مذكرات ومراسلات.. هل تعاون رشيد رضا مع بريطانيا لإسقاط العثمانيين؟

نشرت صحيفة "تركيا" التركية، مقالا للكاتب حلمي دمير تناول فيه شخصية الشيخ رشيد رضا المثيرة للجدل، مشيرا إلى الأوصاف التي أطلقت عليه، ومنها أنه "أحد رواد الإسلام الحديث"، وفي المقابل وصفه البعض بأنه عمل لصالح البريطانيين ضد العثمانيين.
وقال الكاتب في مقاله: يبرز رشيد رضا بصورتين مختلفتين في الدراسات التاريخية الفكرية والأعمال الموسوعية المكتوبة في تركيا عن تلك المكتوبة في الغرب. أستطيع أن أذكر مشروعين مهمين للغاية قد كتبا في هذا الموضوع في تركيا: أحدهما بلا شك "موسوعة الإسلام" التي بذل فيها الكثير من الجهد والمال، والآخر "أطلس الفكر الإسلامي" والذي أعتبره من أهم مشاريع العصر الحديث".
مصادر مختلفة
وذكر دمير أنه قد تم استخدام تعريف مشابه في كلا المشروعين بما يتعلق بموضوع رشيد رضا: حيث يتم تعريفه كـ"أحد رواد الإسلام الحديث، إصلاحي وعالم''. من ناحية أخرى، يعرف أحد أهم وأول المصادر في هذا المجال، "الموسوعة الإسلامية" من إصدارات برايل (طريقة للمكفوفين)، رشيد رضا على النحو التالي: "أحد الكتاب الأكثر إنتاجا وتأثيرا في الإصلاح الإسلامي وفي القومية العربية أيضا إلى حد ما. والمتحدث الرسمي باسم السلفية".
ويتابع قائلا: دعونا لا نأكل حقه، فسعيد أوزيروارلي، الذي كتب مقالا عن رشيد رضا في موسوعة الإسلام، تحدث عن قومية رشيد رضا العربية، لكنه قال إنها كانت ظرفية أيضا، فقد كتب أوزيروارلي، قائلا: "مع أن نجاح حركة النضال الوطني بقيادة مصطفى كمال في تركيا قد جعل رشيد رضا سعيدا وأمله بإمكانية اتخاذ إجراءات مختلفة، إلا أنه غير موقفه بعد إلغاء الخلافة ووضع القيود على التعليم الديني (في تركيا)".
وبدأ بعد ذلك في تطوير صيغ جديدة تتركز على تمثيل المسلمين سياسيا وإعادة تنصيب الخلافة من جديد لتعمل بفاعلية، وبدأ في التأكيد على القومية العربية في خطاباته أكثر فأكثر. ومع ذلك، سيكون من الخطأ بناء هذه الاتجاهات الظرفية لرشيد رضا على الفكر العربي القومي أو الوحدة العربية". وبحسب هذا البيان، فإن ميل رشيد رضا للقومية العربية يجب أن يكون قد بدأ بعد عام 1924.
وتابع الكاتب قائلا: مع ذلك، فإن مقال إليعازر تاوبر بعنوان "رشيد رضا بصفته عربيا (قوميا) قبل الحرب العالمية الأولى"، والذي استخدمه أوزيرفارلي كمصدر، لا يقول ذلك على الإطلاق، حيث يظهر عنوان المقال بوضوح أن رشيد رضا بدأ خطاباته عن العروبة قبل الحرب العالمية الأولى. السؤال هو لماذا بقي خطاب رشيد رضا عن القومية العربية في الخلفية إذا؟
توجه سلفي
الكاتب دمير، يقول: قبل البحث عن إجابة على هذا السؤال، أود أن أشرح سبب تقديم رشيد رضا كمتحدث باسم الخطاب والأيديولوجيا السلفية في العديد من المصادر. فرشيد رضا الذي عادة ما يبرز بأفكاره الحداثية يجعل البعض لا يتحدث عن سلفيته في تركيا.
وأردف: يمكنني تلخيص الأسباب التي جعلت العديد من الباحثين مثل إسماعيل كارا وإليعازر تاوبر يعتبرون رشيد رضا سلفيا على النحو التالي: "تعظيمه للسلفية الوهابية، فكره الذي يقول بالعودة إلى جوهر الإسلام، دعوته إلى توحيد المذاهب، ومناهضته للصوفية". وبالتالي، يُصنف رشيد رضا على أنه "سلفي" ربما ليس في المنهج، لكن في المبادئ.
ولفت الكاتب إلى أن فهم خبايا وتعقيدات السلفية والقومية العربية لا يبدو ممكنا في الدراسات الإسلامية في الفكر العربي في تركيا خاصة بشأن العديد من المفكرين الإسلاميين مثل رشيد رضا. ومع ذلك، تبرز السلفية والقومية العربية كأيديولوجيتين متلازمتين للعديد من المفكرين العرب في هذين القرنين التاسع عشر والعشرين. لذا دعونا نحاول أن نفهم كيف يغذي هذان الرأيان بعضهما البعض من خلال رشيد رضا.
إجراءات سياسية
وأوضح دمير أنه مع وفاة محمد عبده، جمع رشيد رضا الخيوط في يده وتولى الأمر في مجلة المنار في عام 1905 لتبدأ الأنشطة السياسية لرشيد رضا بعد هذا التاريخ. وفي عام 1907 أسس جمعية الدعوة والإرشاد. وفي عام 1909 كتب كتاباته الأولى عن "الوطن" في مجلة المنار، وقدم نفسه ك"عربي مسلم، ومسلم عربي". وعندما خلع عبد الحميد الثاني ونزل عن العرش، كتب في المنار: "اليوم تنفس العثمانيون هواء الحرية".
وأضاف الكاتب أن رشيد رضا قد قرر زيارة إسطنبول 1909 للعثور على موارد مالية للمدرسة مستخدما الوضع الجديد بعد نزول عبد الحميد الثاني عن عرشه، لصالحه. مؤكدا على نقطتين في مقابلاته التي أجراها: أولا، إنشاء مدرسة حديثة حيث يكون المتخرج منها متعلما للإسلام الصحيح ويدافع عن الإسلام. ثانيا، القضاء على سوء التفاهم الحاصل في الفترة الأخيرة بين العنصرين الرئيسين في الإمبراطورية، العرب والأتراك.
وكان جواب الحكومة أن اللغة في المدرسة ستكون اللغة التركية، وأنه سيجري الدفع على أن تكون المدرسة تحت إشراف وإدارة شيخ الإسلام. ومع ذلك، لا يرضي هذا رشيد رضا، لأنه يريد أن تكون لغة التعليم هي اللغة العربية، وأن تكون المدرسة تحت إشرافه. وغادر إسطنبول وقد أصيب بخيبة أمل كبيرة، وفقا للكاتب.
فكر القومية
ورأى تاوبر، أن إسطنبول ربما لم تثق برشيد رضا بسبب أفكاره العربية (القومية). وعلى الأرجح، فإن المعلومات التي وصلت إسطنبول بما يتعلق به ليست إيجابية. بمجرد عودة رشيد رضا إلى مصر في أوائل أكتوبر/تشرين الثاني 1910، بدأ في توجيه انتقادات لاذعة ضد الأتراك والحكومة في إسطنبول. وفي عام 1911 كان من بين مؤسسي جمعية عربية سرية تسمى "جمعية الجامعة العربية".
وبحسب دمير، فقد كتب في قسم الجمعية: " وفق الأسس التي حددتها الرابطة العربية، أقسم بأنني سأدعم الجهود لضمان سلامة العرب ووحدة أمرائهم وإقامة مملكة جديدة لهم، وأن أحمي أهداف الجمعية وأسرارها، ولن أفشي سرا واحدا من أسرارها، وأن هذا القسم سيقبل كعهد مع الله". وفي نفس الفترة بدأ مفاوضات مع دائرة المخابرات البريطانية في القاهرة. وفكّ، إليعازر تاوبر، رموز المذكرات السياسية والمراسلات المتبادلة التي كتبها، رشيد رضا، من خلال العمل في الأرشيف البريطاني. ويبدو أن رضا كان يحاول إقناع البريطانيين بتأسيس المملكة العربية العظيمة.
تعاون مع بريطانيا
ولفت الكاتب إلى رشيد رضا أخبر البريطانيين أن الضباط العرب الذين يخدمون في الجيش العثماني في سوريا سوف يثورون عندما يؤمروا بالتقدم إلى مصر كما سيقتلون القادة الأتراك والألمان وتولي زمام الحكم ليجعلوها بأيديهم. وقد طلب من البريطانيين تقديم الدعم المعنوي والمادي للضباط العرب ليكون التمرد المخطط له كبيرا واسع النطاق. وفقا للكاتب.
ولفت إلى أن رشيد رضا حذر مسؤولي المخابرات البريطانية من أنه سيتعين عليهم التنافس ضد الدعاية العثمانية في سوريا، التي تعلن أن بريطانيا عدوة للإسلام. كما قال بأنه يستطيع إقناع الشعب العربي بأن البريطانيين على استعداد لمساعدة العرب في تحقيق استقلالهم، على عكس ما يعرف عنهم بأنهم أعداء للإسلام.
من ناحية أخرى، حاول البريطانيون كسب دعم العرب في بداية الحرب وأجروا مفاوضات مع كل من الأسرة الهاشمية في مكة وزعماء حزب اللامركزية الذي أسسه رشيد رضا في القاهرة. وأعربوا في محادثاتهم مع رضا بأن بريطانيا مستعدة لمساعدة العرب على تحرير أنفسهم من العثمانيين، وأن بريطانيا ليس لديها أطماع في الدول العربية. ووفقا لرضا، فقد ذهبوا إلى أبعد من ذلك ووعدوه بأنهم إذا اضطروا إلى غزو الدول العربية أثناء الحرب لطرد الأتراك، فسوف يقومون بالإجلاء بمجرد انتهاء الحرب.
وتابع: في فبراير/شباط 1915، كتب رضا مذكرة مطولة معبرا عن وجهات نظره بالتفصيل حول العلاقات العربية البريطانية خلال الحرب. وفي ملحق بهذه المذكرة السياسية، دعا رضا البريطانيين إلى التصريح بأنهم سينسحبون من جميع المناطق التي سيحتلونها خلال الحرب، وأنهم سيمنحون الاستقلال للعرب. وكان هذا من شأنه تهدئة الجميع، بمن فيهم 100 مليون مسلم تحت الحكم البريطاني، كما كان سيضع حدا للاتهامات التي تقول بأن بريطانيا تنوي إنهاء حكم الإسلام والخلافة.
وأشار الكاتب التركي إلى أنه كان على بريطانيا أن تضمن صداقتها مع العرب، وبالتالي تظهر كحليف في نضال العرب من أجل الاستقلال. حيث إنها لو لم تفعل ذلك، فقد حذرهم رضا من أن العرب سينحازون عنها إلى ألمانيا. وفي الأيام التي أعلن فيها العثمانيون الجهاد الأكبر، كان رضا يجري مقابلات مع البريطانيين لدعم التمرد ضد الإمبراطورية العثمانية.
وأضاف أنه في 24 أكتوبر/ تشرين الثاني 1915، أرسل المندوب السامي البريطاني لمصر، آرثر هنري مكماهون، رسالته الشهيرة إلى الشريف حسين في مكة المكرمة، والتي وافق فيها على تلبية معظم المطالب الإقليمية في مكة مقابل تعاونه مع البريطانيين. إلا أن الرسالة كانت تحوي تحفظات عدة على حدود الدولة العربية المستقبلية، ولا سيما حدودها الشمالية الغربية.
"إمبراطورية عربية"
وبحسب دمير، فقد بدأ الشريف حسين الثورة العربية ضد العثمانيين بمساعدة البريطانيين في يونيو 1916. فيما دعم رضا التمرد الذي اعتبره بداية لتحقيق أحلامه، بحماس. وكتب في مجلة "المنار": "إن رغبة المسلمين بشكل عام يتمثل في أن تكون الدول العربية قوية في حد ذاتها ولا تعتمد على قوى خارجية للدفاع عنها". وأعرب عن أمل المسلمين في ثورة الشريف حسين في إقامة إمبراطورية عربية قوية ومستقلة خالية من التأثيرات الخارجية في مقالاته المنشورة في جريدتي "الأهرام" و"المنار".
وتابع، قائلا: كتب رشيد رضا للشريف حسين يخبره أنه يمكنه العمل معه في أي مكتب يمنحه إياه. لكن الشريف حسين لم يشعر حتى بالحاجة للرد عليه. ليصاب رضا بخيبة أمل. ثم فكر في مغادرة مصر لكن العميل البريطاني رونالد ستورز قال: إنه "يجب منع رشيد رضا من مغادرة مصر. وظل تحت المراقبة لفترة قصيرة".
وسلط الكاتب الضوء على أنه وأثناء ذلك جدد رضا نص القسم للجمعية القومية التي أسسها: لقد كان يقسم على إعادة الدول العربية المكونة من فلسطين وسوريا ولبنان والمنطقة الواقعة بين نهري دجلة والفرات والعراق إلى دولة مستقلة تقوم على مجلس نيابي وأعضاء منتخبين وتحكمها قوانينها الخاصة.
وأضاف: أن "رشيد رضا، الذي اتهم الإمبراطورية العثمانية بالعلمانية، أراد الآن أن ينقل فكرة الجمهورية للعرب. وعندما هُزم الشريف حسين ضد آل سعود حول رشيد رضا دفة القيادة ـ هذه المرة ـ باتجاه آل سعود. ربما كانت فكرته الوحيدة الثابتة خلال كل هذا هي رؤية دولة عربية تحت قيادة خليفة عربي.
وأردف: في عام 1924 كتب مؤلفاته الشهيرة التي امتدحهم فيها: "الوهابيون والحجاز". وقال: إن محمد بن عبد الوهاب أنقذ الإسلام من مستنقع الشرك والبدعة في نجد. فيما كتب عنه البريطانيون: "إنه قومي عربي متعصب لا يمكن التكهن به". لم يكونوا مخطئين في رأيهم هذا.
وختم دمير، قائلا: كان رشيد رضا يعتقد أن العرب يمثلون أعظم انتصار للإسلام، وأن العرب يبتعدون عن هذا النصر العظيم بسبب العثمانيين والأتراك، وأن بانتصار العرب ربما يكون انتصارا للإسلام. كان السبيل للقيام بذلك هو تطهير جميع البدايات التي جرى إدخالها إلى الإسلام والعودة إلى الجوهر الخالص للإسلام والذي يمثله العرب.