في شهر رمضان.. كيف استقبل مثقفو أوروبا القرآن ونبي الإسلام؟

12

طباعة

مشاركة

كان نشر القرآن وإتاحته في الترجمة مشروعا خطيرا في القرن السادس عشر، حيث وقع آنذاك بين عاملين متناقضين؛ الحماسة الدينية للمسيحيين في إيجاد تناقضات في القرآن، وخوف من بعضهم من إدخال نص مقدس غريب على ثقافتهم.

وكان العامل الأخير هو موقف أعضاء مجلس مدينة بازل البروتستانتيين في عام 1542، حيث حكموا بالسجن لفترة وجيزة على شخص يعمل في الطباعة كان يخطط لنشر ترجمة لاتينية للكتاب الإسلامي المقدس.

ولم يمت المشروع فقد تدخل المصلح البروتستانتي مارتن لوثر لإنقاذ مشروع ترجمة القرآن للاتينية، حيث كتب: "لا توجد طريقة أفضل لمحاربة الترك (العثمانيين المسلمين) من فضح أكاذيب محمد ليراها الجميع"، بحسب تعبيره.

أنتج هذا الموقف صدور الطبعة الأولى للقرآن في عام 1543 وصار متاحا للمثقفين الأوروبيين، الذين تناولوه بالدراسة من أجل فهم الإسلام تارة ولمكافحته بشكل أفضل تارة أخرى.

وثمة فرقة ثالثة سلكت بقراءتها للقرآن طريقا ثالثا، حيث استخدموه للتشكيك في العقيدة المسيحية.

عثر اللاهوتي الكاتالوني الكاثوليكي مايكل سيرفيتوس على العديد من الحجج القرآنية وقام بتوظيفها في مساره المناهض للتثليث، وراح يصف النبي محمدا بالمصلح الحقيقي الذي بشر بالعودة إلى التوحيد الخالص الذي أفسده اللاهوتيون المسيحيون من خلال اختراع عقيدة الثالوث الضارة وغير المنطقية.

بعد نشر هذه الأفكار الهرطقية، تم إدانة سيرفيتوس من قبل محاكم التفتيش الكاثوليكية في فيينا، وحُرق أخيرا مع كتبه الخاصة في ساحة من ساحات جنيف. 

عصر التنوير

خلال عصر التنوير الأوروبي، قدم كثير من المؤلفين محمدا (صلى الله عليه وسلم) على نفس المنوال، كشخصية بطولية مناهضة لرجال الدين. ورأى البعض أن الإسلام هو شكل نقي من التوحيد يقارب أفكار الربوبيين من الفلاسفة، والقرآن على أنه نص تمجيدي للخالق.

وفي عام 1734، نشر جورج سيل George Sale ترجمة إنجليزية جديدة. في مقدمته، تتبع التاريخ المبكر للإسلام وجعل النبي كمصلح مثالي ومبدع ومضاد للكهنوت، عمل على نفي المعتقدات والممارسات "الخرافية" للمسيحيين الأوائل - عبادة القديسين والآثار المقدسة - وألغى سلطة وقوة رجال الدين الفاسدين والجشعين.

تمت قراءة ترجمة سيل George Sale للقرآن على نطاق واسع وتقديرها في إنجلترا: بالنسبة للعديد من قرائه، أصبح محمد (صلى الله عليه وسلم) رمزا مناصرا للجمهورية ومعاديا للكهنوت ورجال الدين، وامتدت هذه الفكرة لتصبح مؤثرة خارج إنجلترا أيضا.

اشترى الأب المؤسس للولايات المتحدة توماس جيفرسون نسخة من بائع كتب في ويليامسبورغ، فيرجينيا، عام 1765، مما ساعده على تصور إله فلسفي تجاوز الحدود الطائفية. (نسخة جيفرسون ، الموجودة الآن في مكتبة الكونغرس، وقد تم استخدامها لأداء اليمين أمام ممثلي المسلمين في الكونغرس، بدءا من كيث إليسون في عام 2007).

وفي ألمانيا، قرأ رومان يوهان فولفجانج فون جوته ترجمة لنسخة سيل، وكانت هذه القراءة مساعدة في تلوين مفهومه المتطور عن محمد كشاعر ملهم ونبي نموذجي.

وفي فرنسا، استشهد فولتير أيضا بترجمة سيل بإعجاب، في مقال له عن عادات وروح الأمم (1756)، وصور محمد كمصلح ملهم ألغى الممارسات الخرافية وقضى على قوة رجال الدين الفاسدين.

بحلول نهاية القرن، قدم المؤرخ إدوارد جيبون الإنجليزي (والذي كان قارئا نهما لكل من سيل وفولتير) النبي بعبارات متوهجة في تاريخ تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية (1776-1797).

لقد كانت عقيدة محمد خالية من الشك أو الغموض، والقرآن شهادة مجيدة لوحدة الله. رفض نبي مكة عبادة الأصنام والرجال، كما رفض عبادة النجوم والكواكب، على أساس عقلاني أن كل آفل لا يستحق العبادة، وكل ما عدا خالق الكون آفل.

ولذلك توجه حماسه العقلاني وعشقه لوجود كائن لا نهائي وأبدي، بدون شكل أو مكان، دون تعدد أو شبيه، حاضر في أفكارنا الخفية، الموجودة بضرورة طبيعته الخاصة، يستمد من نفسه كل شيء، خاصة الكمال الأخلاقي والفكري. قد يعتقد مؤمن فلسفي بالعقيدة الشعبية للمحمديين، ويجد فيها عقيدة سامية للغاية، وصالحة لجامعاتنا.

نابليون والرسول

ونجد ذروة الإعجاب الأوروبي بالنبي العربي متمثلا في نابليون بونابرت الذي كان معتقدا بفرادته ومعجبا به كل الإعجاب، حتى أطلق على نفسه اسم "محمد الجديد" بعد قراءة الترجمة الفرنسية للقرآن التي أنتجها كلود إتيان سافاري عام 1783.

كتب سافاري ترجمته في مصر، هناك، محاطا بموسيقى اللغة العربية، وسعى إلى مقاربة جمال النص العربي ونقله إلى الفرنسية. ومثل سيل افتتح سافاري ترجمته بمقدمة طويلة يقدم محمد كرجل "رائع" و"استثنائي" و"عبقري" في ساحة المعركة، رجل يعرف كيف يصنع الولاء ويجمع قلوب أتباعه عليه. 

قرأ نابليون هذه الترجمة على متن السفينة التي نقلته إلى مصر عام 1798، وأصبح متأثرا بالصورة التي رسمها سافاري للنبي كقائد عام ومشرع حكيم.

وسعى نابليون إلى أن يصبح محمدا جديدا، وأعرب عن أمله في أن يقبله علماء القاهرة مع جنوده الفرنسيين كأصدقاء للإسلام، جاؤوا لتحرير المصريين من ما أسماه "الطغيان العثماني". ولفرط حماسته، ادعى أن وصوله إلى مصر قد ذُكر في القرآن.

كان لدى نابليون رؤية مثالية، وكتابية، وتنويرية للإسلام كتوحيد خالص، "في الواقع، يعود فشل بعثته المصرية جزئيا إلى فكرته عن أن الإسلام يختلف تماما عن دين علماء القاهرة".

وعلى أية حال، لم يكن نابليون وحده من صور نفسه على أنه محمد جديد؛ فقد أعلن فون جوته بحماس أن الإمبراطور كان "Mahomet der Welt '' (محمد العالم)، وصوره المؤلف الفرنسي فيكتور هوغو على أنه "Mahomet d'occident" (محمد الغرب).

ونابليون نفسه، في نهاية حياته، في منفاه في سانت هيلانة، كتب عن محمد ودافع عن إرثه كـ "رجل عظيم غيّر مجرى التاريخ". 

تصور لم يستمر 

استمرت فكرة محمد كواحد من أعظم المشرعين في العالم حتى القرن العشرين.

وصور أدولف وينمان، النحات الأميركي محمدا (صلى الله عليه وسلم) في إفريزه (شريط زخرفي بارز يُشكل حسب صورة هندسية معينة) عام 1935 في الغرفة الرئيسية للمحكمة العليا الأميركية، حيث يأخذ النبي مكانه بين 18 مشرعا.

دعا العديد من المسيحيين الأوروبيين كنائسهم إلى الاعتراف بدور محمد الخاص كنبي للمسلمين.

بالنسبة للمستشرقين الكاثوليك مثل لويس ماسينيون أو هانز كونغ، أو بالنسبة للباحث الأسكتلندي البروتستانتي ويليام مونتغمري وات، كان هذا الاعتراف هو أفضل طريقة لتعزيز الحوار السلمي البناء بين المسيحيين والمسلمين.

يستمر هذا النوع من الحوار اليوم، ولكن تم حجبه بالضجيج الصاخب الذي يعزز عقلية الصراع، حيث يشوه السياسيون اليمينيون المتطرفون في أوروبا وأماكن أخرى محمدا (صلى الله عليه وسلم) لتبرير السياسات المعادية للمسلمين.