عزل رئيس مجلس النواب.. كيف يؤثر على السياسة الداخلية والخارجية في أميركا؟

في حادثة غير مسبوقة على مدار تاريخه الممتد منذ 234 سنة، صوت مجلس النواب الأميركي، في 3 أكتوبر/تشرين الأول 2023 على إقالة رئيسه الجمهوري كيفن مكارثي، وعين باتريك ماك هنري، رئيسا مؤقتا للمجلس.
وكان "مكارثي"، قد تجاوز وتجاهل رفض ثمانية من النواب الجمهوريين من زملائه في الحزب، ومرر اتفاقا مع النواب الديمقراطيين في الكونغرس لتجنب إغلاق الحكومة الفدرالية لعدم تمرير الموازنة.
وقال إنه فعل ذلك حتى لا تتوقف مرتبات الموظفين ويتعطل العمل وتغلق المصالح الحكومية. لذا قاد هؤلاء الثمانية من النواب اليمينيين المتطرفين في الكونغرس، عملية تصويت للإطاحة به.
تعاون مع الديمقراطيين
ويعود السبب في ذلك إلى أنه أبرم اتفاق تمويل طارئا للحكومة لمدة 45 يوما، دون اقتطاعات في الإنفاق يطالب بها ذلك الجناح المتطرف من النواب.
وكانت المفارقة أن مكارثي تعاون مع النواب الديمقراطيين، لتمرير الموازنة رغما عن زملائه الجمهوريين.
وذلك ردا على تعاون هؤلاء المتطرفون الثمانية من الحزب الجمهوري مع خصومهم الديمقراطيين أيضا، في عملية الإطاحة برئيس مجلس النواب.
وكان من الممكن أن يساعد الديمقراطيون في مجلس النواب في إبقاء مكارثي في منصبه، لكن بدلا من ذلك، صوت 208 منهم بالإجماع ضده.
وبهذا تسبب الديمقراطيون، إلى جانب الجمهوريين المنشقين الثمانية، في خسارة مكارثي بأغلبية 216 صوتًا مقابل 210 أصوات.
لذا قالت صحف أميركية إن الذين صوتوا ضد مكارثي، كان تحالفا غريبا يضم ثمانية جمهوريين يمينيين متطرفين وجميع الديمقراطيين في مجلس النواب الحاضرين.
ورغم التعاون معه لتمرير حزمة تمويل الحكومة، برر زعيم الديمقراطيين في مجلس النواب "حكيم جيفريز" سبب مشاركة نواب الحزب في التصويت لعزل مكارثي.
وقال إن المعزول يقف مع النواب الجمهوريين المتطرفين المحسوبين على جماعة "ماجا" MAGA (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى) المرتبطة بالرئيس السابق دونالد ترامب.
أيضا من أسباب عداء الديمقراطيين لمكارثي، وتصويتهم ضده، تعاطفه التام مع ترامب، وإعلان مكارثي، في سبتمبر/أيلول 2023 أنه طلب رسميا فتح تحقيق لعزل الرئيس الأميركي، جو بايدن، بسبب صفقات تجارية لابنه.
ويسيطر الجمهوريون على أغلبية مجلس النواب، لكن بأغلبية بسيطة بواقع 221 مقعدا مقابل 212، مما يعني أن فقدان عدد محدود من الأصوات في أي عملية تصويت، سيجعل الديمقراطيين، حال اتحادهم، يتفوقون.
الأثر على الحكم
بإقالة مكارثي تدخل "هيئة حاكمة رئيسة" في البلاد، هي مجلس النواب، حالة من الفوضى، بسبب تركها دون زعيم واضح لتمرير التشريعات، ويصبح ثاني منصب في خط الرئاسة فارغا، بحسب صحيفة "واشنطن بوست" 3 أكتوبر 2023.
فإلى جانب رئاسته لمجلس النواب، يعد مكارثي ثالث شخصية في التسلسل الهرمي للسلطة في الولايات المتحدة، بعد الرئيس جو بايدن ونائبته كامالا هاريس.
إذ يتولى رئيس المجلس إدارة شؤون البلاد في حال عجز الرئيس ونائبته عن ذلك، وفق وكالة الأنباء الفرنسية 2 أكتوبر 2023.
أي أنه لو حدث شيء للرئيس بايدن ونائبته، فلن يجد الأميركان من يحل محلهما بعد عزل رئيس مجلس النواب ليقود البلاد لحين إجراء انتخابات جديدة، أو اتخاذ قرارات مصيرية.
أيضا سيؤدي عزل رئيس مجلس النواب لوقف كل العمل في المجلس لحين انتخاب زعيم جديد، ولن يتمكن الرئيس المؤقت سوى من تسيير أمور بسيطة.
وكان التصويت الأخير بتجنيب الحكومة الأميركية غلق مؤسسات فيدرالية، 30 سبتمبر 2023 بمثابة القشة التي قصمت ظهر "مكارثي"، بحسب وكالة "بلومبيرغ" الأميركية لأنه منح الديمقراطيين متنفسا مهما قبل عام من الانتخابات الرئاسية.
وعشية الأول من أكتوبر 2023، قدم مكارثي مقترحا من 30 ورقة لتجنب غلق الحكومة، ولم يُعط الجمهوريين ولا الديمقراطيين في الكونغرس الفرصة لقراءته وإبداء الملاحظات بشأنه.
المقترح الذي نال موافقة غالبية أعضاء الكونغرس، نص على توفير النفقات المالية لمؤسسات فيدرالية وأخرى كمساعدات لأوكرانيا، لمدة 45 يوما من دخول السنة المالية الجديدة (مطلع أكتوبر 2023)، وخلال هذه الفترة يجري الاتفاق على آلية نهائية لكامل السنة المالية للإنفاق.
وقد أعلن "ستيف سكاليز" ثاني أبرز شخصية جمهورية في المجلس، و"جيم جوردان"، الخصم الأساسي للرئيس الديمقراطي جو بايدن، أنهما سيترشحان لمنصب رئيس المجلس 4 أكتوبر 2023، وقد ينضم لهما آخرون.
وأشارت شبكة "سي إن إن" الأميركية 4 أكتوبر 2023 إلى أن الاقتصاد الأميركي سيتأثر بعزل رئيس مجلس النواب، حيث قد يؤدي إلى خفض آخر للتصنيف الائتماني.
توقعت أن ما يحدث في أروقة السياسة الأميركية لن يمر دون أن يلاحظه أحد من قبل وكالة موديز لخدمات المستثمرين، وهي ضمن ثلاث وكالات تصنيف ائتماني كبرى تمنح ديون الولايات المتحدة أعلى تصنيف ممكن وهو AAA، وسبق أن حذرت من أن إغلاق الحكومة قد يدفعها إلى خفض تصنيف الديون الأميركية.
وفي يوليو/تموز 2023، كاد الخلاف بين الحزبين أن يؤدي إلى تخلف الولايات المتحدة عن سداد ديونها للمرة الأولى منذ تأسيس الدولة قبل 250 عاما تقريبا، كما كادت البلاد أن تغلق بسبب الخلافات حول الموازنة، بحسب سي إن إن.
وسيؤدي خفض تصنيف وكالة موديز لتصنيف أميركا لارتفاع العائدات على سندات الخزانة إلى مستويات أعلى، ومخاطر متزايدة مرتبطة بالاحتفاظ بالديون الأميركية.
تداعيات العزل
يتوقع أن يؤدي عزل مكارثي لتعميق الانقسامات داخل الحزب الجمهوري ما يهدد بجعل مجلس النواب في الكونغرس غير قادر على الحكم، حيث بات يضم أغلبية جمهورية هشة بفارق 8 أصوات، مفتتة.
فالعديد من الجمهوريين الذين صوتوا لصالح عزل مكارثي في 3 أكتوبر 2023 عارضوه أيضًا في محاولته أن يصبح رئيسًا للمجلس في يناير/كانون الثاني 2023، ولم ينجح في الفوز إلا في الجولة الخامسة عشرة من التصويت.
إذ رفضت حينئذ مجموعة مكونة من 20 نائبا جمهوريا متشددا منح مكارثي الأصوات الـ 218 اللازمة لفوزه بالمنصب.
وإثر مفاوضات شاقة، رضخت المجموعة المؤيدة للرئيس السابق دونالد ترامب في النهاية وأصبح مكارثي رئيسا.
وقاد "التمرد" الجمهوري الذي نفذه ثمانية نواب، النائب مات غيتز، وهو من اليمين المتطرف عن ولاية فلوريدا، وخصم لمكارثي كان يتهمه بعدم بذل ما يكفي من جهد لخفض الإنفاق الاتحادي.
وأكدت صحيفة "فايننشيال تايمز" البريطانية 3 أكتوبر أن الإطاحة بمكارثي تسلط الضوء على الانقسامات الحادة في الحزب الجمهوري وتهدد ببدء حقبة جديدة من الخلل التشريعي، لأنه لا يمكن لمجلس النواب إنجاز الأعمال التشريعية إلا بعد انتخاب رئيس للمجلس.
أوضحت أن هذا المأزق يأتي في وقت صعب بالنسبة للكونغرس، لأنه كان مقررا أن ينتهي المجلس من خطة عمل لسد فجوة تمويل الحكومة في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، لكنها ستتعطل، ما سيؤثر على عملها.
وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" 4 أكتوبر إن الدرس الأول المستفاد من الأزمة هو وقوع الجمهوريين في مجلس النواب بحالة من الفوضى.
وأشارت إلى قول "توم كول"، الجمهوري من أوكلاهوما وحليف مكارثي، لزملائه قبل التصويت: "فكروا طويلاً قبل أن تغرقونا في الفوضى، لأن هذا هو المكان الذي نتجه إليه إذا أخلينا منصب رئيس مجلس النواب".
تمويل أوكرانيا
هناك أيضا خلاف بين المشرعين الديمقراطيين والجمهوريين حول ما إذا كانوا سيوافقون على المزيد من المساعدات الأميركية لأوكرانيا أم لا، إذ إن عرقلتها سيكون لصالح روسيا.
فقد ضغط البيت الأبيض ومعظم الديمقراطيين والعديد من الجمهوريين في الكونغرس بشدة من أجل إدراج مساعدات جديدة لأوكرانيا، لكن حلفاء ترامب كانوا يعارضون ذلك.
وقد أعرب مسؤولون أميركيون من بينهم بايدن عن ثقتهم في أن الكونغرس سيواصل تزويد أوكرانيا بـ "مليارات الدولارات" لضمان دعمهم في مواجهة روسيا، حتى مع تصاعد التوترات في واشنطن بين الجمهوريين والديمقراطيين.
وقبل عزله، أجل مكارثي النظر في مساعدات أوكرانيا، ويتعين على المشرعين الآن مراجعة مشروع قانون منفصل يتعلق بـ 24 مليار دولار من المساعدات العسكرية والإنسانية لكييف، أراد بايدن إدراجها في الميزانية الأخيرة، وهناك خلاف بين النواب حولها.
وقالت وكالة "بلومبيرغ" 4 أكتوبر 2023 إن التمويل الأميركي لأوكرانيا يواجه عقبة جديدة في الكونغرس بعد أن أعطت الإطاحة بمكارثي فرصة للمتشددين الجمهوريين لإيقاف الجولة التالية من المساعدات لكييف.
وكان الكونغرس قد استبعد 6 مليارات دولار من المساعدات لكييف في اللحظة الأخيرة، وفقا لوكالة "أسوشيتد برس" 3 أكتوبر 2023.
ونقلت الشبكة عن أحد المحللين السياسيين قوله إن "وقف التمويل لأوكرانيا فجأة أمر كارثي، وسيتركها مكشوفة بعمق في ساحة المعركة وستفقد الولايات المتحدة أيضًا كل مصداقيتها لدى حلفائها في كل مكان".
وأكد الرئيس الأميركي أنه "من مصلحة الولايات المتحدة أن تنتصر أوكرانيا" على روسيا، مبينا أنه "من المهم للغاية بالنسبة لنا ولحلفائنا أن نفي بوعودنا".
مكسب للديمقراطيين؟
وأوضحت صحيفة "نيويورك تايمز" 4 أكتوبر 2023 أنه رغم أن مشهد "الاقتتال الداخلي" بين الجمهوريين داخل مجلس النواب، يقدم بعض المزايا السياسية المحتملة للديمقراطيين، فإنه ينطوي على مخاطر.
قالت: من وجهة نظر الديمقراطيين، كما أكد كارل هولس، كبير مراسلي صحيفة التايمز في واشنطن، فإن "القليل من الفوضى أمر جيد".
وقد ينتهي الأمر بالناخبين إلى إلقاء اللوم على الجمهوريين في الاضطرابات الحالية، فيفيد هذا الديمقراطيين في انتخابات الرئاسة المقبلة 2024.
وشرح تحليل لموقع "بوليتيكو" الأميركي في 4 أكتوبر 2023، كيف يمكن للاقتتال الداخلي أن يقلل فرص الجمهوريين في انتخابات 2024.
أوضح أن التفتت بين الجمهوريين يعرقل دورهم في المجلس، كما أن عدم وجود رئيس نواب لهم معناه أنه لا يوجد من ينسق إستراتيجيتهم ضد البيت الأبيض والرئيس الديمقراطي بايدن.
والأهم أن المناوشات بين النواب الجمهوريين قد تؤثر على فرصهم في الحصول على مقاعد أكثر في مجلس النواب في انتخابات 2024.
لذلك أدان بعض القادة الجمهوريين إقالة مكارثي، وقال نائب الرئيس السابق والمرشح الرئاسي الحالي مايك بنس إن ذلك من شأنه أن يقوض الحزب الجمهوري في عيون الناخبين.
ووصف رئيس مجلس النواب السابق نيوت غينغريتش، النائب "غايتس" الذي أطاح بمكارثي بأنه "مناهض للجمهوريين" وبأنه "مدمر بشكل نشط للحركة المحافظة".
وحث الجمهوريين على التصويت لطرد غايتس من مؤتمر الجمهوريين بمجلس النواب، بحسب صحيفة "الغارديان" 3 أكتوبر 2023.
ومع هذا ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أن "سقوط مكارثي قد يجلب مخاطر للديمقراطيين".
فقد تمكن مكارثي من إبقاء الحكومة مفتوحة ستة أسابيع على الأقل، وتجنبت الإغلاق ما كان سيعرقل عمل إدارة بايدن، كما رفع سقف الدين عبر إيجاد حل وسط مع الديمقراطيين.
وقد لا يتمكن خليفته من فعل ذلك، مما قد يؤدي إلى حدوث اضطرابات اقتصادية وسياسية.
ونقلت الصحيفة عن "لورا بليسينج" من معهد الشؤون الحكومية بجامعة جورج تاون أن الديمقراطيين سيستفيدون من وجود مجلس نواب أكثر فعالية، لأن لديهم (بصفتهم مشرعي الرئيس بايدن) الكثير مما يحتاجون إلى إنجازه.