نصفهم هاجروا للخارج.. كيف أصبحت مصر بيئة طاردة للأطباء؟

أحمد يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"خمسة عين" كان يتمناها كل أب مصري لابنه، وهو يدفع به للدخول إلى كلية الطب العريقة، حيث عرف في التراث المصري أن للطبيب 5 أحلام لابد من تنفيذها، وهى "عيادة وعربية وعروسة وعمارة وعزبة".

كانت هذه صورة الطبيب الراقية في المجتمع، أما اليوم فالأحوال تبدلت، وأصبح الأطباء يعانون الفقر، وضيق الحال، بل يواجهون الموت، وهم يؤدون واجبهم، فما الذي طرأ على مهنة الطب في مصر؟ حتى صار الأطباء يهربون من بلادهم إلى مواجهة المجهول في غربة، غدت أحن عليهم من أوطانهم.

"62% من الأطباء إما يعملون خارج مصر أو استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازة"، هذا ما أكدته دراسة مصرية حديثة ووثقته العديد من التقارير، والإحصائيات الرسمية، الصادرة عن الجهات الحكومية.

الهجرة الواسعة من قبل الأطباء المصريين للخارج باتت ظاهرة ملفتة للنظر ومقلقة في نفس الوقت، وكشفت عن حجم المأساة التي يحياها القطاع الطبي والصحي في مصر.

تراجع مخيف

في 20 ديسمبر/ كانون الأول 2019 أصدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي) النشرة السنوية لإحصاءات الخدمات الصحية لعام 2018، مشيرا إلى تراجع عدد الأطباء بنسبة 9.3%، وعدد مراكز الإسعاف بنسبة 17.5% عام 2018، مقارنة بعام 2017. 

من أبرز المؤشرات الواردة في البيانات، هي تراجع عدد الأطباء بالقطاع الحكومي عام 2018 إلى 113 ألفا و305 أطباء، مقابل 124 ألفا و871 طبيبا عام 2017، بنسبة تراجع بلغت 9.3%.

فيما تراجعت عدد الأسرة بالمستشفيات الحكومية إلى 95 ألفا و683 سريرا، مقابل 96 ألفا و111 سريرا عام 2017 بانخفاض بلغت نسبته 0.4%، بالإضافة إلى انخفاض عدد الأسرة بالمستشفيات الخاصة بنحو 661 سريرا ما بين عامي 2018 و2017 بانخفاض بلغت نسبته 1.8%.

كما تم رصد تراجع عدد مراكز الإسعاف، إذ بلغ إجمالي عدد مراكز الإسعاف 1464 مركزا عام 2018، مقابل 1774 عام 2017 بانخفاض بلغت نسبته 17.5%.

نصفهم سافروا

في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قال الدكتور أحمد محيي  مساعد وزيرة الصحة لشؤون المستشفيات: إن "مصر بها 120 ألف طبيب، منهم 60 ألفا خارج مصر يعملون في الدول العربية، و60 ألفا يخدمون 100 مليون مصري".

وأضاف خلال لقاء تليفزيوني: "مرتبات الأطباء في مصر حاليا تتراوح بين 3000 و 10000 جنيه".

وخلال جلسة استماع طارئة للجنة الصحة بالبرلمان في 18 سبتمبر/ أيلول 2018، قالت الدكتورة هالة زايد وزيرة الصحة: "قرابة 60% من الأطباء المصريين سافروا للعمل بالسعودية، هناك عجز شديد في عدد الأطباء داخل مصر، فهم يقدمون استقالتهم من وزارة الصحة من أجل العمل في الخارج"، 

وأضافت "لو سرنا بنفس المنهج القديم سنصل إلى نفس النتائج، فنحن أمام تحدي القوى البشرية في ظل أن عدد الأطباء قليل جدا أمام عدد السكان".

وفي 24 أغسطس/ آب الماضي، تقدم الدكتور محمد فؤاد عضو البرلمان، بطلب إحاطة إلى مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، والدكتورة هالة زايد وزيرة الصحة، بشأن ارتفاع نسبة الاستقالات بين الأطباء مؤخرا. 

وقال فؤاد في إحاطته: "تابعنا مؤخرا أزمة نقص عدد الأطباء وأثره السلبي على عدد كبير من المستشفيات الحكومية، بلغ عدد الأطباء المستقيلين في عام 2016 نحو 1044 استقالة، وفي عام 2017 نحو 2049 استقالة، وفي 2018 نحو 2397 استقالة، الأمر الذي نتج عنه نقص حاد في عدد الأطباء".

وأضاف النائب: "منظمة الصحة العالمية ذكرت أن الحد الأدنى لعدد مقدمي الرعاية الطبية هو 3.4 إلى كل ألف مواطن، إلا أنه في مصر وصل عدد مقدمي الرعاية الطبية إلى 2.2 إلى كل ألف مواطن في مصر". 

وذكر في إحاطته الصادمة: "ما زاد الأمر سوءا بالنسبة للمحافظات الأخرى خاصة المناطق النائية هو سوء توزيع الأطباء حيث بلغت نسبة الأطباء المستقرين في القاهرة 45% من عدد الأطباء، فهناك 450 وحدة صحية بالريف والصعيد لا يوجد بها طبيب أي هناك نحو 1500 قرية مصرية محرومة من الرعاية الصحية". 

واختتم محمد فؤاد بيانه: "عند البحث عن أسباب هروب الكثير من الأطباء إلى الخارج، وجدناها تتمثل فيما بين تدني المرتبات وكثرة حالات الاعتداء على الأطباء بالمستشفيات وبيئة العمل غير المؤهلة". 

 

رواتب متدنية 

في 12 يونيو/ حزيران الماضي، نشرت وسائل إعلام محلية عن دراسة أعدتها لجنة مشكلة من أمانات المستشفيات العامة والمكتب الفني بوزارة الصحة ومجموعة من الخبراء والمتخصصين، حول أوضاع مهنة الطب البشري واحتياجات سوق العمل من الأطباء البشريين في مصر. 

حسب الدراسة فإن "عدد الأطباء في المستشفيات الحكومية والجامعية والخاصة في مصر، يقدر بنحو 82 ألف طبيب من كافة التخصصات، من أصل 213 ألف طبيب بنسبة 38 % من القوى الأساسية المرخصة بمزاولة المهنة".

وذكرت الدراسة: أن "عدد الأطباء في وزارة الصحة وحدها يقدر بنحو 57 ألف طبيب موزعين على كل القطاعات الحكومية بالوزارة، بينما العدد الأمثل لقطاعات وزارة الصحة هو 110 آلاف أي أن هناك عجزا يقدر بـ 53 ألف طبيب بالحكومة".

وكشفت الدراسة الرسمية: أن "62% من الأطباء إما يعملون خارج مصر أو استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازة". وأضافت: أن "هناك طبيبا واحدا لـ 1162 مواطنا، في حين أن المعدل العالمي هو طبيب لكل 434 فردا، أو 8.6 طبيب لكل 10 آلاف مواطن، باعتبار أن المعدلات العالمية هي 23 طبيبا لكل 10 آلاف مواطن".

وسبق أن أعلنت الدكتور منى مينا، عضو مجلس نقابة الأطباء: أن "مرتب الطبيب حديث التخرج في فلسطين، يبلغ حوالي 4 أضعاف نظيره المصري، رغم ما تعاني منه فلسطين من الحصار والاحتلال". 

وأكملت "لم نحاول أن نقارن بوضع الطبيب السعودي أو الكويتي، لأن الظروف الاقتصادية للسعودية والكويت تختلف عنا تماما، ولكن أن يكون أجر الطبيب الفلسطيني، الذي تعاني بلاده من الحصار والاحتلال، بكل ما ينتج عنهما من مشاكل اقتصادية واجتماعية رهيبة، حوالي 4 أضعاف الطبيب المصري، فهو في الحقيقة أمر غير مفهوم". 

وحسب تقارير أوردت شهادات الأطباء: "يتقاضى الطبيب المصري نحو 1800 جنيه مصري (نحو 105 دولارات) لدى التحاقه بالمستشفى الحكومي بعد إنهائه الدراسة الجامعية مباشرة". 

محمد جمال طبيب مصري يعمل في الخارج، قال لـ "للاستقلال": "منظومة الإدارة الصحية المصرية، من أسوأ المنظومات في العالم، المتعلقة بأوضاع الطبيب، وهو ما يترتب عليه أوضاع المرضى، والصحة العامة في مصر".

مضيفا: "لك أن تتخيل أن الطبيب المصري، بعدما قضى حياته الدراسية متفوقا، ودراسته لمدة 7 سنوات في كلية الطب، ثم سنة التكليف في إحدى المناطق النائية، وغالبا ما يدخل لأداء الخدمة العسكرية لمدة 3 سنوات، ثم يخرج منها ليتحصل على راتب لا يتجاوز (3000 آلاف جنيه مصري)، فهل هذا أمر مقبول، لشخص يريد أن يبدأ حياته، ويكون مستقبله؟".

وأضاف جمال: "الرواتب المتدنية، ليست وحدها التي تدفع الطبيب للهروب من جحيم العمل في مصر، فهناك مخاطر لا حصر لها، بداية من الاعتداءات المتكررة على الأطباء، وهي حالات شبه يومية، مع عدم وجود الحماية الكافية، فنجد أن الطبيب المصري يعمل في بيئة إرهابية بامتياز".

ويتابع: "أضف لذلك سوء حالات المستشفيات والإمكانيات اللازمة، وهي مسألة ليست بسيطة، فكثير من الأطباء ماتوا بالعدوى، نتيجة تلك الأوضاع، ومن العجيب أن (بدل العدوى)، الذي يتلقاه الأطباء 19 جنيها (1 دولار)، وهو أمر مضحك مبكي، ويعبر عن مدى استهانة الدولة بحياة الطبيب". 

واختتم الطبيب المصري حديثه: "رواتب الأطباء الذين يعملون في الخارج، تصل إلى أضعاف أقرانهم في الداخل، بالإضافة إلى الحياة الكريمة داخل المستشفيات، والرعايات الطبية، فما الذي يدفعهم للبقاء؟ من غير المقبول أن دولة عريقة، من أوائل دول العالم في معرفة الطب وعلومه، في العصور القديمة والحديثة، أن يصل بها الحال إلى هذه الدرجة الكارثية، ولو استمر الوضع بهذا الشكل، لن نجد طبيبا واحدا في مصر، فالأطباء عندنا أصبحوا يذهبون حتى إلى إفريقيا، ولا أقول الخليج، والدول الأوروبية".

"مستشفيات آمنة"

في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعلنت نقابة أطباء مصر عن "تعرض 23 طبيبا على الأقل للاعتداء البدني واللفظي داخل المستشفيات خلال الفترة من 11 أكتوبر/تشرين الأول 2019، إلى 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2019 على خلفية نقص المستلزمات الطبية، والأسرة وأماكن الرعاية".

وقالت النقابة في بيان رسمي: "الاعتداءات باتت متكررة على الأطباء، فدائما ما يقع الطبيب في مواجهة غير عادلة مع أهل المريض الذين يظنون أنه الفاعل الوحيد في المنظومة الصحية. دورنا كنقابة هو حماية الطبيب، ولذا تقدمنا بمشروع قانون يُغلظ عقوبة الاعتداء على الأطباء أثناء عملهم".

وفي 24 مارس/ آذار 2019، تم تدمير إحدى غرف "معهد القلب" بإمبابة في القاهرة الذي أسفر عن تلفيات بمبالغ طائلة، وذلك بعد اقتحام مجموعة من المواطنين لقسم الطوارئ بالمستشفى والاعتداء على الأطباء والممرضين الموجودين وتحطيم مجموعة من الأجهزة الطبية تقدر بـ20 مليون جنيه، وذلك بعد وفاة أحد أقاربهم داخل غرفة العمليات.

تلك الحوادث المتكررة جعلت الأطباء يرفعون شعار (مستشفيات آمنة) مطالبين الدولة والأجهزة الحكومية بحمايتهم، واستعادة حقوقهم، فيما يتجاوز الأمر طبيعة الحدث نفسه إلى منابع بعيدة، وحالة تعبئة تتم ضد الأطباء في الإعلام خلقت مناخا مفعم بالكراهية والإيذاء ضدهم.

سكتة قلبية

في 11 يوليو/ تموز الماضي، تُوفي الطبيب حسام حمدي أثناء إجرائه عملية جراحية في غرفة العمليات، بعد إصابته بسكتة قلبية. وفي 11 يونيو/ حزيران الماضي، وكذلك توفيت الطبيبة مارغريت نبيل حنا، وهي مستشارة التخدير بمستشفى الساحل التعليمي، أثناء أداء واجبها الطبي.

وعلى صفحة "أطباء مصر" المعنية بنشر أخبار وأزمات الأطباء في مصر، على فيسبوك، تم الإعلان أنه "تُوفي 18 طبيبا مصريا خلال 3 أشهر فقط، نتيجة ضغط العمل"، وهو ما أثار غضبا في أوساط الأطباء والقطاع الصحي، وأعاد فتح ملفات نقص كوادر الأطباء في تخصصات التخدير والحالات الحرجة، وضعف رواتب العاملين في القطاع الطبي، ما تسبب في إفراغ المستشفيات والمراكز الطبية من الأطباء.

وفي منتدى الشباب عام 2016 وعد رئيس النظام عبدالفتاح السيسي بالتكفل بمشكلة بدل العدوى، ورغم صدور حكم قضائي ملزم من محكمة القضاء الإداري يقضي بإعادة النظر في بدل العدوى، فإنه لم يطبق، حيث ماطلت الحكومة في التنفيذ وقدمت طعنا أمام المحكمة الإدارية العليا التي قبلت الطعن وأوقفت تنفيذ الحكم تحت ذريعة عدم وجود نص قانوني يلزم الحكومة بالتنفيذ.

واعتبرت المحكمة الإدارية العليا في حكمها الصادر في أغسطس/آب الماضي أن زيادة بدل العدوى إلى 1000 جنيه يحتاج إلى تشريع برلماني وتعديل قانون 14 لسنة 2014، ليبقى الطبيب المصري رهن الوعود الحكومية الزائفة، ومماطلة التشريعات القانونية، ومواجهة الموت أثناء عمله.