العلاقات التركية الغربية.. ملامح التوترات والتأثيرات الجيوسياسية

قسم البحوث | 2 years ago

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

مقدمة

أولا: التوتر الحدودي بين تركيا واليونان وتركيا

ثانيا: تركيا وتوسيع حلف شمال الأطلسي

ثالثا: تركيا والحرب في أوكرانيا

رابعا: الانتشار العسكري البريطاني في ليبيا

خامسا: اعتراضات تركيا على مناورات لقاء النمور والأسد الإفريقي

سادسا: الحضور العسكري لإسرائيل في قبرص والاستجابات التركية

خاتمة


المقدمة

تمر منطقة الشرق الأوسط وفي القلب منها تركيا بتحديات جيوسياسية خطيرة بعضها بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، وأخرى مردها عودة الولايات المتحدة إلى المنطقة باهتمام متزايد.

وفي الأثناء ترغب واشنطن في إنتاج نمط من دمج القوة في منطقة قلب العالم، وهو ما لوحظ في اتساع نطاق مناورات الأسد الإفريقي لتصل إلى عمق اليونان على الحدود التركية.

في هذا الصدد، خاضت تركيا جملة من التحديات بعضها جيوسياسي، لعل من أهم تجلياتها التصعيد التركي اليوناني في بحر إيجة.

وأيضا الحرب في أوكرانيا التي تمثلت في تمسك أنقرة بـ"اتفاقية مونترو" في وجه محاولات تسليح كييف، والانتشار العسكري البريطاني في ليبيا، والحضور العسكري الإسرائيلي في قبرص.

و"مونترو" هو الاسم الشائع لـ"الاتفاقية بشأن نظام المضائق"، ووقِّعت في 20 يوليو/تموز 1936 في قصر مونترو في سويسرا، ودخلت حيز التنفيذ في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1936.

ومنحت الاتفاقية تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين كانت تركيا قد فقدتهما في الحرب العالمية الأولى، وتنظيم عبور السفن الحربية التابعة للبحرية.

وتضمنت الاتفاقية إطلاق حرية مرور السفن المدنية في وقت السلم، وقيدت مرور السفن البحرية التي لا تنتمي إلى دول البحر الأسود.

بعض التحديات التي واجهت تركيا على الصعيد السياسي تمثل في الاتجاه نحو توسيع حلف شمال الأطلسي "ناتو" ليطال كلا من فنلندا والسويد، علاوة على اعتراضات تركيا على مناورات لقاء النمور والأسد الإفريقي.

ما ملامح التحديات التي تقابل أنقرة عبر الملفات المذكورة، وما تأثيرها على التموقع الجيوسياسي التركي؟ هذه الدراسة تقدم اجتهادا في الإجابة على هذين التساؤلين.


أولا: التوتر الحدودي بين تركيا واليونان وتركيا

أولى محطات تقييم الوضع الإقليمي تتمثل بتصاعد حدة التوتر بين كل من تركيا واليونان. ويتصاعد الخلاف بين الدولتين الجارتين بسبب مبادئ أمنية لهما حيال قضايا الحضور العسكري في بحر إيجة؛ ونوايا تسليح أثينا لجزر هذا البحر.

علاوة على قضية الحقوق الاقتصادية وترسيم الحدود في شرق البحر المتوسط، وملف الأقليات التركية، ووضع شمال قبرص، وأزمة المهاجرين غير النظاميين.

وفي أحدث حلقات التصعيد بين البلدين، وفي 7 يونيو/حزيران 2022، اتهمت أنقرة أثينا بمخالفة "معاهدة لوزان" الموقعة بين مجموعة من الدول الأوروبية وتركيا في عام 1923، والمؤكدة بـ"اتفاقية باريس" الموقعة عام 1946.

وبمقتضى الاتفاقية الأخيرة، سلمت تركيا 14 جزيرة بمجموعة "دوديكانيسيا" وعشرات الجزر الصغيرة المطلة على بحر إيجة تحت سيادة اليونان؛ شريطة عدم تسليحها، فيما تقول أنقرة إن الكثير من تلك الجزر لم تحدد في المعاهدة[1].

أدى المسلك اليوناني إلى احتداد لهجة التعاطي التركي مع اليونان، لتبلغ حد تهديد وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو، بأنه "إن لم تتراجع اليونان عن تسليح تلك الجزر فإنّ سيادتها عليها ستصبح محطا للنقاش ومثار جدل".

وهو ما أعقبه رد فعل آخر يوناني، يضاف لمتتالية ردود الأفعال التي كادت أن تفضي إلى مواجهة بين البلدين في 2021، إذ هدد الجنرال اليوناني المتقاعد، "يانيس إيغولفوبولوس"، بإمكانية قصف جسور إسطنبول الحيوية[2].

رد الفعل غير الرسمي هذا شفعته اليونان من قبل بإثارة قضية جمهورية شمال قبرص أمام الكونغرس الأميركي، ومباشرتها ضغوطا على واشنطن لمنعها من بيع طائرات "إف 16" إلى تركيا[3]، بعد إقصاء الأخيرة من قائمة مشتري المقاتلة "إف 35".

وتتخوف اليونان وكذلك إسرائيل من قدرة تركيا على ترقية منظومة رادار طائرات "إف 16" باستخدام التقنيات التي تطورها شركة "أسيلسان"، علاوة على التخوف من استخدام ذخائر "إف 16" في تسليح المسيرة التركية "أقنجي"[4].

ورغم التفوق التركي شبه الشامل مقارنة باليونان، سواء من حيث عدد السكان أو اليد العاملة والجنود العاملين، واللائقين لأداء الخدمة العسكرية، وانتهاء بالقوة العسكرية وشبه العسكرية[5]، فإن اتجاه أثينا للتصعيد لا يمكن عزله عن الحضور الأميركي فيها، علاوة على الروح المسيحية الجامعة لأوروبا.

ويبقى الحليف الأميركي وتوسعاته هما العامل الأهم من بين كافة التحركات التي تساند اليونان، عبر محاصرة أنظمة التسليح الموجهة إلى تركيا.

بما في ذلك صفقات طائرات "إف 16"، والسماح بتوريد طائرات "إف 35" لليونان، والضغوط على التنقيب التركي في شرق المتوسط، فضلا عن إحاطة تركيا بمجموعة قواعد عسكرية مقامة على الأراضي اليونانية.

في 13 مايو/أيار 2022، صدق البرلمان اليوناني على "اتفاقية التعاون الدفاعي المشترك" بين اليونان والولايات المتحدة؛ المعروفة اختصارا باسم (ميدكا - MDCA)، تمكنت واشنطن من خلالها من ضم ثلاث قواعد عسكرية يونانية إضافية إلى قواعد حضورها العسكري في اليونان؛ وبالتالي شرق المتوسط.

فإلى جانب القاعدة البحرية الموجودة قبل هذا التاريخ في خليج سودا بجزيرة كريت، والتي كانت الولايات المتحدة تعمل بها منذ العام 1969، فإن اتفاقية "ميدكا" ستسمح للقوات الأميركية باستخدام ثكنات "جورجولا" في مقاطعة "فولوس" بوسط اليونان، ومعسكر "ليتوتشورو" للتدريب، وثكنات الجيش في مدينة "أليكساندروبوليس" الساحلية الشمالية الشرقية القريبة من الحدود التركية[6].

وترغب الولايات المتحدة في تجاوز أي ظرف يمنع حضورها في البحر الأسود، خاصة بسبب "اتفاقية مونترو"، الموقعة في عام 1936، وتوسع قواعدها في اليونان؛ ما يسمح لها بالوصول إلى بلغاريا ورومانيا، ودعم حضور الدولتين في البحر الأسود.

ورغم ذلك، فإن اختيار الولايات المتحدة لليونان ودعمها خاصة عبر برامج الأسلحة الهجومية، وأهمها "إف 35"؛ يبدو معه أن واشنطن راغبة في كبح تطلعات تركيا الاستقلالية.

بعبارة أخرى، ترغب الولايات المتحدة في استعادة دور الوكيل التركي الذي كان سائدا إبان الحرب الباردة، ولا تمانع تحت هذا السقف أن توسع تركيا نفوذها ليصل لكل الدول الناطقة بالتركية مثل: أذربيجان وأوزبكستان وتركمانستان، أو حتى قيادة العالم الإسلامي ككل.

غير أن الحضور الأميركي له أعراض جانبية قد تضر الإقليم، أبرزها الدعم غير المباشر للتهور اليوناني، والذي لن يؤدي لتهديد تركيا وحسب، بل سيؤثر على قدرة الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الصيني – الروسي المتنامي في منطقة "قلب العالم".


ثانيا: تركيا وتوسيع حلف شمال الأطلسي

من أبرز قضايا الفاعل الإقليمي التركي اليوم مفاوضاته الشرسة مع "الناتو" حول طلب كل من السويد وفنلندا الانضمام لهذا الحلف.

ففي 18 مايو 2022، تقدمت الدولتان بطلب للانضمام لعضوية هذا الحلف[7]، منهيتان بذلك الإجراء نحو 75 عاما من عدم الانحياز العسكري للبلدين.

وكانت فنلندا قد انتهجت سياسة الحياد بعد "حرب الشتاء" التي خاضتها مع روسيا خلال الحرب العالمية الثانية، وخسرت إثرها 10 بالمئة من إقليمها لصالح الروس.

ومن جهة ثانية، التزمت السويد حيادها أقدم بكثير بعد مشاركتها في الحروب النابوليونية، والتي أدت لخسارتها إقليم فنلندا، وباتت سياسة حيادها تعرف بسياسة 1812.

وكان غزو روسيا للأراضي الأوكرانية مدخلا لسعي البلدين لإنهاء هذا الحياد. وكان وضع السويد غريبا بعض الشيء؛ فكانت قد وقعت معاهدة مع الناتو عام 2016 تسمح فيها للحلف بتنفيذ عمليات من داخل حدودها؛ وإن لم تنضم له.

انضمام البلدين إلى الناتو ليس من شأنه تأمينهما وحسب، لكن أيضا أن يمكن الحلف من تأمين جمهوريات البلطيق الثلاثة: ليتوانيا – إستونيا – لاتفيا.  

وهو ما كان متوقعا معه أن توافق تركيا على انضمام هذه الدول، مع ظهور بوادر نجاح للمفاوضات الثلاثية بينهما وبين أنقرة.

مع هدوء العلاقات، يمكن لطلب الانضمام أن ينجز خلال أسابيع قليلة على مستوى الحلف، لتتبقى بعد ذلك العملية الإجرائية المتمثلة في موافقة المجالس النيابية للدول الأعضاء على توسيعه، وهي عملية تستغرق شهورا محدودة، ولا تؤثر عمليا على مسار انضمام الدولتين للناتو[8].

غير أن تركيا التي تعد ثاني أكبر قوة بالناتو بعد الولايات المتحدة، كان لها رأي آخر أدى لتأجيل حصول الدولتين على إجماع الدول أعضاء الحلف.

والمادة العاشرة من ميثاق الحلف، الموقع في واشنطن في 4 أبريل/نيسان 1949، تنص على أن قبول أي طلب جديد للانضمام يحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء في "الناتو"[9].

وتحرص أن تترك مسافة بينها وبين طرفي النزاع في الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أنها تعاني صعوبات عدة مع الولايات المتحدة نتيجة إصرارها على الانتفاع بثرواتها التي حرمت منها بسبب تداعيات الحرب العالمية الأولى.

هذا علاوة على تبني الدولتين خيار فرض العقوبات التقنية على تركيا في أعقاب إقدامها على عملية "نبع السلام" في الشمال السوري.

لكن السبب الرئيس وراء عرقلة تركيا مساعي السويد وفنلندا الانضمام للحلف تمثل فيما اتهمتهما به من احتواء أعضاء في حزب العمال الكردستاني الانفصالي المعروف اختصارا باسم "بي كا كا".

بالإضافة إلى العثور على أسلحة مضادة للدروع من طراز "إيه تي 4" سويدية الصنع لدى "بي كا كا" في كل من العراق وسوريا وإيران[10].

يخوض "بي كا كا" صراعا مسلحا منذ عقود ضد الدولة التركية ضمن مساعيه إلى إقامة دولة كردية مستقلة.

ورغم اتجاهه نحو خيار الحكم الذاتي؛ فإنه يواجه الدولة التركية على خطوطها الحدودية مع كل من العراق وسوريا.

وقد سبق لكل من أنقرة وواشنطن والاتحاد الأوروبي أن أعلنت تسمية هذا الحزب منظمة إرهابية[11] نتيجة الصراع المسلح الذي راح ضحيته أكثر من 40 ألف شخص، علاوة على تدمير آلاف القرى الكردية في جنوب شرقي وشرقي البلاد مما اضطر مئات الآلاف من الأتراك الأكراد للنزوح لأجزاء أخرى من تركيا[12].

بالنسبة لتركيا، كانت المساومة على انضمام الدولتين لحلف "الناتو" مدخلا مهما للحصول على تسويات فيما يتعلق بقضايا عدة، من بينها التزام الحصول على سرب من طائرات "إف 35" من طراز "B" الموجه للبحرية.

فضلا عن ضرورة التزام الدولتين الصارم بمقتضيات القرار الأوروبي بكون "بي كا كا" تنظيما مصنفا إرهابيا، والاتجاه نحو دعم قرار برفع العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي على صادرات السلاح والتقنية العسكرية تجاه تركيا[13].

وأكد وزير الخارجية الأميركي "أنتوني بلينكن" على ضرورة تلبية البلدين لتطلعات تركيا في مجال مكافحة الإرهاب؛ خلال اتصال هاتفي مع نظيره التركي "مولود تشاووش أوغلو"[14].

وتوصلت الدولتان إلى تفاهم في 28 يونيو/حزيران 2022، أدى لانضمام تركيا لأعضاء الناتو في قبول مقترح ضم البلدين لعضوية الحلف[15].


ثالثا: تركيا والحرب في أوكرانيا

بالإضافة إلى المحور الخاص بتوسيع "الناتو"، فإن استجابات تركيا حيال الحرب الروسية على أوكرانيا تتمثل في عدة ملفات، أبرزها ملف تسليح كييف وغاز البحر الأسود، والأمن الغذائي العالمي. كيف تفاعلت أنقرة مع هذه الملفات الثلاثة؟

1. ملف تسليح أوكرانيا: لا شك في أن تركيا مهتمة بتسليح كييف، وكان لافتا أداء المسيرات التركية، وهو الأمر الذي زاد اهتمام دولة بحجم المملكة المتحدة بهذه المسيرات، وبخاصة بعد الإشادات الأوكرانية بأدائها[16].

غير أن الأداء التركي في هذا الملف يخضع لتقييمات دورية نتيجة المواقف التي تبدو متناقضة من جانب الولايات المتحدة تجاه تركيا.

وترتبط تلك المواقف بشكل عام بالتخوف من تسليح تركيا، أو حتى بعدم السماح لها بما تمرره واشنطن لحلفاء آخرين؛ على نحو ما جرى حيال منظومات الدفاع الجوي الروسية التي توافق عليها لليونان فيما لا توافق عليها لأنقرة.

هذه المواقف تؤدي في بعض الأحيان بتركيا لعرقلة مساعي الولايات المتحدة لبناء ترتيبات إقليمية، أو حتى لعرقلة مساعيها لتطوير ترتيبات عسكرية هجومية في أوكرانيا.

هذه الإشارة ترتبط، مثال حصري، بمنع تركيا دخول 18 قطعة بحرية أميركية مباعة إلى أوكرانيا، بينها سفينتان نهريتان؛ تستهدفان استعادة الإطلالة الأوكرانية على بحر آزوف.

واستخدمت تركيا "اتفاقية مونترو" الموقعة في عام 1936 لعرقلة تمرير هذه السفن. غير أن السلوك التركي، فيما يتعلق بتطبيق هذه الاتفاقية، يبدو ملزما لجميع الأطراف.

وسبق لتركيا أن منعت سفنا عسكرية روسية قابعة في شرق المتوسط من عبور المضائق المفضية إلى البحر الأسود[17].

السلوك التركي في هذا الصدد لا يحتمل التفسير إلا في إطار تمكين تركيا من الدفاع عن نفسها في مواجهة أي إجراء انتقامي روسي في حال إباحتها "اتفاقية مونترو"، وهو ما لا يمكن لتركيا فعله مع قصور وضع قواتها الجوية.

ومن ثم، تعد العرقلة التركية للمساعي الأميركية لتطوير الوضع في أوكرانيا بدون إيلاء الاهتمام الكافي لأمن تركيا مفتاح فهم الموقف التركي.

2. ملف غاز البحر الأسود: يعد ملف الطاقة من بين أهم الملفات التي تثيرها الحرب الروسية على أوكرانيا. وفي هذا الإطار، تمكنت تركيا في منتصف يونيو 2022، من البدء الفعلي في استخراج الغاز من حقل صقاريا على البحر الأسود.

الحقل تصل طاقته الإنتاجية إلى 10 ملايين متر مكعب بحلول الربع الأول من عام 2023. فيما نشرت تقارير بأن ما جرى حتى الآن لا يتجاوز البدء في مد خطوط الأنابيب في قاع البحر من ميناء فيليوس في محافظة "زنغولداك" على بعد 400 كلم شرق إسطنبول على ساحل البحر الأسود[18].

الاكتشاف جرى بالفعل في أغسطس/آب 2020، غير أن المسارعة في استغلال الحقل بدأت مع بوادر أزمة الطاقة العالمية؛ التي أعقبت الحرب الروسية على أوكرانيا، وهي الأزمة التي يمكن أن تسهم تركيا في مواجهتها، وفي الإفادة منها كذلك؛ بالنظر لبحث دول أوروبا عن بديل للغاز الروسي.

يمكن في هذا الصدد النظر للسلوك التركي الرامي لتأمين البحر الأسود، ولمنع انتشار الآليات العسكرية لدول الناتو فيه، واستخدام "اتفاقية مونترو" في هذا الصدد بكونه توجها لتأمين هذه الإمدادات من جهة، وخفض سقف التكالب على اكتشافات الغاز في البحر الأسود.

 وهو ما يرجح أن يكون هذا الملف أحد أهم ملفات التفاوض على حضور "الناتو" في البحر الأسود.

3. ملف تأمين إمدادات الحبوب: مع بدء الحرب الروسية في أوكرانيا، بدا أن العالم على شفا أزمة أمن غذائي عالمية بحسب منظمات دولية.

وكانت الأمم المتحدة قد حذرت من أن العالم قد يواجه مجاعات تستمر لسنوات بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.

وأدت الحرب إلى تراجع المعروض عالميا وبالتالي ارتفاع في أسعار البدائل. وارتفعت أسعار المواد الغذائية العالمية بنسبة 30 بالمئة تقريبا[19].

وفي إطار السعي لتحقيق الأمن الغذائي أو استغلال الأزمة، شهدت ساحة الحرب تنافسا تركيا – أوروبيا على تمرير القمح الأوكراني للعالم.

فيما يتعلق بتركيا، ورغم اكتفائها من القمح، فهي ما زالت مستوردا له بسبب زيادة الأسواق الدولية للدقيق / الطحين الذي تصدره[20].

وبالنظر لوضع الأمن الغذائي العالمي، واحتياجاتها الاقتصادية، فضلا عن الاحتياجات الأوكرانية، قررت تركيا تسهيل عملية توريد القمح الأوكراني للسوق العالمية.

وفي الأسبوع الأول من يونيو 2022، بدأت أنقرة مفاوضاتها مع الجانب الروسي من أجل توفير ممر آمن لتصدير الحبوب الأوكرانية للعالم عبر ممر آمن ترعاه تركيا[21]، وقادت المحادثات إلى مشاركة بريطانية في هذا المسار تحت مظلة الأمم المتحدة[22].  

لينتهي الأمر برعاية تركية أممية للتوصل إلى "اتفاق إسطنبول"، في 22 يوليو 2022، والذي سمح بتصدير الحبوب عبر موانئ البحر الأسود[23]، والتي بدأت سبيلها للتنفيذ فعليا في 27 من نفس الشهر[24]، ليعلن بعدها الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أن الاتفاق أسهم في الخفض التدريجي لأسعار الحبوب[25].

المساعي الأممية - التركية لتوفير هذا الممر الآمن وجدت منافسة من دول الاتحاد الأوروبي، التي تسعى لاستقبال القمح الأوكراني عبر خطوط تمر عبر كل من رومانيا وبولندا، وهي الخطوط التي أعلن "دميترو سينيك" نائب وزير الخارجية الأوكراني تدشينها في 12 يونيو 2022[26].

وفي موسم عام 2020- 2021، أنتجت بلدان الاتحاد الأوروبي "مجتمعة" نحو 127 مليون طن من القمح، لكن الاتحاد اشترى من الخارج 5.4 ملايين طن خلال نفس الفترة. وهو أحد أهم الأسباب التي تدعو دول الاتحاد لاستهداف القمح الأوكراني، الذي يبلغ إنتاجه نحو 25 مليون طن سنويا[27].

غير أن الاتحاد الأوروبي يرغب في أكثر من تحقيق الأمن الغذائي. وثمة قناعة ذات أبعاد استعمارية مفادها بأن امتلاك القمح في إطار أزمة الغذاء العالمية يمنح ميزة إستراتيجية للدول المتحكمة في تدفقات السلع الغذائية المهددة، ما يفسر المواجهة التركية – الأوروبية.


رابعا: الانتشار العسكري البريطاني في ليبيا

من أهم الأحداث التي شهدتها المنطقة مؤخرا إقدام المملكة المتحدة على الانتشار في ليبيا.

وفي 21 مايو 2022[28]، ثم في 11 يونيو من نفس العام[29] كذلك، غادرت طائرتا شحن عسكري بريطانيتان من قاعدة "برايز نورتون" الجوية البريطانية الواقعة على بعد حوالي 75 ميلا شمال غرب لندن، لتهبط في قاعدة مصراتة الجوية.

وبين هذين الهبوطين، أعادت المملكة المتحدة فتح سفارتها في ليبيا في 5 يونيو  2022[30].

الإشارة لاقتران موعد فتح السفارة بين الهبوطين قد يعني ضمنيا أن الطائرتين ربما حملتا احتياجات لوجيستية تأمينية لا غنى عنها لسفارة المملكة المتحدة؛ في دولة تعاني من حالة سيولة سياسية وأمنية واضحة. غير أن مراقبين ليبيين يرون أن الأمر يرتبط بأربعة احتمالات[31]:

1. الوصول إلى منابع النفط وتأمينها.

2. مراقبة الوجود الروسي ومحاصرته.

3. مكافحة الإرهاب المتنامي على حدود ليبيا الجنوبية.

4. مساندة حكومة رئيس الوزراء الليبي "عبد الحميد الدبيبة".

ومن جهة أخرى، يضيف مراقبون آخرون أن الانتشار البريطاني يأتي في إطار تحقيق هدفين[32]:

1. تعويض فقر انتشار القوات الأميركية في مواضع تهاوي الترتيبات الجيوسياسية.

2. بناء توازن مع الوجود التركي في شرق ليبيا، والذي استعاد كامل وضعه في قاعدة الوطية على بعد 170 كم جنوب غرب طرابلس.

النقطة الثانية في التحليل السابق هي التي تهمنا في هذه الدراسة. فمن ناحية، هناك "محور مكمل" ترسمه المملكة المتحدة يربط ما بين قاعدتيها في قبرص ("دكليا" في شمال قبرص – "أكروتيري" في جنوب قبرص) وبين القاعدة الجوية في مصراتة.

هذا المحور المكمل يعمل على استكمال جدار بحري سبق للولايات المتحدة بناؤه من عمق بحر إيجة في الشمال وحتى قاعدة "سودا" العسكرية في جزيرة كريت، ليمد محور قبرص – مصراتة هذا الخط البحري عبر المتوسط.

يهدف الخط لمواجهة الحضور البحري الروسي في شرق المتوسط. فلا يترك لتركيا وحدها عملية الحفاظ على التوازن مع الوجود الروسي، بالنظر للبراغماتية التركية؛ والتي تلجأ لبناء توازنات مع اشتداد حرارة خطوط المواجهة، وهو التوازن الذي سبق وحدث في سوريا عبر مسار "سوتشي" كما حدث في ليبيا عبر مسار برلين للحل السياسي في كلا البلدين.

الخطوة البريطانية، وبافتراض رغبتها في بناء محور مكمل عبر المتوسط، فإنها ستعمل على بناء تفاهم مع تركيا حول الوجود في قاعدة مصراتة "البحرية"، وإن كان الهدف البريطاني هو العمل على إنهاء الوجود العسكري الروسي في سرت.

البحث البريطاني عن موازنة الوجود التركي في ليبيا لا يعني بالضرورة التضاد مع هذا الوجود، فالعلاقة التعاونية بين تركيا والمملكة المتحدة واضحة.

وفي 20 مايو 2022، أعلن رئيس الصناعات الدفاعية التركي إسماعيل ديمير، خلال مؤتمر صحافي عقد في ختام زيارته للمملكة المتحدة، أن "بريطانيا رفعت كافة القيود المفروضة على تصدير منتجات الصناعات الدفاعية إلى تركيا" منهيا 3 أعوام من العقوبات التي أعقبت "عملية نبع السلام" التركية في الشمال السوري[33].

كما أنه في عام 2017، وقعت رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك تيريزا ماي اتفاقية عسكرية مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قيمتها 120 مليون دولار، بغرض تطوير مقاتلات تركية.

لتتولى بموجبها شركة "رولزرويس" البريطانية مهمة تطوير محركات المقاتلة التركية "تي إف-إكس إم إم يو" (TF-X MMU)، التي من المتوقع أن تدخل الخدمة سنة 2025 لتكون أول طائرة من الجيل الخامس تركية الصنع بالكامل.

ولاحقا، طلبت المملكة المتحدة اقتناء مسيرات تركية[34]. هذا فضلا عن اقتراح لندن طائرة "يوروفايتر - تايفون" الأوروبية على الأتراك كبديل لطائرة "إف 16" الأميركية[35].


خامسا: اعتراضات تركيا على مناورات لقاء النمور والأسد الإفريقي

من بين محاور النشاط التركي خلال الأشهر القليلة الماضية ما أبدته تركيا من اعتراضات على مناورتين أساسيتين، هما: مناورات لقاء النمور الأوروبية، ومناورات الأسد الإفريقي البحر متوسطية.

1. مناورات لقاء النمور 2022: سنوية يعقدها أعضاء "الناتو" وتضم تدريبات عبر "أسراب النمر" التي توجد في القوات الجوية لكل الدول أعضاء الحلف.

ويمثل هذه النمور في تركيا السرب 192، والذي يتخذ من القاعدة التاسعة للقوات الجوية التركية مقر تمركز له[36].

وسبق لتركيا أن استضافت هذه المناورات في عامي 2005، و2015. ومقرر لها أن تستضيف الجولة القادمة لهذه المناورات في مايو 2023.[37].

في 30 أبريل 2022، أعلنت تركيا عدم مشاركتها في هذه المناورة، التي بدأت فعالياتها في 20 مايو 2022، وذلك بعد تقديم عدة طلبات بتعديل شروطها.

والشروط جرت العادة على أن تحددها الدولة المستضيفة عبر وضع وثيقة ناظمة للإجراءات التقنية حول إجراء وتنفيذ المناورات.

وفي هذا الإطار، رأت تركيا أن الوثيقة التي أعدتها اليونان، كإطار للمناورات، فيها مقاربة تستهدف أنقرة بشكل مباشر، ولم تعلن القوات المسلحة التركية عن هذه الشروط وما وراءها.

ويمكن التكهن بمجال الشروط الواردة في الوثيقة اليونانية، بالنظر لطبيعة هذه المناورات (تدريبات جوية بالأساس)؛ وبين طلب تركيا شراء طائرات "إف 35"، ثم طائرات "إف 16" بعد إخراجها من قائمة مشتري النوع الأول.

وتضمنت الوثيقة اليونانية شروطا تقنية في الأسراب المشاركة لم تكن تنطبق على الوحدات الجوية التركية، ما أدى لانسحاب تركيا.

ومع تقدير الولايات المتحدة للشروط اليونانية، لم تكتف تركيا بالانسحاب، ولكنها أبدت قدرا من التحدي للمناورة، وأدى استخدام التشويش الإلكتروني الحمائي التركي إلى سقوط طائرة بريطانية مستأجرة من الولايات المتحدة انطلقت من فوق حاملة الطائرات "هاري ترومان"[38].

هذا علاوة على طائرتي رافال سقطتا نتيجة التشويش في 20  مايو 2022[39]. وكانت الطبيعة الدفاعية للإجراء التركي حالت دون تطوير الأزمة بين تركيا من جهة وعموم دول الناتو من جهة أخرى، خاصة فرنسا والمملكة المتحدة، وإن شهد البحر الأسود توترا بسبب وجود نفس الغواصة التي نشرت نظام التشويش[40].

ويتواصل التوتر التركي مع خلفيات توتر مع كل من فرنسا واليونان مع إصرار تركيا على التنقيب في شرق المتوسط، وتحديها للتسويات الحدودية التي أبرمتها اليونان مع كل من مصر وقبرص وإيطاليا قبل سنوات.

2. مناورات الأسد الإفريقي: تجري بين القوات المسلحة المغربية والقوات الأميركية عبر قوة قيادة الولايات المتحدة لإفريقيا "أفريكوم".

وقد بدأت هذه المناورات في عام 2007، وأجريت بصورة سنوية باستثناء عام 2013. وتشارك في هذه المناورات دول إفريقية، مع إمكانية استضافة دول صديقة لإفادة العملياتية.

وفي 20 يونيو 2022، انطلقت النسخة 18 من هذه المناورات، لتشمل التدريبات مناطق القنيطرة وأغادير وطانطان وتارودانت والمحبس، بمشاركة 7500 عسكري من 10 دول، و20 مراقبا من دول مختلفة.

وتشارك في هذه المناورات كل من المغرب وتونس وغانا وتشاد والسنغال والبرازيل وفرنسا وإيطاليا وهولندا وإسبانيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، علاوة على قوة من حلف شمال الأطلسي "الناتو".

ومع تضارب الأنباء عن مشاركة إسرائيل في هذه المناورات، فإن المغرب ودولة الاحتلال لم يؤكدا المشاركة، فيما أكدتها تقارير إعلامية أوروبية[41].

وتأتي هذه المشاركة رغم أن إسرائيل تنتمي للقيادة المركزية "سنتكوم"، ولا تنتمي لإفريقيا؛ فيما غابت دولة مثل مصر تنتمي للطرفين معا.

لا تمانع تركيا في انضمام إسرائيل للمناورات، فحضورهما التنافسي في هذه المنطقة واضح من خليج غينيا وحتى تأمين خط غاز النيجر، برغم ما بينهما من حسابات إستراتيجية في قبرص واليونان والقرن الإفريقي.

 لكن ما أدى بتركيا لموقف واضح من هذه المبادرة أن القوات الخاصة البحرية التونسية "آر سي إم" أرسلت وحدات منها للتدريب في قاعدة "ألكساندروبوليس" الأميركية الواقعة في اليونان قرب الحدود التركية.

رمزية هذه القاعدة، ومد نطاق عمل "مناورات الأسد الإفريقي" لها دفع تركيا للرد بشكل صارم تمثل في السماح لطائرة تجسس روسية بالمرور عبر أراضيها، وفوق العاصمة أنقرة للوصول إلى منطقة العمليات وتصويرها، وهو ما يفيد مراقبون بأنه أعقبها عدة رحلات روسية تنقل عتادا لدول إفريقية[42].

وبقدر رمزية عملية تدريب القوات الخاصة التونسية، فهناك رمزية تجاه السماح لطائرة التجسس الروسية بالمرور من الأراضي التركية، رغم ما سبق أن فرضته تركيا من حظر أجوائها على الطيران العسكري الروسي.

الخطوة التركية تحمل رسالة تقدرها الولايات المتحدة في توقيت تحاول أن تحشد فيه العالم لمواجهة روسيا.

مفاد هذه الرسالة أن السياسة الخارجية المتوازنة لتركيا أبقت الباب مفتوحا أمام إمكانية التواصل مع المعسكر الشرقي متى استمر التعنت الغربي في مواجهتها.


سادسا: الحضور العسكري لإسرائيل في قبرص والاستجابات التركية

بدأت المواجهة الأوروبية مع تركيا تتسع بعد أن شرعت في 25 يناير/كانون الثاني 2019 بالتنقيب عن الثروات البحرية في المنطقة المحيطة بقبرص[43].

واتسع نطاق المواجهة ليبلغ الأمر حد إعلان الولايات المتحدة في الثاني من سبتمبر/أيلول 2020 إلغاء الحظر على توريد السلاح إلى قبرص[44]، وهو الحظر الذي كانت قد فرضته عام 1987 لتشجيع جهود إعادة توحيد الجزيرة وتجنب سباق للتسلح في الجزيرة المقسمة.

وكان قرار رفع الحظر قد وضع أمام الرئيس الأميركي السابق "دونالد ترامب"، في 20 ديسمبر/كانون الأول 2019[45]، لكن تأجل تنفيذه بسبب ضغوط تركية.

ورغم أن الخلاف حول اقتسام الثروة في شرق المتوسط شمل اليونان وفرنسا وإيطاليا وحتى الولايات المتحدة، فإن حضور إسرائيل في قبرص كان الأوفر قوة، وبخاصة بعد تنامي علاقتها العسكرية مع أثينا وضم قبرص إليها في 13 نوفمبر 2020[46] في اتفاق تعاون دفاعي.

وأيضا التوافق المصري – الإسرائيلي حول خفض سقف مشروع "الوطن الأزرق" التركي، والذي حسمته مصر مبكرا عبر اتفاقيات ترسيم الحدود مع قبرص في 19 أبريل 2004، ثم مع اليونان في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2020، ثم التعاون الدفاعي المصري – اليوناني – القبرصي، والذي كان اجتماع القاهرة في 20 يونيو 2022 آخر حلقاته[47].

الوجود العسكري الإسرائيلي في قبرص بلغ حد تنظيم تدريبات عسكرية هناك تحت مسمى محاكاة الحرب ضد مليشيات حزب الله اللبنانية وقصف المنشآت النووية الإيرانية، وحماية الإقليم المحتل من الوجود الإيراني في سوريا.

كان آخر تلك التدريبات ما جرى في 30 مايو 2022[48]، وقبلها زار قائد الحرس الوطني القبرصي "ديموكريتوس زرفاكيس" إسرائيل في 8 مارس/آذار 2022[49].

ورغم التحسن النسبي في العلاقات بين أنقرة وتل أبيب اختتاما بزيارة رئيس الكيان "إسحاق هرتسوغ" لتركيا في 14 مارس 2022[50]، فإن أنقرة تنظر للوجود العسكري الإسرائيلي في قبرص بعيدا عن الدعاية المرتبطة به، والتي تصرفه للهجوم على دول عربية.

وتسود قناعة داخل الأوساط السياسية والعسكرية في تركيا بأن الوجود الإسرائيلي يستهدف شمال قبرص، وهو احتمال يظل واردا طالما لم يعترف بقبرص الشمالية أي من الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة،  فضلا عن إسرائيل.

وأن هذا الكيان يفضل شراكة يونانية – قبرصية حول الغاز وتوصيله إلى أوروبا عوضا عن عرض تركيا باستخدام خط "تاناب" الأذري - التركي الذي يمثل بديلا اقتصاديا لمشروع خط "إيستميد" الذي أجهضته الولايات المتحدة في فبراير/شباط 2022[51].

وفيما ترتئي القيادات العسكرية والسياسية في تركيا أن جيش إسرائيل يتولى تدريب الحرس الوطني القبرصي، ومع التطور التقني العالي الذي تتمع به تل أبيب، فإن تركيا حرصت على تزويد "القوات القبرصية التركية الأمنية" في شمال قبرص بنفس مستوى التقنية الذي تتمتع به القوات المسلحة التركية.

وتفيد تقارير استخباراتية بأن تركيا اتجهت خلال الأشهر القليلة الماضية لتشكيل قوة عسكرية إضافية لشمال قبرص تتمثل في "قوة تدخل سريع" تمتلك نفس مستوى التسليح والتقنية التي تنشرها إسرائيل في قبرص[52].


الخاتمة

هل تقع تركيا في بؤرة التحولات الجيوسياسية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط؟ وهل هي مستهدفة بقطاع واسع من هذه التفاعلات؟

رد الفعل التركي يشي بأن ثمة تحديات تواجهها بالفعل. فمن جهة، تحتشد الولايات المتحدة في عدة قواعد قديمة وجديدة في اليونان، قبالة تركيا.

وبالرغم من أن الولايات المتحدة تنظر إلى تركيا بكونها حليفا إستراتيجيا، فإنها تنظر لمشروع أردوغان يكونه نزاعا للاستقلال، وتكاد لا تقبل به طالما أن الفاعل التركي المتنامي القوة لا يمثل دور الوكيل لها، ويفضل أن يدخل رقعة الشطرنج الجيوسياسية كلاعب مستقل.

التوازنات تدفع تركيا للعمل تحت سقوف تحولات القوة العالمية؛ حماية لذاتها ولقوتها، لكن الحشد الأميركي في اليونان يمكنه أن يغري أثينا بالتهور الذي قد يشكل مصدر خطورة إقليمية مستقبلا.

أثينا تلعب دورا كذلك في محاولة تعزيز الحصار العسكري والتقني على تركيا، بدءا من حرمانها من شراء الطائرة "إف 35"، ثم محاولات عرقلة بيع طائرات "إف 16" لها.

وهو ما يؤدي لتعقد العلاقات التركية – الأميركية ويدفع أنقرة للضغط على دول أوروبا؛ مستغلة حالة اضطراب التوازن العالمي الذي أنتجته روسيا بالحرب على أوكرانيا.

وبلغ الأمر حد تحدي مناورات الناتو "لقاء النمور" عبر جدار تشويش تسبب في سقوط 3 طائرات لدول "الناتو" في هذه المناورة.

ومن جهة ثانية، يبدو وجود إسرائيل مستهدفا الوجود التركي في شمال قبرص، ما بلغ حد التعاون الاستخباراتي والتقني العسكري، بالإضافة للتدريبات المشتركة مع القوات القبرصية، وإن كانت تحت غطاء مهاجمة فاعلين عرب.

ووجود إسرائيل جنوب قبرص دفع تركيا لإنشاء قوة تدخل سريع خاصة بقبرص، وتسليحها بمستويات تقنية عالية لا تقل عن التقنية الإسرائيلية التي يظن مراقبون أنها جزء من برنامج تأهيل تل أبيب للحرس الوطني القبرصي الجنوبي.

ومن جهة ثالثة، وبرغم جودة علاقات التعاون العسكري بين تركيا والمملكة المتحدة، والذي بلغ حد طلب لندن شراء "بيرقدار" وعرضها بيع "يوروفايتر" لأنقرة بديلا عن "إف 16" الأميركية فإن المنطقة شهدت انتشارا عسكريا بريطانيا في "مصراتة" شرق ليبيا.

وهو ما يكشف عن رغبة غربية في موازنة النفوذ التركي في ليبيا، والعمل من خلال هذا التوازن على إخراج روسيا من هذا البلد، وعدم ترك تركيا بمفردها في مواجهة الروس؛ بما قد يؤدي لتفاهمات تميل إليها أنقرة لحماية نفوذها ومصالحها.

الجيوسياسة لا تحكم الموقف وحدها، فالبحث عن الثروة الطاقية كان وراء مواجهات محسوبة لإدارة ملف الغاز التركي في البحر الأسود، علاوة على المصالح التركية وراء محاولة توفير ممر آمن للتحكم في تدفق القمح الروسي والأوكراني للعالم عبر البنية التحتية اللوجيستية التركية.

لم يخل مسرح المواجهة الغربية – التركية من مناوشات سياسية، على نحو ما جرى فيما يتعلق بتوسيع "الناتو"، وهو ما استثمرته تركيا من أجل فرض التزام أوروبي بمكافحة الإرهاب في مواجهة "حزب العمال الكردستاني" على كل من فنلندا والسويد.

المناوشات طالت كذلك العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث سمحت تركيا لروسيا باستخدام مجالها الجوي لمرور طائرة تجسس روسية فوق مناورات الأسد الإفريقي، ردا على وصول الأخيرة إلى الحدود التركية – اليونانية.


المصادر:
[1]  المحرر، جزر بحر إيجة.. محور مواجهة متجددة بين تركيا واليونان، موقع "قناة الشرق" السعودية، 10 يونيو 2022. https://bit.ly/3P60v8n
[2]  زاهد صوفي، أردوغان يتوعد برد حاسم وجنرال يوناني يهدد بقصف إسطنبول.. أزمة إيجة ترفع حدة التوتر بين أنقرة وأثينا، الجزيرة نت، 21 يونيو 2022. https://bit.ly/3btk7oN
[3]  مراسلون، رئيس الوزراء اليوناني يكرر مزاعمه المتعلقة بتركيا، وكالة أنباء الأناضول، 17 مايو 2022. https://bit.ly/3bull39
[4]  قناة "عبد الحميد العوني"، تركيا، موقع "يوتيوب"، 25 يونيو 2022. https://bit.ly/3NiRiZj
[5] Comparison of Greece and Turkey Military Strengths (2022), Globalfire Power. https://bit.ly/3u1MsZU
[6] Ahmet Gençtürk, Growing US military presence in Greece can lead to undesired scenarios in Aegean, experts warn, Anadulu Agency News, 25 May 2022. https://bit.ly/3OqYJPI
[7]  وكالات، رغم معارضة تركيا.. السويد وفنلندا تتقدمان لعضوية الناتو، موقع "قناة العربية"، 18 مايو 2022. https://bit.ly/3NjErpS
[8]  وكالات، فنلندا والسويد تقدمان طلبين للانضمام لحلف الناتو، موقع "قناة سكاي نيوز عربي"، 18 مايو 2022. https://bit.ly/39VELgV
[9]  الموسوعة السياسية، معاهدة حلف شمال الاطلسي. https://bit.ly/3njBxqD
[10]  سعيد عبد الرازق، تركيا ستبحث مع روسيا فتح ممر تجاري آمن لنقل الحبوب في البحر الأسود، موقع "صحيفة الشرق الأوسط"، 1 يونيو 2022. https://bit.ly/3u6pUHh
[11]  مراسلون، تحليل: لماذا تعرقل تركيا خطط فنلندا والسويد بالانضمام للناتو؟، موقع "قناة سي إن إن" بالعربية، 24 مايو 2022. https://cnn.it/39STDg5
[12]  المحرر، حزب العمال الكردستاني وتركيا: حرب دامية وعشرات آلاف الضحايا وآلاف القرى المدمرة، موقع "قناة بي بي سي" بالعربية، 17 يونيو 2020. https://bbc.in/3gfTTTx
[13] Selcan Hacaoglu, What Turkey Wants From Sweden and Finland in NATO Expansion Spat, Bloomberg Network, 17 May 2022. https://bloom.bg/3np4KQZ
[14]  وكالات، مباحثات أمريكية تركية.. أزمة الحبوب وتوسيع الناتو يتصدران، موقع "العين" الإماراتي، 26 يونيو 2022. https://bit.ly/3NqfKIg
[15]  المحرر + وكالات، اتفاق ثلاثي يبعث رسالة إلى بوتين.. تركيا تعطي الضوء الأخضر لانضمام السويد وفنلندا إلى الناتو، الجزيرة نت، 28 يونيو 2022. https://bit.ly/3xZseRr
[16]  علاء جمعة، هل تغير الطائرات المسيرة "بيرقدار" التركية مسار حرب أوكرانيا؟، موقع "قناة دويتشه فيله" بالعربية، 5 مارس 2022. https://bit.ly/3ylG7uL
[17] Akshat Goyal, The Implications of the Montreux Convention on the Transit of Russian Warships Through the Black Sea, JURIST News, 10 JUNE 2022. https://bit.ly/3I0avy6
[18]  وكالات، تركيا تبدأ استخراج الغاز الطبيعي من البحر الأسود، موقع "قناة العربية"، 14 يونيو 2022. https://bit.ly/3a04Awf
[19]  مات ميرفي، روسيا وأوكرانيا: الأمم المتحدة تحذر من مجاعة عالمية تستمر لسنوات بسبب الغزو، موقع "قناة بي بي سي" بالعربية، 19 مايو 2022. https://bbc.in/3A8L7E9
[20]  سعيد عبد الرازق، تركيا تنفرد بـ30 % من صادرات دقيق القمح عالمياً، موقع "صحيفة الشرق الأوسط"، 30 يونيو 2017. https://bit.ly/3NoWRWb
[21]  سعيد عبد الرازق، تركيا ستبحث مع روسيا فتح ممر تجاري آمن لنقل الحبوب في البحر الأسود، موقع "صحيفة الشرق الأوسط"، 1 يونيو 2022. https://bit.ly/3u6pUHh
[22]  المحرر، خطة روسية تركية لحل أزمة سفن الحبوب الأوكرانية.. وكييف تشكّك، موقع "قناة العربية"، 6 يونيو 2022. https://bit.ly/3HUTy7W
[23] وكالات، ما تفاصيل "اتفاق إسطنبول" لفك الحصار عن الحبوب الأوكرانية؟، موقع "قناة سكاي نيوز عربية"، 23 يوليو 2022. https://bit.ly/3zLXLYe
[24]  وكالات، اتفاقية الحبوب الأوكرانية تدخل حيز التنفيذ.. مركز تنسيق في إسطنبول، موقع "العين" الإماراتي، 27 يوليو 2022. https://bit.ly/3vLXMdg
[25]  مراسلون، غوتيريش: اتفاقية إسطنبول ساهمت بخفض أسعار الحبوب، موقع "عربي 21"، 4 أغسطس 2022. https://bit.ly/3bJChD3
[26]  وكالات + مراسلون، أوكرانيا تنشئ طريقين لتصدير القمح عبر رومانيا وبولندا، موقع "تلفزيون سوريا"، 12 يونيو 2022. https://bit.ly/3u9an9D
[27]  وكالات، أكبر المصدرين والمستوردين وأهم المنتجين للقمح في العالم، موقع "ميادين"، 8 مارس 2022. https://bit.ly/3xRA9A8
[28]  المحرر، طائرة شحن عسكرية بريطانية تصل إلى مصراتة، موقع "صحيفة الحدث" الليبية، 21 مايو 2022. https://bit.ly/39YP0AV
[29]  المحرر، طائرة شحن عسكرية بريطانية تصل إلى مصراتة، موقع "صحيفة الحدث" الليبية، 11 يونيو 2022. https://bit.ly/3xMPKBa
[30]  وكالات، بريطانيا تعلن إعادة افتتاح سفارة بلادها في العاصمة الليبية بعد توقف دام حوالي 8 سنوات، موقع "صحيفة الأهرام"، 5 يونيو 2022. https://bit.ly/3QHu6ad
[31]  قناة "218"، ماذا تفعل القوات الخاصة البريطانية في مصراتة؟ | برنامج البلاد، موقع "يوتيوب"، 16 يونيو 2022. https://bit.ly/3QHuMwh
[32]  قناة "عبد الحميد العوني"، الحـ ـدث 14/06/2022، موقع "يوتيوب"، 14 يونيو 2022. https://bit.ly/3xVm3xN
[33]  أحمد عدنان، مسؤول تركي يؤكد مجددا: بريطانيا رفعت القيود على تصدير الصناعات الدفاعية إلى تركيا، موقع "وكالة أنباء تركيا"، 20 مايو 2022. https://bit.ly/3OGqaEF
[34]  أيوب الريمي، بيرقدار التركية تغري بريطانيا.. وأنقرة تبحث عن بديل "إف-35" في لندن، الجزيرة نت، 25 مايو 2022. https://bit.ly/3NkDnCc
[35]  عماد أبو الروس، تركيا تخطط لشراء المقاتلة "يوروفايتر تايفون" من بريطانيا، موقع "عربي 21"، 24 يونيو 2022. https://bit.ly/3y0zoFe
[36]  جابر عمر، تركيا تنسحب من مناورات الأطلسي في اليونان بسبب مواقف أثينا، موقع "صحيفة العربي الجديد"، 30 أبريل 2022. https://bit.ly/3A9dGkP
[37]  وكالات، تركيا تعلن انسحابها من مناورات للناتو تستضيفها اليونان، موقع "صحيفة الشرق" القطرية، 30 أبريل 2022. https://bit.ly/3MPdTxg
[38]  قناة "عبد الحميد العوني"، تركيا، موقع "يوتيوب"، 23 مايو 2022. https://bit.ly/3OJhpd0
[39]  قناة "عبد الحميد العوني"، تركيا، موقع "يوتيوب"، 23 مايو 2022. https://bit.ly/3OvDhcg
[40]  قناة "عبد الحميد العوني"، تركيا، موقع "يوتيوب"، 20 يونيو 2022. https://bit.ly/3OKU4rx
[41]  المغرب.. تضارب الأنباء حول مشاركة إسرائيل في "الأسد الإفريقي 2022"، وكالة أنباء الأناضول، 22 يونيو 2022. https://bit.ly/3yuipN6
[42]  قناة "عبد الحميد العوني"، تركيا، موقع "يوتيوب"، 19 يونيو 2022. https://bit.ly/3u9lD66
[43]  مراسلون، تركيا تبدأ التنقيب عن الموارد حول قبرص، وكالة رويترز للانباء، 25 يناير 2019. https://reut.rs/3AaoUpg
[44]  مراسلون، أمريكا ترفع حظر الأسلحة عن قبرص وتثير غضب تركيا، وكالة رويترز للأنباء، 2 سبتمبر 2020. https://reut.rs/3y192TA
[45]  وكالات، نقرة تحذّر من "التصعيد" إذا رفعت واشنطن حظر السلاح المفروض على قبرص، موقع "قناة فرانس 24" بالعربية، 18 ديسمبر 2019. https://bit.ly/3I2jmyZ
[46]  وكالات، اتفاق إسرائيل واليونان وقبرص على التعاون الدفاعي في ظل استفزازات تركيا، صحيفة الوطن المصرية، 13 نوفمبر 2020. https://bit.ly/3uc4oRz
[47]  داليا عثمان، وزراء دفاع مصر وقبرص واليونان يبحثون التعاون العسكرى المشترك، موقع "صحيفة المصري اليوم"، 20 يونيو 2022. https://bit.ly/3nlF1Jc
[48]  بندر الدوشي، مناورات إسرائيلية في قبرص.. استعداداً لمواجهة محتملة ضد حزب الله وإيران، موقع "قناة العربية"، 30 مايو 2022. https://bit.ly/3u9d7UG
[49]  مراسلون، رئيس الأركان العامة للحرس الوطني القبرصي يزور إسرائيل لأول مرة، موقع "قناة إسرائيل 24" بالعربية، 8 مارس 2022. https://bit.ly/3Nu2gv2
[50]  مركز الجزيرة للدراسات، الطاقة أولا.. لماذا تطبع تركيا علاقاتها مع إسرائيل؟، موقع "ميدان"، د.ت. https://bit.ly/39Z3vVB
[51]  المحرر، 5 أسباب دفعت بايدن للتخلي عن دعم خط أنابيب غاز "إيست ميد"، موقع "العين" الإماراتي، 8 فبراير 2022. https://bit.ly/3npXJ2s
[52]  قناة "عبد الحميد العوني"، تركيا، موقع "يوتيوب"، 15 يونيو 2022. https://bit.ly/3u75spS