بين الحقيقة والمبالغة.. هل ما زالت موريتانيا تعيش زمن العبودية؟

زياد المزغني | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

أعادت جملة من التصريحات والأحداث خلال الأيام الماضية، الجدل حول ملف العبودية في موريتانيا، رغم مرور عقود على سن قوانين تجرم الاسترقاق في البلد المغاربي. 

لم تتوقف المحاولات الرسمية للقضاء على العبودية، ولعل أكثر تلك المحاولات جدية هي سن قانون يحرمها عام 1981، وذلك بناء على فتوى أصدرها عدد كبير من العلماء بعد حراك قاده بعض المثقفين من شريحة "العبيد السابقين" في إطار "حركة الحر" التي خاضت نضالا طويلا ضد العبودية في موريتانيا.

وفي يوم 19 أكتوبر/تشرين الأول 2020، جددت الحكومة التزامها أنها لن تحمي أي شخص تورط في ارتكاب جريمة الاسترقاق، مؤكدة أنها ستكون بالمرصاد لكل من يتجرأ على ممارسة هذا النوع من الجرائم، وذلك في تصريحات أدلى بها مفوض حقوق الإنسان والعمل الإنساني والعلاقات مع المجتمع المدني محمد الحسن ولد بوخريص. 

لجوء بسبب العبودية 

إلا أن الجدل تعمق مجددا بشأن العبودية في موريتانيا، بعد أيام قليلة على نقل وسائل إعلام أوروبية قصة سيدة موريتانية قبلت محكمة عليا في ألمانيا طلبها للجوء، بدعوى أنها "تخشى العبودية".

وبعد انتشار القصة، تجدد تساؤل طيف واسع من الحقوقيين الموريتانيين عن مدى قدرة الدولة على إنفاذ القوانين التي أصدرتها ومحاربة هذه الظاهرة "المشينة".

بعد رفض طلبها وتأييد المحكمة الإدارية قرار ترحيل طالبة لجوء موريتانية تنتمي لقبيلة "عبيد" وتخشى الملاحقة هناك، نقضت المحكمة الدستورية القرار في 15 أكتوبر/تشرين الأول، وأيدت دعوى المرأة وقالت إنها مبررة، وأنه "على المحاكم اتخاذ مسألة العبودية بعين الاعتبار".

وعقب رفض طلب لجوئها، أكدت المدعية أمام محكمة غرايفسفالد الإدارية أنه بصفتها امرأة لا تمتلك أوراقا أو تعليما أو أسرة في وطنها، لا يمكنها العيش في موطنها إلا من خلال العمل كعبدة في خدمة المنازل مجددا.

وأضافت أنها تخشى الملاحقة في موريتانيا لأنها كانت ناشطة في منظمة "مبادرة انبعاث الحركة الانعتاقية – IRA" المناهضة للعبودية.

وذكرت المحكمة الدستورية أنه يتضح من المصادر التي تعتمد عليها المدعية "أن أفراد قبائل العبيد سابقا، خاصة النساء، ما زالوا يعانون من الفقر المدقع والتهميش الذي يهدد وجودهم في المجتمع في موريتانيا".

حقيقة صادمة  

يبدو الحديث عن مسألة العبودية، قديما لا يستقيم والواقع الحالي، حيث إنه ينتمي لحقبة تاريخية ذهبت وولت، فصورة لرجال ونساء مطلوب منهم خدمة الآخرين دون أي حق سوى نصيب من الطعام والشراب ومأوى للنوم، يقدم من قبل من يدعون أنهم سادتهم، أصبحت غريبة عن العالم الذي نعيشه هذه الأيام.

وعلى الرغم من ذلك، فهذه الصورة لا تزال موجودة في موريتانيا، رغم أنه تم إلغاء الرق منذ 35 عاما، فلا يزال الناس ضحايا التمييز. 

إذ ترى منظمة العفو الدولية أن عدد الأشخاص الذي يعيشون تحت قيود الرق في موريتانيا عام 2016 بلغ نحو 43 ألف فرد، وهو ما يمثل نسبة 1% من السكان هناك.

وأدانت العفو الدولية في تقرير أصدرته في مارس/آذار 2018 "القمع المتزايد الذي يتعرض له المنظمات والأفراد الذين يجرؤون على إدانة ممارسات الرق والتمييز، وكذلك إنكار الحكومة لوجود هذه المشكلة".

غير أن هذه النسبة ترتفع كثيرا في تقديرات مبادرة "انبعاث الحركة الانعتاقية"، وهي مبادرة غير معترف بها من قبل الدولة. 

ويقدر مؤشر العبودية العالمي لمنظمة هيومن رايتس وتش للعام 2019، أن هناك 90 ألف عبد في موريتانيا، أو 2 % من السكان، بمن فيهم أولئك الذين يتحملون أشكالا "حديثة" من هذه الممارسة، مثل العمل القسري أو السخرة.

هذا الوضع، دفع بعدد من  "العبيد" السابقين  وأبنائهم ممن ينتمون في غالبيتهم إلى عرق "الحراطين"، بالمشاركة في عدد من التنظيمات السياسية المدافعة عن حقوقهم وكذلك المنظمات الحقوقية التي نجحت في تنظيم مجموعات من التحركات.

وكانت حركة "الحر" بزعامة رئيس البرلمان السابق مسعود ولد بلخير، هي الوجه السياسي والحقوقي الأكثر تعبيرا خلال العقود الماضية عن مطالب وطموحات العبيد والعبيد السابقين.

وفي السنوات الأخيرة، تأسست منظمات وهيئات حقوقية وسياسية لذات الغرض، من بينها حركة "إيرا" التي يقودها البرلماني والناشط السياسي بيرام ولد الداه اعبيدي، والذي نجح بالحصول على المركز الثاني في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي شهدتها موريتانيا في شهر ديسمبر/كانون الأول 2019. 

بدوره، أكد الأمين العام لمنظمة "نجدة العبيد" محمد أمبارك أنه "بالفعل وللأسف الشديد توجد في موريتانيا حالات استعباد لمواطنين موريتانيين، وهي عبودية تقليدية قائمة على أساس النسب، حيث يولد الشخص وهو عبد ويتم توارثه ومنحه واستغلاله أبشع استغلال".

و"نجدة العبيد" هي أول وأكبر منظمة مختصة في قضايا وملفات العبودية في موريتانيا، تأسست سنة 1995، وأمضت عشر سنوات دون الحصول على ترخيص، قبل أن تحصل عليه في العام 2005 وهي شريك أساسي للمنظمة الدولية لمكافحة العبودية.

وأضاف أمبارك في حديث لـ"الاستقلال": أن "عدة ملفات لضحايا تتابعها المنظمة، وتحضر كطرف مدني عنهم تم الحكم لصالحهم لكن لم يتم تنفيذ الأحكام رغم مرور عدة سنوات على ذالك، والبعض منهم حكم لصالحهم السنة الماضية ولم يتم التنفيذ حتى اللحظة".

فالحكومات المتعاقبة على السلطة في موريتانيا كلها تزعم القيام بسياسات وبرامج للقضاء على هذه الظاهرة، لكن المشكلة تكمن في أنها لا تتعامل مع الموضوع بالجدية اللازمة والصرامة المطلوبة، وفق أمبارك.

ويرجع ذلك إلى عدة اعتبارات أبرزها إنكار وجود العبودية، وشيطنة المناضلين وتخوينهم بدلا من وضع اليد في أيديهم والعمل سويا للقضاء على الظاهرة بصفة جذرية.

كذالك عدم إشراك المنظمات الجادة والمختصة في الموضوع مثل منظمتنا على الأقل في التصور والمراقبة والمتابعة. يضاف إلى ذالك غياب الإرادة الحقيقية السياسية والقضائية في تطبيق القانون، "فنحن في موريتانيا لدينا ترسانة قانونية جيدة نظريا لكنها غير مطبقة"، بحسب تعبيره.

كثير من المبالغة  

في المقابل يرى عدد  من المراقبين للوضع الموريتاني أن هنالك شيئا كبيرا من المبالغة خلال الحديث عن العبودية في البلد المغاربي.

ويعتقد البعض أن المطلع على تقارير بعض الجهات الحقوقية إن كانت موريتانية أو أجنبية، سيعتقد أن موريتانيا هي بلد الرقيق، وأن أسواق النخاسة لا تزال قائمة في هذا البلد ذي التركيبة السكانية المتنوعة، وأن جزءا من الشعب يخوض حربا ضروسا من أجل "تحرير العبيد".

وإذا كانت موريتانيا آخر دولة في العالم قد سنت قانونا لتجريم الرق فيها في العام 1981، فإن لها تاريخا كبيرا في التصدي لهذه الظاهرة المجتمعية، وفق الشواهد والقوانين.

ووقف بعض العلماء والتنظيمات الإسلامية القديمة في موريتانيا ضد تجارة الرقيق في ضفة نهر السنغال، وكان للإمام ناصر الدين زعيم الإمارة الإسلامية الذي توفي 1674، دور أساسي في مواجهة تجار النخاسة الأوروبيين، كما كان لدولة الأئمة التي أسسها العلماء الزنوج دور أساسي في مواجهة تجارة الرقيق.

ويذكر أن منطقة غرب إفريقيا كانت سوقا كبيرا لتجارة الرقيق، وكانت السنغال التي تحد موريتانيا جنوبا ويفصلها عنها نهر السنغال إحدى أهم منصات شحن العبيد ونقلهم إلى الولايات المتحدة الأميركية.

وفي العام  2003 صدر قانون آخر يحرم استغلال الإنسان، قبل أن تعترف الحكومة الموريتانية في العام 2007 باستمرار وجود العبودية، لتصدر حينها  قانونا جديدا تميز عن سابقيه بتجريم ممارسة الرق لأول مرة، وأقر عقوبات تصل إلى السجن 10 سنوات نافذة، وحظر التلفظ علنا بعبارات مسيئة للأرقاء السابقين.

وفي عام 2015، صدر قانون جديد، وأضيف للدستور تجريم العبودية، واعتبرت في نص الدستور "جريمة ضد الإنسانية" و"لا تسقط بالتقادم".

وبعد سن هذه القوانين، سجلت المحاكم الموريتانية عددا من القضايا، أدين في بعضها المتهمون وحصلوا على عقوبات مشددة. 

ويرى الكاتب والإعلامي الموريتاني عبد الله ولد سيديا أن "العبودية كممارسة لم تعد موجودة في موريتانيا بالفعل وقد تم تجريمها بنص القانون منذ عقود، لكن توجد الآثار الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن عقود من هذه الممارسة المشينة".

وهذه الممارسة ولدت تباينا طبقيا وغبنا في صفوف شريحة الأرقاء السابقين الذين لم يحصلوا على تعليم نافع وكانوا خارج الدورة الاقتصادية، مما أسفر على تسجيل نسب عالية من الفقر والأمية وظروف سيئة للعمل، وفق ما تحدث سيديا لـ"الاستقلال". 

ويضيف: "بالفعل أغفلت الحكومات الموريتانية المتعاقبة التعاطي بجدية مع آثار الاسترقاق ولم تبادر إلى خلق تمييز إيجابي لصالح الطبقات المهمشة والفقيرة من أبناء الأرقاء السابقين".

ويرى أن "الحل يكمن في التنمية المستدامة وتحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع ومحو الفوارق الاجتماعية والاقتصادية عبر التمييز الإيجابي لصالح فئة الأرقاء السابقين ودمجهم في الحياة النشطة والعمل على تمتين الروابط المجتمعية بين مختلف الفئات تحقيقا للعدالة ودولة المواطنة".

كما أن التخبط والعشوائية عنوان السياسات الحكومية في هذا المجال، على الرغم من حديث الحكومات عن إعداد خطط لمكافحة "آثار الرق"، وفق قوله.