحاكمة هي التي أبقت بوتفليقة في السلطة رغم حالته الصحية.

وبحكم أنه سليل جيش التحرير الوطني، فإن الجيش الجزائري لا يزال يتمتع بقدر كبير من الثقة والمصداقية لدى قطاعات واسعة من الشعب والنخبة، على نحو ربما يمهد لهم القبول بالسيطرة الفعلية للجيش على السلطة مقابل إزاحة بوتفليقة عن المشهد تماما.

ورغم اختلاف الظروف والمعطيات، إلا أن النموذج المصري إبان ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، يبقى في الأذهان مع استمرار تطورات الأوضاع في الجزائر، وتقاربها بشكل أو بآخر مع ما حدث في مصر، حيث أطاح الجيش حينها بدعوى "الانحياز لمطالب الشعب"، بينما تبين لاحقا أن المؤسسة العسكرية في مصر رسخت أقدامها بمفاصل السلطة والثروة في البلاد.

كما يعزز من فرضية "الانقلاب الناعم" حالة الجدل القانوني والدستوري القائمة حول وضع بوتفليقة بعد تاريخ 28 أبريل/ نيسان المقبل، حيث تنتهي عهدته الرئاسية الرابعة، وسط غموض كبير بشأن ما يفترض أن يكون عليه وضع السلطة في البلاد.

"معضلة 28 أبريل"

ويعد تاريخ 28 أبريل/نيسان المقبل، الموعد القانوني لنهاية ولاية بوتفليقة الرابعة؛ وهو آخر أجل لحسم ملامح المرحلة الانتقالية، سواء باستمرار الرئيس في الإشراف على شؤون الحكم وفق "خارطة الطريق" التي طرحها، أو تسليم السلطة لرئيس مجلس الأمة مؤقتا، بموجب الدستور.

ويترقب الشارع إجراءات جديدة من قبل رئاسة الجمهورية، قد تكون مدفوعة بتوجهات من داخل حزب جبهة التحرير الوطني الحاكم ومؤسسة الجيش؛ تشكل مخرجا للأزمة، أو ربما سببا للتصعيد.

ووفق تقارير إعلامية، قال مصدر مقرب من التحالف الرئاسي المؤيد للرئيس بوتفليقة، إن هناك سيناريوهين اثنين يمكن أن يحدثا، إما استقالة الرئيس أو تفعيل المادة 102 من الدستور، ولأن فترة نهاية العهدة الرئاسية قريبة فإن الكثير من الأوساط تستبعد اللجوء إلى أحكام المادة 102 بحكم أن فرضية الوضع الصحي غير قائمة بما أن المجلس الدستوري تسلم ملف ترشح بوتفليقة لعهدة خامسة، كما استبعد مراقبون أن يقدم الرئيس استقالته، خاصة بعد رسالته الأخيرة المشددة على استكمال الجدول الزمني الذي أعلنه سابقا.

لكن المصدر أكد، أن الرئيس لن يكمل في قصر المرادية (مقر الحكم) أمام مطالب متصاعدة برحيله ودون غطاء شرعي أو دستوري، الأمر الذي يترقب معه الجزائريون ما سيعلن عنه بوتفليقة في الأيام القليلة المقبلة، أي المخرج من هذه المعضلة.

المثير، أن الدستور الحالي لم يشر إلى هيئة دستورية تعوض رئيس الدولة في حال انتهاء العهدة الرئاسية دون انتخاب رئيس شرعي، الأمر الذي يعني باختصار أن الجزائر ستعيش فترة فراغ وشغور منصب رئيس الجمهورية بشكل غير مسبوق منذ الاستقلال.

ووفق الدستور أيضا، فإن رئيس مجلس الأمة (البرلمان) يعوض أو ينوب عن رئيس الجمهورية في حالتين فقط هما الاستقالة أو عارض صحي طارئ لاستكمال العهدة الرئاسية.

هنا تحديدا، إذا لم يقدم الرئيس مخرجا دستوريا لتلك المعضلة يضمن استمراره في الحكم، تكون أرض الجزائر مفروشة ومجهزة تماما لوثوب الجيش على السلطة ليس استجابة لتطلعات الشعب فقط، بل لسد الفراغ الدستوي الحاصل، وتسيير شؤون الدولة لحين إجراء انتخابات عامة ورئاسية، قد يدعو الجيش الأطياف السياسية لوضع خارطة طريق زمنية بشأنها.

الشعب يقرر

ووسط هذه الغابة من الجدل والآراء المتشعبة والسيناريوهات المفتوحة، بقي الرقم الأصعب والعامل الأهم في المعادلة وهو الشارع الجزائري الثائر، الذي حسم خياره منذ اليوم الأول "لا للعهدة الخامسة.. لا لحكم العسكر"، مستفيدة من تجربة المصريين المريرة منذ ثورة يناير 2011، مرورا بأحداث يوليو 2013.

هذا الشعب يرى مراقبون أنه كفر بكل ما يمت لهذا النظام بصلة من مؤسسات وأفراد، وبالتالي هو المخول بحسم خياره في مستقبل البلاد، ووفق تقارير إعلامية نادى برلمانيون بضرورة اللجوء إلى المادة 7 من الدستور، التي تقول بأن الشعب مصدر كل السلطات، وبالتالي يحق له بموجب ذلك تزكية هيئة منه تسير جميع جوانب المرحلة الانتقالية، وتضع قوانين تضمن نزاهة الانتخابات، فيما تترك القضايا الكبرى للرئيس المقبل.

وخلافا لما تقدم بشأن الجدل الدستوري لمعضلة 28 أبريل/ نيسان المقبل، برز رأي دستوري يقود إلى سيناريو آخر غير استمرار خارطة طريق الرئيس بوتفليقة، وذلك عبر استمرار الرئيس حتى 28 أبريل، ودخول البلاد في حالة الشغور، ما يعني تفعيل المادة 102، وتولي رئيس مجلس الأمة الرئاسة بصلاحيات محدودة جدا لا يملك في إطارها تغيير الحكومة، وتقتصر إلى حد كبير على تنظيم انتخابات في غضون 90 يوما.