"هيمنة مالية".. هل ينسف الرئيس الأميركي نصف قرن من مبادئ النقد التقليدية؟

منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

ليست المرة الأولى التي يضغط فيها رئيس أميركي على الاحتياطي الفيدرالي لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة للغاية، رغم شكوكه في أن هذا الإجراء سيفيد الاقتصاد الأميركي.

وتعود أول سابقة في هذا السياق إلى عام 1971؛ حيث كان ريتشارد نيكسون، أول رئيس أميركي يضغط على الاحتياطي الفيدرالي لتخفيف السياسة النقدية، وبالتالي تسهيل إعادة انتخابه.

نظام الهيمنة

وكان رئيس الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، آرثر بيرنز، يعلم أنه لن يبقى في منصبه إلا "إذا خضع تماما لسلطته، حتى لو كانت خاطئة بشكل كامل"، وفقا لمذكراته التي تعود إلى تلك الحقبة. 

وبشكل خاص، لم يكن بيرنز مخطئا: فبعد أن خضع لقرارات رئيسه، ارتفعت الأسعار بسرعة كبيرة لدرجة أن مطاعم الشواء اضطرت إلى استخدام ملصقات لتحديث قوائم الطعام يوميا.

وأشارت صحيفة "إلباييس" إلى أنه بعد عامين من هذه القرارات الأميركية، اندلعت أزمة النفط، وغرقت الولايات المتحدة في أزمة اقتصادية؛ عرفت باسم الركود التضخمي، أي الركود مع التضخم. 

وهي مرحلة شكلت تاريخ الاقتصاد، ومن هنا بدأ هوس البنوك المركزية الحديثة بالتضخم، وأيضا تحول استقلال البنوك إلى أمر مقدس، لتجنب ضغوط السياسيين.

ونوهت الصحيفة إلى أن أداء العالم كان جيدا نسبيا على مدى أربعة عقود، باستثناء تفصيل صغير، يتمثل في كبح جماح البنوك المركزية للتضخم، لكن دون التمكن من منع تضخم فقاعة اقتصادية هائلة انتهت بالركود الكبير، وهي الأزمة التي شكلت عصرنا.

وأضافت الصحيفة أن "نظام الهيمنة النقدية" الذي استمر خمسين عاما يقترب من نهايته في الولايات المتحدة، أما في أوروبا، فلا تزال التكهنات غير واضحة.

وفي هذا الصدد، لطالما انتقد اليسار بهدوء الاستقلالية المفرطة التي يتمتع بها مسؤولو السياسة النقدية، الذين يهتمون باستقرار النظام المالي والأسواق أكثر من اهتمامهم بالاقتصاد الحقيقي.

وفي هذه الآونة، يأتي التحدي من الطرف الآخر من الطيف السياسي دونالد ترامب، مثل نيكسون في عصره، مستعدا لنسف نصف قرن من المبادئ النقدية التقليدية لإرساء نوع من نظام الهيمنة المالية.

خلال الفترة الأخيرة، أمضى ترامب أشهرا وهو يهاجم الاحتياطي الفيدرالي بشدة لإجباره على تخفيف سياسته النقدية، وكرر مرارا وتكرارا أن "الاحتياطي الفيدرالي تأخر كثيرا".

علاوة على ذلك، أهان ساكن البيت الأبيض رئيسه جيروم باول، وعيّن أشخاصا يثق بهم وهدد بفصل بعض المستشارين. 

وفي ظل هذا الوضع، تفترض المؤسسة الاقتصادية أن الجمهوريين سيعيّنون في نهاية المطاف ممثلين من أمثالهم حتى يسيطروا على مجلس الاحتياطي الفيدرالي، كما فعل أتباع ترامب في المحكمة العليا، ومثلما تحركوا في جميع الوكالات والمؤسسات المستقلة.

سياسات ترامب

ونقلت الصحيفة أن نتائج هذا الضغط ستتضح بالفعل على المدى القصير جدا، وعلى أرض الواقع، لم يتوقف ترامب حتى حصل على موافقة مجلس الاحتياطي الفيدرالي على أول خفض لأسعار فائدة عام 2025.

وتتوقع الأسواق تخفيضين، وربما ثلاثة تخفيضات إضافية، خلال الأشهر الستة المقبلة.

وفي ظل أجواء مشحونة سياسيا في اجتماعات مجلس الاحتياطي الفيدرالي، من الواضح أن سوق العمل يتباطأ، بسبب سياسات ترامب الخاصة بالهجرة، رغم أن معدل البطالة يبلغ 4.5 بالمئة.

ومن هذا المنطلق، قد يكون الإقدام على تخفيض واحد لأسعار الفائدة مبررا، ولكن ليس من الممكن الدفاع عن ثلاثة تخفيضات.

ولكن في الوقت نفسه، يرتفع التضخم، ويقترب بالفعل من ثلاثة بالمئة، وقد يرتفع أكثر، ففي الحقيقة، يعتبر خفض أسعار الفائدة وزيادة الرسوم الجمركية مزيجا مثاليا لتحقيق ذلك وتعطيل مهمة استقرار الأسعار.

لقد كان بنك الاحتياطي الفيدرالي، أقوى بنك في العالم؛ حيث كان الركيزة التي تمسكت بها البنوك المركزية الكبرى الأخرى لسنوات، وخاصة البنك الأوروبي.

ولكن ليس هذه المرة، صحيح أن أسعار الفائدة أقل في أوروبا، لكن، تبنّى البنك المركزي الأوروبي الآن موقفا مختلفا، وهو الانتظار والترقب، رغم أن الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو في تراجع والتضخم تحت السيطرة.

ووفقا لمصادر تمت استشارتها في فرانكفورت، “أمام هذا الوضع، تحتفظ (رئيسة البنك المركزي الأوروبي) كريستين لاجارد برصاصة في الغرفة في حالة احتاجت إليها لاحقا”، تقول صحيفة “إلباييس”.

وفقد الدولار ما يقرب من 15 بالمئة مقابل اليورو حتى سبتمبر من عام 2025، مما يعني المزيد من الصعوبات لأوروبا، والمزيد من الضغط على لاجارد.

في الحقيقة، يعد هذا الفصل بين السياسات النقدية على جانبي المحيط الأطلسي أمرا جديدا؛ ويعني دخول أرض مجهولة. 

لذلك، سيشكل هذا التغيير النقاش الاقتصادي في بقية عام 2025 وحتى 2026.

وباختصار، يعدّ كل شيء تقريبا جديدا في مثل هذه الجغرافيا السياسية المضطربة، مع تربع ترامب على عرش الولايات المتحدة، ووجود النظام الليبرالي الدولي في حالة يرثى لها.

محفوفة بالمخاطر

ونقلت الصحيفة أن ترامب "يملك خطة غير تقليدية على الإطلاق".

وتوقع عدد كبير من الأكاديميين والخبراء والمستثمرين والمحللين مشاكل خطيرة في الولايات المتحدة منذ وصوله إلى السلطة، ولكن باستثناء حالة الخوف التي سادت في أبريل/ نيسان - عندما هدد بحرب تجارية شاملة- فإن أسوأ التنبؤات لم تتحقق حتى الآن.

وأخيرا، بدأت آثار زيادات الرسوم الجمركية تظهر على الأسعار، ولكن حتى الآن، لم نرَ بعد الضربة الموعودة. 

ورغم أن الدولار ضعيف جدا، مما يزيد من تكلفة الواردات، إلا أنه قد يكون لذلك أيضا آثار مهدئة للولايات المتحدة، ويسبب مشاكل في منطقة اليورو، إذا لم ينكمش أكثر ويسبب صدمة لأسواق العملات.

وفي جميع الأحوال، تسود حالة من الغموض والضبابية، وتشير المصادر التي استشيرت في هذا المقال إلى أن التوقعات على المدى الطويل "لا تزال قاتمة".

وبحسب مصادر مالية في وول ستريت، "لم يتوقع أحد تقريبا أن تنجح سياسة ترامب غير التقليدية وتكون في صالحه. لكن لم يعد من الممكن استبعاد هذا السيناريو، على الأقل لديه خطة، لكن، تعاني أوروبا من حالة رعب، وحتى الآن، لم تتحقق أسوأ التوقعات".

ووفقا لجيسون فورمان، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين الأميركي في عهد باراك أوباما، "ستطبّق الولايات المتحدة التخفيضات التي وافق عليها البنك المركزي الأوروبي سابقا، بغض النظر عن صحتها أو عدم صحتها".

وأوضح أن "ضعف الدولار لا يعزى إلى مسار أسعار الفائدة الرسمية بقدر ما يعزى إلى تحوّط المستثمرين من المخاطر؛ حيث كانوا قلقين بشأن عدم اليقين بشأن سياسات ترامب".

وأضاف فورمان، أمام معضلة خفض أسعار الفائدة لإنعاش الاقتصاد والتوظيف أو تركها عند هذا المستوى لتهدئة التضخم، أن "الركود التضخمي أمر لا مفر منه: لا التضخم ولا تباطؤ التوظيف يثيران القلق في الوقت الحالي، ولكن الاتجاهات مُقلقة، ولا يستطيع الاحتياطي الفيدرالي حلّها في آن واحد".

وأكد كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، موريس أوبستفيلد، أنه "إذا استمر تباطؤ سوق العمل، فإن تخفيضات الاحتياطي الفيدرالي ستكون حكيمة". 

واستدرك: "لكن إذا تفاقم التضخم، واتجهت التعريفات الجمركية نحو ذلك الاتجاه، فسيبدأ الكثيرون في التشكيك في مثل هذه الخطوة المحفوفة بالمخاطر".