أموال أوروبا تجبر السيسي على إنهاء محاكمة 5 منظمات حقوقية.. ما القصة؟

منذ شهر واحد

12

طباعة

مشاركة

بعد 72 ساعة من زيارة وفد أوروبي رفيع، لتوقيع حزمة تمويل ضخمة للنظام المصري بقيمة 8 مليارات دولار، ألغت القاهرة قضية التمويل الأجنبي لمنظمات حقوقية، المستمرة منذ 13 عاما لـ"عدم كفاية الأدلة".

يوم 17 مارس/آذار 2024 زار مصر وفد أوروبي رفيع برئاسة، أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، لتوقيع حزمة تمويل ضخمة لنظام عبد الفتاح السيسي يمتد على ثلاث سنوات.

وبعد ثلاثة أيام، أصدر قاضي التحقيق التابع لوزارة العدل قرارا بغلق ملف قضية التمويل الأجنبي المتهم فيها 85 منظمة مصرية بتلقي تمويل أجنبي، بإعفاء آخر 5 منظمات و4 حقوقيين من التهمة.

ما رجح وجود علاقة بين "تمويل" أوروبا لنظام السيسي وإنهاء التحقيق مع حقوقيين مصريين بتهمة تلقي تمويل أوروبي. 

ومنذ 2011 وهذه القضية مستمرة، وتشكل سيفا مسلطا على رقاب خمس منظمات حقوقية وأربعة من كبار الحقوقيين المصريين، محجوز على أموالهم وممنوعين من السفر، بدون أي تهم حقيقية.

شاي بالياسمين

مع تزايد قضايا الفساد والرشوة بين كبار المسئولين، أطلق المصريون تعبيرا ساخرا على من يتلقون هذه الرشا بأنهم شربوا "شاي بالياسمين".

ويبدو أن النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي شرب "شاي أوروبي بالياسمين" مقابل عقد صفقة ضخمة مع الاتحاد الأوروبي.

هذه الصفقة تشمل أدوارا لمصر في حماية أوروبا من الهجرة غير النظامية، ودورا غامضا في غزة، بجانب غلق ملف "تمويل أوروبا منظمات حقوقية مصرية"، بعدما تلقي النظام نفسه تمويلا مماثلا.

 

حقوقيون أكدوا لـ "الاستقلال" أن قرار قاضي التحقيق المصري بغلق قضية التمويل الأجنبي لعدم كفاية الأدلة بعد 13 سنة ومنع من السفر وتحفظ على أموال 5 منظمات حقوقية مصرية رغم أنهم متهمون بتلقي تمويل أوروبي، جاء بضغوط مباشرة من الاتحاد الأوروبي.

حقوقي فضل عدم ذكر اسمه قال إن قرار حفظ التحقيق لا يستبعد أن يكون أحد شروط التمويل الذي قدمه وفد الاتحاد الأوروبي لمصر بدليل غلق ملف القضية بعد ساعات من تلقي مصر التمويل الأجنبي.

أشار إلى أن الوفد الأوروبي جلس مع حقوقيين مصريين ممن تم وقف التحقيقات معهم وبحث معهم هذا الأمر قبل أن يلتقي السيسي، وأعقب ذلك قرار الحكومة المصرية، عبر قاضي التحقيق، بغلق ملف القضية المتهمة فيها أوروبا بتمويل منظمات حقوقية مصرية.

وقبل لقاء رئيس وزراء بلجيكا أليكساندر ديكرو، ضمن الوفد الأوروبي الذي قدم التمويل لمصر، مع عبد الفتاح السيسي، التقى المسؤول الأوروبي بالناشط الحقوقي حسام بهجت والصحفية لينا عطا الله رئيسة تحرير موقع مدى مصر.

وبعد هذه المقابلات مع الحقوقيين والسيسي بـ72 ساعة، قرر قاضي التحقيق المصري إغلاق ملف القضية 173 لسنة 2011 المتهم فيها 5 منظمات حقوقية، وحسام بهجت وجمال عيد ومحمد زارع، بعد استمرارها 13 عاما.

وقبل غلق ملف القضية، انتقدت "لجان السيسي الإلكترونية"، لقاء الحقوقي حسام بهجت مع المسؤولين الأوروبيين الذين حضروا لمصر لتقديم الدعم المالي لنظام السيسي، ثم ظهر أن اللقاء كان جزءا من التدخل الأوروبي للضغط على السيسي لغلق ملف التمويل الأجنبي.

وسخر نشطاء من غلق حكومة مصر، قضية التمويل الأجنبي "لعدم كفاية الأدلة" بعد أيام من إعلان الاتحاد الأوروبي تقديم حزمة من التمويل الأجنبي لنظام السيسي، ملمحين لمشهد من فيلم مصري يتحدث عن إشادة مفتش فاسد برئيس شركة لأنه قدم له رِشا.

وعلق الصحفي جمال سلطان على ارتباط أحكام القضاء المصري بالنفوذ والتمويل الأجنبي قائلا: "في بلادنا سلطة تخاف (من الأجنبي) وما تستحي من شعبها، وقضاة "يويو"، أستيك، يعملون وفق توجيهات الموبايل من مكاتب الأجهزة الأمنية".

وكان لافتا أيضا بجانب إنهاء قضية التمويل الأجنبي، أن القاهرة أخلت سبيل صحفيين من قناة الجزيرة مباشر تعتقلهما منذ 3 سنوات، هما ربيع الشيخ وبهاء نعمة الله.

ورغم تبرئتهم، طالب المدير التنفيذي للمبادرة المصرية حسام بهجت باعتذار رسمي من السلطات المصرية عن الضرر المعنوي والمادي الذي وقع على الحقوقيين لمدة 13 سنة بسبب هذه القضية الملفقة، و"تعديل القوانين كافة لمنع تكرار هذه المهزلة".

كما طالب بإسقاط التهم ضد حقوقيين آخرين منهم محمد بشير وكريم عنارة وجاسر عبد الرازق ورفع المنع من السفر والتحفظ على أموالهم.

ودعا لفتح تحقيق مع الوزيرة السابقة، مستشارة الأمن القومي فايزة أبو النجا بافتراض أنها هي من دفعت المجلس العسكري في أعقاب ثورة 25 يناير لتحريك تلك القضية.

وقال بهجت، لموقع "مدى مصر" في 20 مارس 2024 إن "القضية لم تكن تهدف إلا إلى التنكيل بالحقوقيين المصريين عقابًا لهم على عملهم".

وأشار مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، جمال عيد، إلى أنهم لا يعرفون تفاصيل قرار الإفراج عنهم وتبرئة منظماتهم، وبالتالي لن يفرحوا حتى يعرفوا هذه التفاصيل، ويتمكنوا من التعامل مع أموالهم المحتجزة، ويُسمح لهم بالسفر.

وطالبت 20 منظمة حقوقية مصرية وأوروبية، في بيان في 15 مارس رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، ورؤساء وزراء بلجيكا واليونان وإيطاليا، بإدراج معايير واضحة للإصلاح في الشراكة الأوروبية المصرية.

وطالبوا أن "تساهم المعايير في معالجة أزمات حقوق الإنسان والمساءلة في مصر، وإلا سيساهم الدعم المالي للاتحاد الأوروبي في دعم سياسات الحكومة المصرية المقوضة للحقوق السياسية والاقتصادية".

13 عاما من التنكيل

يوم 20 مارس 2024، أصدر قاضي التحقيق المنتدب من محكمة استئناف القاهرة للتحقيق في القضية المعروفة إعلاميا بقضية التمويل الأجنبي، أحمد عبد العزيز قتلان، حكما بأنه "لا وجه لإقامة الدعوى الجنائية لعدم كفاية الأدلة".

البراءة التي أعلنها القاضي بعد 13 عاما من فتح ملف القضية عام 2011، شملت أربعة حقوقيين هم: المدير التنفيذي للمبادرة المصرية حسام بهجت، وجمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.

ومحمد زارع، مدير المنظمة العربية للإصلاح الجنائي، بالإضافة إلى الدكتورة عايدة سيف الدولة، مؤسسة مركز النديم، والمسؤولون بمركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان.

كما تشمل البراءة خمسة مراكز حقوقية محجوزا على أموالها ومقراتها وهي: 

مركز المبادرة للدراسات والاستشارات، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، والمؤسسة العربية للإصلاح الجنائي العقابي، ومركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ومركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف.

وتضمن القرار، رفع أسماء من تضمنهم الأمر من قوائم الممنوعين من السفر، وقوائم المنع من التصرف في أموالهم الثابتة والمنقولة وبينهم حسام بهجت أحد الذين التقوا الوفد الأوروبي خلال زيارته لمصر لتقديم التمويل لنظام السيسي.

وبموجب هذا القرار يكون عدد المنظمات والجمعيات والكيانات التي صدر بشأنها أوامر قضائية بألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية 85 أمرا، شملت المنظمات والكيانات والجمعيات كافة التي شملتها التحقيقات في القضية 173 لسنة 2011.

وترجع قضية التمويل الأجنبي إلى عام 2011، حين اتُهمت بعض منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية بالعمل دون ترخيص، والحصول على تمويل من الخارج دون الخضوع إلى الرقابة.

كان واضحا أن القضية قضية سياسية الغرض منها توجيه المجلس العسكري ضربة للمجتمع المدني المصري لأنه لعب دورا في خلق الأجواء التي قادت لثورة يناير ضد نظام الرئيس السابق حسني مبارك، مستخدما القضاء في ذلك. 

وعلى مدار السنوات الـ 13، ظلت وزارة العدل عبر قاضي التحقيقات المعين من قبلها تصدر بيانات حول إعفاء منظمات من التحقيق مؤكدة "ألا وجه لإقامة الدعوى الجنائية".

وكان آخرها في أغسطس 2023 بتأكيد إعفاء 75 منظمة ومواصلة التحقيقات مع 10 منظمات فقط من أصل 85 منظمة.

وظهرت القضية التي عُرفت برقم 173 لسنة 2011، و"قضية منظمات المجتمع المدني"، حين طالب مجلس الوزراء يوم 12 يوليو/تموز 2011 من وزارة العدل تشكيل لجنة تقصي حقائق مختصة بالتمويلات اﻷجنبية التي تتلقاها منظمات مجتمع مدني.

وضمت هذه اللجنة وزارة التخطيط والتعاون الدولي، ووزارة التضامن الاجتماعي، وجهاز اﻷمن الوطني، والمخابرات العامة، ووزارة الخارجية.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2011، اقتحمت الشرطة مقار 17 من منظمات المجتمع المدني العاملة في مصر، واحتجزت عددا من العاملين فيها وصادرت ما بها.

ثم أحالت النيابة 43 من العاملين في تلك المنظمات للمحاكمة في فبراير 2012، وكان من بينهم 27 أجنبيًا، بتهم "تلقي الأموال من الخارج بقصد ارتكاب عمل ضار بمصلحة قومية أو المساس باستقلال البلاد أو وحدتها، وإدارة جمعيات بدون ترخيص".

ومع أن  محكمة جنايات القاهرة قضت في يونيو/حزيران 2014، بسجن 43 موظفا أجنبيا ومصريا من منظمات دولية ما بين سنة وخمس سنوات، فقد تم إعفاء الأجانب من السجن والسماح بسفرهم بعد دفع كفالات رغم أنهم على ذمة القضية.

وأمرت المحكمة حينها أيضا بإغلاق منظمات "المعهد الجمهوري الدولي" و"المعهد الديمقراطي الوطني" و"فريدوم هاوس" و"المركز الدولي للصحفيين" و"مؤسسة كونراد أديناور".

وقد حكمت محكمة جنايات القاهرة، في ديسمبر/كانون أول 2018، ببراءة جميع المتهمين الأجانب، ليظل الحقوقيون المصريون فقط هم المتهمين.

لماذا الآن؟ ما الثمن؟

كان من الواضح أن غلق ملف هذه المنظمات الحقوقية وتبرئتها وأعضاءها بعد 13 عاما من "الاتهام"، له صلة بزيارة الوفد الأوروبي لمصر وتقديمة تمويلا لنظام السيسي، وأن إنهاء هذه القضية كان أحد شروط الصفقة المالية، بجانب أسباب أخرى.

محللون ربطوا بين هذه الخطوة وتحرك الاتحاد الأوروبي لدعم الاقتصاد المصري بمخاوف من عدم استقرار النظام، خاصة بعد تدهور الأوضاع الاقتصادية والمخاوف من ثورة جياع قد تنعكس على فوضى وتزايد الهجرة لأوروبا.

أكدوا أن الأوروبيين تحركوا لإنقاذ نظام السيسي، من جهة، ولتقديم مقابل للخدمة التي يقدمها نظامه لهم مقابل استضافة مصر لاجئين ومنعهم من الهجرة لأوروبا فضلا عن الدور المصري في حصار غزة.

وقد اتهمت صحيفة "الغارديان" 17 مارس/آذار 2024 زعماء الاتحاد الأوروبي بــ "مكافأة القمع" في مصر بصفقة مالية، ووصفت الاتفاق الذي تم التوقيع عليه بأنه "ثمن محاولة أوروبا منع اللاجئين من عبور البحر الأبيض المتوسط".

ونقلت الصحيفة تعليق منظمة هيومن رايتس ووتش أن الاتفاق المتوقع "سيكافئ الزعيم المصري المستبد عبد الفتاح السيسي لمنعه مغادرة المهاجرين نحو أوروبا".

وقالت إنه منذ أن تولى السلطة في انقلاب عام 2013 وأصبح رئيسا في عام 2014، "حكمت حكومات السيسي مصر بقبضة من حديد"، وقمعت المعارضة، وسجنت المنتقدين، وخنقت وسائل الإعلام والمجتمع المدني.

وقالت في بيانها: "الآن تتم مكافأة هذا القمع السحيق بدعم جديد من الاتحاد الأوروبي"!

لكن الدكتور عصام عبد الشافي، أستاذ العلوم السياسية رجح أن تكون دلالات التوقيت لصفقة التمويل الأوروبية لنظام السيسي بجانب اتفاقات بمليارات الدولارات من أوروبا وصندوق النقد وعدد من الأطراف الإقليمية لها علاقة بملف غزة.

أشار إلى "تداعيات أزمة طوفان الأقصى على السياسات الغربية، وحاجة الدول الأوروبية للنظام المصري للقيام بدور وظيفي في إدارة هذه الأزمة".

وأكد عبد الشافي أن هذا "الدور الوظيفي لا يخرج عن تفريغ القضية من جوهرها، من خلال سياسات المشاركة في دعم الحصار والتهجير وإعادة التوطين".

"والنظام في مصر يقوم بهذا الدور بامتياز منذ 7 أكتوبر 2023 وحتى اليوم، ووصل تماهيه مع الملف للدرجة التي أصبح فيها شريكا إستراتيجيا بالمعنى الكامل للمفهوم مع الكيان الصهيوني في كل ما يقوم به من ممارسات"، وفق الخبير المصري.