"معاهدة لوزان" وآفاق المستقبل التركي: أوهام الطامحين وحقائق النص

أحمد مدكور | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مع نهاية الحرب العالمية الأولى في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 1918، كانت لحظات احتضار الإمبراطورية العثمانية، وتغيير خريطة العالم بشكلها القديم، أما الأتراك الذين شهدوا أفول دولتهم العريقة، حربهم لم تنتهي في تلك اللحظات، بل بدأوا حربا جديدة للحفاظ على بقية بلادهم، وهي المعارك التي عرفت تاريخيا بحرب الاستقلال، التي بدأت في 19 مايو/ أيار 1919، وانتهت في 24 يوليو/ تموز 1923، بتوقيع "معاهدة لوزان" التي رسمت شكل الجمهورية التركية الحالية من الأناضول إلى شرق تراقيا.

وهذه المعاهدة المفصلية في التاريخ الحديث، لأهميتها كانت مثار جدل دائم، ومصدرا للكثير من الشائعات المثيرة، خاصة مع الصعود التركي، والنهضة الشاملة التي تشهدها الدولة، وطموحاتها المستقبلية في ظل إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المستمر عن رؤية 2023.

أيام العثمانيين الأخيرة  

في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 1918 عقدت "هدنة مدروز" التي نصت على الاستسلام غير المشروط للدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وألقى الجيش العثماني السلاح على سائر خطوط جبهات القتال، وبدأت عملية احتلال الأراضي التركية بدخول قوات الحلفاء الآستانة، وإسطنبول وسيطروا على المضايق المائية الإستراتيجية.

كان وقع الصدمة قاسيا على الأتراك والعالم الإسلامي بشكل عام، وأمعن اليونانيون في استفزاز مشاعر الشعب التركي، حتى أنهم قدموا للقائد الفرنسي (فرنشيه دسيراي) عند دخوله قواته الآستانة جوادا أبيضا تقليدا لمحمد الفاتح لحظة دخوله القسطنطينية.

أدرك السلطان العثماني محمد وحيد الدين مدى الانهيار التي وصلت إليه البلاد، وقدم كثير من قادة حزب الاتحاد والترقي استقالتهم، وتم حل حكومة رئيس الوزراء طلعت باشا الذي هرب إلى ألمانيا.

وفي 10 أغسطس/ آب 1920، تم توقيع معاهدة سيفر، بين القوى المتحالفة، والدولة العثمانية، التي قضت بتنازلها عن أقاليمها المختلفة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وفقدانها كما هائلا من الأراضي، واعتبرت المعاهدة مذلة ومجحفة في التاريخ التركي، ما دعا معظم الأتراك وتحديدا حكومة أنقرة إلى رفضها.

اشتعال ثورات الأناضول

مع دقات طبول حرب الاستقلال، والصراع الوطني الذي خاضه الأتراك لتحرير بلادهم من قبضة عصبة الاحتلال المكونة من بريطانيا ومملكة اليونان ومملكة إيطاليا وفرنسا وأرمنيا، وقتها أعلنت حكومة أنقرة في مؤتمر سيفاس الميثاق الوطني لتحديد أهداف القتال، وتجمعت القوات العسكرية التركية في ميدان أولوس بالعاصمة الجديدة أنقرة وحملوا الذخائر ثم انطلقوا في مقدمتهم "مشاة قوة ملية" نحو إزمير، وخاضوا حربا طاحنة ضد القوات اليونانية، ونجحوا في تحقيق انتصارات محورية حاسمة بعدما نجح سلاح الفرسان التركي في اجتياح إزمير ومطاردة فلول اليونانيين.

تلك الانتصارات أعطت حكومة أنقرة شرعية أمام المجتمع الدولي، وأصبح المجلس الوطني الكبير برئاسة مصطفى كمال أتاتورك هو الممثل عن الشعب التركي، وتم تفويضه للمشاركة في مفاوضات الدولة التركية مع الحلفاء في مدينة لوزان السويسرية التي سميت المعاهدة باسمها.

حجر تأسيس الجمهورية

ووقعت "لوزان" في ظرف تاريخي كان استثنائيا في تاريخ الدول والحضارات، فسقوط إمبراطورية واسعة مترامية الأطراف كالدولة العثمانية لم يكن بالأمر الدارج السهل، خاصة وأنها تضم العديد من الأعراق والطوائف والقوميات والديانات لملايين البشر المستظلين بظلالها، فالمعاهدة لم يترقبها الأتراك فقط، بل كل رعايا الدولة كانوا ينتظرون ما ستسفر عنه، حتى أن أمير الشعراء أحمد شوقي قال في قصيدته المشهورة عن لوزان.

صُلح عزيز على حرب مظفرة.. فالسيف في غمده والحق في النصب

وقال نصا عن موفد الأتراك إلى لوزان الجنرال عصمت إينونو

أتاهم منك في "لوزان" داهية.. جاءت به الحرب في حياتها الرقب

وشهد يوم 24 يوليو/ تموز 1923، في فندق "بوريفاج بلاس" بمدينة لوزان جنوبي سويسرا، المخاض عن توقيع المعاهدة بين الأطراف الاستعمارية المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى وتحديدا (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا)، والإمبراطورية العثمانية التي كان يطلق عليها آنذاك "رجل أوروبا المريض"، وعلى متن 17 وثيقة ما بين اتفاقية وميثاق وتصريح وملحق، وزعت النصوص داخل 143 مادة، بدأت بترتيبات الصلح بين الأطراف الموقعة، وإعادة تأسيس العلاقات وفقا للقانون الدولي.

المعاهدة قامت بترسيم جديد لحدود الدولة التركية، ومآلات الأراضي التي كانت تابعة لها قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وكذلك نظمت استخدام المضائق المائية التركية، وقواعد المرور والملاحة فيها زمن السلم وزمن الحرب، وألزمت الدولة بحقوق وتشريعات خاصة بالأقليات الموجودة على أراضيها.

أبرز نصوص لوزان

الاتفاقية ألزمت تركيا بالتخلي الكامل عن السيادة على: قبرص، ليبيا، مصر، السودان، العراق وبلاد الشام، باستثناء بعض المناطق الحدودية مثل كلش ومرعش وغازي عنتاب وأورفا وأضنة، وعن كافة الحقوق المالية والسياسية المتعلقة بإقليم مصر والسودان.

كما نصت على حماية الأقليات المسيحية الأرثوذكسية اليونانية بتركيا، والأقليات المسلمة باليونان، وعدم وضع أي قيود على اللغة التي يختارونها، مع التأكيد الكامل على حقوق السيادة الاقتصادية والسياسية للدولة التركية على أراضيها، مع إلغاء نظام الامتيازات الأجنبية.

مع الإقرار الكامل بعدم مطالبة تركيا بالأملاك السابقة، مع تدويل بوغازي البسفور والدردنيل، ولكن مسألة المضايق المائية تم تعديلها مرة أخرى في "اتفاقية مونترو" التي وقعت في سويسرا عام 1936، وهي السياسة التي سارت عليها الدولة التركية منذ ذلك الحين.

سياج الشائعات المحيطة بالمعاهدة

تسري الكثير من الشائعات حول تلك الاتفاقية، ومن أبرزها الروايات الشعبية المتداولة بأن ثمة بنودا سرية في "معاهدة لوزان" تتعلق بحفنة من الأطروحات منها:

  • بند يحدد سريان المعاهدة بمئة عام فقط. ومع اقتراب عام 2023، تسري سيناريوهات مؤامرة كثيرة حول ما سيحدث حينئذ.

  •  بند يتعهد فيه عصمت إينونو (رئيس وزراء تركيا – آنذاك – ورئيس وفد تركيا في مفاوضات لوزان) بجعل الشباب يدمنون كرة القدم حتى يبتعدوا عن الدين.
  •  بند تتعهد فيه تركيا بنشر توظيف المرأة في العمل خارج بيتها حتى تضعف الأخلاق.

ويرافق تلك الشائعات شائعة أخرى بوجود بند سري في معاهدة "مونترو" حول نظام المضايق (1936)، المكملة لمعاهدة لوزان، مفادها أن المعاهدة يمكن مراجعتها كل عشرين سنة، وأن تركيا من حقها إرسال إخطار بإلغاء المعاهدة قبل سنتين من تاريخ المراجعات العشرينية.

إلا أن الشائعة الأكبر تمثلت في وجود بنود محددة داخل الاتفاقية تمنع تركيا من التنقيب عن البترول والموارد الطبيعية في أراضيها، ما تنفيه المعطيات، ووفقا لوكالة "الأناضول" التركية، استطاعت شركة البترول التركية إنجاز نحو 33 ألف و 85 برميل من البترول داخل تركيا، و 36 ألف و 928 برميل من البترول خارجها خلال شهرِ أبريل/ نيسان 2015، ليصل العدد الإجمالي بالكامل لإنتاج البترول إلى نحو 70 ألف و 13 برميل بترول.

أما عن إنتاج الغاز الطبيعي عن العام 2015، فوصل يوميا إلى معدلات كبيرة بلغت داخل البلاد نحو 552 ألف و701 متر مكعب، وخارجها وصل الإنتاج إلى نحو 4 مليون و444 ألف متر و765 متر مكعب، حتى أنه تم توصيف نجاح الشركة والمستهدفات التي حققتها بأن العام 2015 هو العام الذهبي للبترول في البلاد.

ومما يروج عن الاتفاقية أنها حرمت الدولة التركية من الاستفادة من المضايق، وأن السفن التي تعبر القنوات المائية الإستراتيجية لا تدفع رسوما للدولة، وهو تفسير خاطئ لبنود التدويل، ففي 7 يناير/ كانون الثاني 2011 نشرت وكالة الأنباء الكويتية (كونا) تصريحا عن وزير الطاقة التركي آنذاك تانر يلديز أن الحكومة تدرس زيادة رسوم العبور على السفن في مضيق البسفور لحل مشكلة الازدحام في المضيق الذي يقسم مدينة إسطنبول ويربط البحرين الأسود ومرمرة.

رؤية أردوغان لـ"لوزان"

في 29 سبتمبر/ أيلول 2016، في كلمة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان أمام رؤساء الإدارات القروية في أنقرة، وجه خلالها انتقادات تاريخية غير مسبوقة من رئيس تركي لمعاهدة لوزان، حيث قال (لقد ضُغط علينا كي نقبل بتلك المعاهدة، لقد سلمنا جزرا قريبة منا إلى حد أننا لو نادينا على سكانها من أراضينا لسمعونا، والعجيب أنها صورت على أنها انتصار للجمهورية التركية).

ثم عقّب: "لقد هددونا بمعاهدة سيفر، وأقنعونا بقبول لوزان!". وتابع بغضب: "نحن لا زلنا نناضل من أجل الاتفاق على حدودنا البحرية، وحتى مجالنا الجوي وأراضينا، ذلك لأن من مثلوا تركيا في لوزان ظلمونا، ونحن نحصد ما فعلوه الآن".

وفي 7 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وخلال مؤتمر صحفي مع نظيره اليوناني بروكوبيس بافلوبولس، في أول زيارة يقوم بها رئيس تركي إلى اليونان منذ 65 عاما، قال أردوغان إن "معاهدة لوزان الموقعة بعد الحرب العالمية الأولى، تنص على تفاصيل دقيقة ما تزال غير مفهومة حتى الوقت الراهن"، مشيرا إلى "ضرورة تحديثها".

وأضاف الرئيس التركي" "لست أستاذا في علم القانون، لكنني أعرف قانون السياسة جيدا، ففيه شرط يقضي بوجوب تحديث الاتفاقات، ونحن قادرون على تحديث ما أبرم بيننا من اتفاقات، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك".

تركيا 2023

لعل الخلط المركب بين رؤية تركيا 2023، التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية، ارتبطت في أذهان البعض بمرور مائة عام على معاهدة لوزان، وهي الصيغة التي لم ترد في أبجديات المشروع التنموي للمنظومة الحاكمة التركية، فرؤية 2023 تنطلق من قواعد ثابتة وفي إطار الخطوات الحثيثة لإحداث الطفرة الشاملة في جميع المناحي، وبحسب ما أعلنه أردوغان، فإنه يستهدف أن تكون تركيا ضمن أقوى 10 اقتصادات في العالم، وثالث أكبر اقتصاد في أوروبا بحلول عام 2023، الذي يوافق الذكرى المئوية الأولى لإعلان الجمهورية التركية.

ولا يوجد نص يقول بانتهاء بنود المعاهدة بعد 100 عام من توقيعها، فهي ميثاق على أساسه تم تأسيس الجمهورية التركية الحديثة، ولكن الحكومة التركية تتحدث باستفاضة غير مسبوقة عن معاهدة لوزان في الآونة الأخيرة، لتؤسس وعي المجتمع التركي، وإمكانية السعي مستقبلا لإعادة النظر في بعض بنود المعاهدة باعتبارها مجحفة بحق الأمة التركية.

وكما قال رئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو الذي يعد مهندس السياسة الخارجية لحكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة إن "جهود تركيا كدولة، ومؤسسات، ومؤسسات مجتمع مدني، ومثقفين، ستخدم جميعا هدفا مشتركا، ويمثل أداء الخارجية التركية من تشيلي إلى إندونيسيا، ومن سوريا إلى روسيا، ومن كندا إلى اليابان، في مجموعة أداءً جماعيا، يخدم هدفا واحدا. والخلاصة أن هذا الأداء المتنوع والنشط سيجعل من تركيا وهي تمضي نحو عام 2023 لاعبا دوليا مؤثرا".


المصادر

الكلمات المفتاحية