انتقاد ناصر وتجربته.. مؤامرة أم محاولة هدم للأصنام؟

أحمد ماهر | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يزداد التراشق كل عام على وسائل التواصل الاجتماعي عند حلول ذكرى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وهذا العام كان أكثر حدة من وجهة نظري، فلقد زادت أعداد المجموعات وانتشارها التي تتحسر على عصر الملكية، وازدادت هذا العام المقارنات التي تتحدث عن تفوق الاقتصاد المصري قبل عام ١٩٥٢ وقيمة الجنيه المصري أمام العملات الأخرى، وكيف أن مصر كانت دائنة لبريطانيا العظمى في ذلك الوقت، وكذلك حال التعليم الجيد قبل يوليو ٥٢ الذي أنتج عباقرة ومفكرين، وحال الطرق والنظافة والمباني الجميلة والنظام بالإضافة إلى وجود حياة نيابية وإن كانت مشوّهة، ولكنها كانت حياة سياسية ونيابية يمكن البناء عليها وتصحيحها.

هذه الحملة المتزايدة لتمجيد الملكية استفزت بالطبع الناصريين، فزادت هذا العام حملاتهم الهستيرية المعتادة لاتهام كل من ينتقد ناصر أو ٢٣ يوليو بأنه خائن وصهيوني وعميل للاستعمار وقوي الإمبريالية، وأن من ينتقد ناصر العظيم لا يعلم شيئا عن الفقر والحفاء والطبقية والنفوذ الأجنبي الذي كان قبل ثورة ٢٣ يوليو المجيدة التي قام بها ناصر، أو أن هؤلاء الأطفال الذين يهاجمون الزعيم المفدّى ما هم إلا مراهقون يرغبون في عودة مصر إلى عصور الملكية والإقطاع والعهد البائد.

زاد التراشق هذا العام عن باقي الأعوام، وفي رأيي هذا أمر طبيعي؛ فثورة 25 يناير 2011 ساهمت في هدم العديد من الأصنام والأمور التي كانت تعتبر من المحرمات التي لا يجوز النقاش فيها، فمن الطبيعي أن تزداد الأجيال الجديدة جرأة على عبدالناصر وعهده، وهو العهد الذي لقنونا في مناهج التاريخ بالمدارس أنه كان عهد الحرية والاستقلال عن الاستعمار وبناء الدولة الحديثة، وأن العالم كله تحالف ضده لإفشال تجربته حتى لا يغزو العالم بعد توحيد العرب.

فالأجيال الجديدة وجدت الكتب التي كانت محظورة على أجيال سابقة، وقرأت ما كان خفيا في رواية أزمة مارس ما حدث من غدر مع الرئيس محمد نجيب، وما أسباب حرب السويس وهل كان يمكن تجنبها؟ وما تسبب في هزيمة يونيو والدخول في حرب بدون سابق تجهيز، كما أن الأجيال الجديدة وجدت روايات أخرى غير الرواية الرسمية عن فترات العهد الملكي؛ فصحيح أنه كان هناك ظلم وطبقية وحياة سياسية بها الكثير من الفساد. ولكن لم يكن الملك وحاشيته شياطين وجبارين بهذا الشكل الذي كان يصوره الإعلام الناصري وقتها، وكذلك لم يكن الضباط الأحرار بتلك الصورة البطولية والملائكية التي صوروها عن أنفسهم، حتى حرب أكتوبر المجيدة اكتشفنا أنها لم تكن انتصارا ساحقا كما صوروه لنا، بل كان هناك تفاصيل كثيرة والعديد من علامات الاستفهام التي لم يتم الإجابة عنها حتى اليوم.

الأجيال الجديدة كانت قد سمعت وقرأت عن الحكم العسكري، أعرف بعض الأصدقاء كانوا يظنون أنه قد تكون تلك الروايات عن المعتقلات والتعذيب والأهوال في العهد بها بعض المبالغات، ولكن الكل الآن عاش كيف يكون الحكم العسكري، وشاهدنا جميعا كمّ الظلم والتعذيب والتنكيل، وكيف يكون التضليل الإعلامي، فما بعد ثورة يناير وما فعله المجلس العسكري كان مثالا حيا عن ما حدث منذ أكثر من ٦٠ عاما، من إدخالنا في مسار خاطئ يخدم فقط مصالح ضباط الجيش ونفوذهم، ثم استغلال الإخوان ضد باقي القوى الثورية، ثم استغلال مخاوف التيار المدني والأقباط ضد الإخوان، ثم استغلال الجميع ضد الجميع من أجل حماية دولة العسكر، ولذلك ليس غريبا –من وجهة نظري– عودة التذكير بأن ٢٣ يوليو ١٩٥٢ كان انقلابا عسكريا أدى إلى تغيير في نظام الحكم، فقد كان يطلق عليه وقتها انقلاب وحركة الضباط، إلى أن تم استحداث لفظ الحركة المباركة ثم بعد ذلك بعدة سنوات أصبح مصطلح الثورة يطلق على ما حدث في ٢٣ يوليو.

وما حدث منذ ٣ يوليو ٢٠١٣ حتى اليوم هو نموذج حي لما كان حدث في ١٩٥٤ وما بعدها، عندما تم الانقلاب على الرئيس محمد نجيب واحتجازه بطريقة مهينة، ثم دفع الجماهير للشوارع لتهتف ضد الديمقراطية بعد شحنهم بخطاب تحريضي ضد أولئك الخونة الذين يطالبون بتطبيق الديمقراطية - ذلك الاختراع الغربي الذي يستخدمونه لهدم الدول، الذي لا يناسبنا، إنه نفس الخطاب الذي نسمعه الآن ومنذ ٥ سنوات من خطاب إعلامي يحتقر الديمقراطية وحقوق الإنسان ويثير ذعر الجماهير منها، وهو نفس ما نراه اليوم من ممارسات وانتهاكات وظلم، فالأجيال الجديدة تشاهد الآن كيف كانت فترة الخمسينيات والستينيات وما حدث بها من مذابح وسجن للآلاف وأحكام إعدام بالجملة.

من أسباب تزايد الهجوم على انقلاب يوليو وحالة اللعن التي يتلقاها عبدالناصر -رغم إنجازاته وزعامته العربية- أنه الأب الروحي للمنظومة التي تحكم الآن، وهو مؤسس تلك الدولة شديدة البيروقراطية والمركزية الكريهة التي نعاني منها الآن، ولذلك فالسيسي هو المقصود بكل ذلك النقد الحاد لعبدالناصر وتجربته، وهو النقد الذي قد يصل إلى حد السباب بشكل مبالغ فيه في كثير من الأحيان، فالسيسي امتداد لتجربة عبدالناصر بشكل ما.

تجربة احتفظت بالقمع والاستبداد والصوت الواحد والإعلام الموجّه والمركزية الشديدة والبيروقراطية وتحكم العسكر في جميع المجالات، وخلت من بعض الإنجازات المحسوبة لعهد عبدالناصر مثل البعد الاجتماعي والتمييز الإيجابي للطبقات البسيطة والعمال والفلاحين، وبما أن انتقاد السيسي وسياساته قد يكلف الشخص سنوات مديدة في سجون لا تختلف كثيرا عن سجون عبدالناصر، لذلك فالانتقاد الذي قد يصل لحد التجريح في عبدالناصر (الجد الروحي لنظام السيسي) قد يكون أقل تكلفة، وإن كان سيستفز ويثير (أولتراس) عبدالناصر ويجعلهم يُحلون دم من يتحدث بالسلب عن تجربته، ويتهمونه بالخيانة والعمالة للإمبريالية وقوى الاستعمار.

ويمكن كذلك تفسير الظاهرة المتزايدة للحنين للعهد الملكي، الذي يصل أحيانا لدرجة المبالغة والتضخيم، بأنه نوع من أنواع الرد والمكابدة للناشرين الذين يضخمون في تجربة عبدالناصر ووضعه في درجة الآلهة، فيكون الرد بالاستفزاز على الاستفزاز، وبالمبالغة والتضخيم ردا على المبالغة والتضخيم، أو كأنه يقال مستحيل أن يكون الملك أكثر سوءا من فترة عبدالناصر وسياسته التي جرّت الوبال والمصائب على مصر، ومستحيل أن تكون حاشية الملك فاروق أكثر فسادا من حاشية عبدالناصر من الضباط الذين عاثوا في الأرض فسادا بدون حساب.

يشبه ذلك كثيرا في وجهة نظري، الحنين الذي يحدث أحيانا لعصر مبارك مقارنة بعهد السيسي، وهذا أمر نسبي بالتأكيد وليس معناه أن مبارك كان الرئيس الديمقراطي أو أن دولته كانت دولة القانون والحكم الرشيد، ولكن سجون مبارك رغم سوئها إلا أنها كانت كالجنة مقارنة بسجون السيسي، ويمكن القول بأن أسعار السلع والخدمات كانت مجانية إذا ما قورنت بأسعار السلع والخدمات في عهد السيسي.

ولكن المؤكد والمؤسف أنه وسط كل هذه المبالغات والتلاسن السنوي في ذلك الموسم، تضيع التحليلات والسرديات التي تتسم بالحياد والعقلانية حول تلك الحقبة الهامة في تاريخ مصر.