معركة كورونا في تونس.. كيف رفعت من شأن سياسيين وهوت بآخرين؟

زياد المزغني | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بعد أيام قليلة من منحها الثقة في 27 فبراير/شباط 2020، دخلت حكومة إلياس الفخفاخ في اختبار صعب مع تسجيل أول حالات الإصابة بجائحة فيروس كورونا في تونس 2 مارس /آذار 2020.

انتهجت الحكومة سياسة "الحجر الصحي العام" بمنع حركة الطيران وإيقاف جميع الأنشطة غير الأساسية، مع منع خروج المواطنين من البيوت إلا للضرورة القصوى، وهو ما أدى حسب خبراء إلى محاصرة الجائحة ومنع انتشارها بشكل واسع، ما أدى إلى عدم تجاوز الإصابات حاجز الـ1000، تعافى منهم 316، وتوفي 41.

هذه النتائج أعادت الثقة نسبيا للتونسيين في الطبقة الحاكمة عموما، بعد أشهر من صراع سياسي شهدته البلاد على خلفية تشكيل حكومة جديدة بعد انتخابات 2019.

قبل أزمة كورونا وتحديدا في استطلاع رأي شهر فبراير/شباط 2020، كانت نسبة التشاؤم تجاه أداء الحكومة في حدود 55 %، وبعدها بشهرين، انخفضت هذه النسبة بـ21 نقطة وأصبح 55 % من التونسيين يعتقدون أن البلاد تسير في الطريق الصحيح.

آخر استطلاعات في أبريل/نيسان 2020، أظهرت بروز اسم وزير الصحة عبد اللطيف المكي، ورئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، رفقة رئيس الجمهورية قيس سعيد، حيث جاؤوا في صدارة مؤشر الثقة الكبرى بالشخصيات السياسية في تونس.

هذه النتائج الجديدة فتحت الباب أمام الحديث لسيناريوهات جديدة وتوقعات مستقبلية في تغيير الخارطة السياسية في تونس، وصعود أسماء لم يكن لها مركز متقدم في الانتخابات الأخيرة.

تغيير في المشهد

لازال الرئيس قيس سعيد متصدرا لقائمة الشخصيات السياسية، التي حصلت على أعلى درجات منسوب ثقة في آخر استطلاع رأي أجرته مؤسسة "سيغما كونساي" (خاصة) ونشرته جريدة المغرب (خاصة)، في 21 أبريل/نيسان 2020، بنسبة 61 في المائة مع تأخره بـ6 نقاط عن المؤشر السابق.

هذه الأرقام جاءت مقاربة لأرقام أخرى نشرتها مؤسسة "أمرود كونسلتينغ"، رغم الانتقادات الكبيرة التي ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي بسبب الأداء التواصلي للرئيس، وظهوره في أكثر من مناسبة في مواقف تتعارض مع التزام مؤسسات الدولة والمواطنين بإجراءات الوقاية من فيروس كورونا. 

إلا أن المفاجئ هو الصعود السريع لوزير الصحة عبد اللطيف المكي، عضو مجلس شورى حركة النهضة، والذي بعد أسابيع قليلة من توليه الوزارة بالتزامن مع جائحة كورونا، حصل على 51 % من نسبة ثقة التونسيين، يليه رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ، الذي حصل على 41 %. 

هذه النتائج أظهرت ولأول مرة منذ انتخابات الرئاسة في أكتوبر/تشرين الثاني 2019 منافسة جدية لقيس سعيد الذي فاز بأكثر من 72 % من أصوات الناخبين.

في المقابل خسرت شخصيات عامة نقاطا هامة في هذا المؤشر، بينهم وزير الإصلاح الإداري ومكافحة الفساد، الأمين العام لحزب التيار الديمقراطي محمد عبو الذي خسر 11 نقطة مثله مثل المرشح الرئاسي السابق الصافي سعيد، فيما خسر رئيس الحزب الجمهوري السابق أحمد نجيب الشابي 9 نقاط، والبرلمانية القيادية في التيار الديمقراطي سامية عبو 8 نقاط، والبرلمانية رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي 7 نقاط.

لم ترفع كورونا من شعبية بعض الشخصيات العامة، فمثلا لا يرغب حوالي 72 % أن يلعب راشد الغنوشي  رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة، دورا سياسيا هاما في المستقبل.

كذلك الأمين العام لحزب العمال (شيوعي) حمة الهمامي ورئيس الحكومة الأسبق والقيادي في حركة النهضة علي العريض ورئيس حزب قلب تونس نبيل القروي ورئيس الحكومة السابق ورئيس حزب تحيا تونس يوسف الشاهد، وكذلك رئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي.

صعود سريع

تولّي عبد اللطيف المكي وزارة الصحة لم يكن بالأمر السهل أو السلس، خاصة بعد ما شهده تشكيل الحكومة من صعوبات كثيرة، بداية بفشل حكومة الحبيب الجملي في حيازة ثقة البرلمان، وصولا إلى التعثّر الذي شهده تشكيل الحكومة بعد تكليف إلياس الفخفاخ برئاستها.

كما أن وصول المكي إلى سدة الوزارة، سبقه خلاف حاد بينه وبين الغنوشي على خلفية تشكيل القوائم الانتخابية الخاصة بحركة النهضة في الانتخابات التشريعية.

انتخابات النهضة الداخلية في يونيو/حزيران 2019، أفرزت قوائم انتخبتها قواعد الحركة ورشحتها بشكل مُرتّب لخوض غمار الانتخابات التشريعية، لكن المكتب التنفيذي للحركة قلب كل المعادلات ومكّن شخصيات أسقطتها القواعد من رئاسة عدد من القوائم، كما نقل أسماء من دائرة إلى أخرى، وأسقط أسماء تم انتخابها على رأس القوائم، سلوك أحدث زلزالا داخل الحركة ونتج عنه استقالات وموجة استنكار واسعة.

من مخلفات القوائم التي أفرزها المكتب التنفيذي للحركة، رسالة وجهها القيادي في الحركة عبد اللطيف المكي إلى رئيس الحركة راشد الغنوشي، وجه ضمنها انتقادات لاذعة للغنوشي واتهامات يمكن اعتبارها سابقة في سلوك قيادات النهضة في إدارة خلافاتهم الداخلية. 

2020 ينتظر عقد النهضة مؤتمرها الحادي عشر، لاختيار قيادة جديدة للحركة، والقانون الأساسي يمنع الغنوشي من الترشح للمنصب مرة أخرى.

المكي حمل لقب "الجنرال" لدى أنصار حزبه وكثير من التونسيين، وهذا اللقب لا يعود لوجود خلفية عسكرية للطبيب البالغ من العمر 58 عاما، إنما لقيادته "الجيش الأبيض" من أطباء وطواقم صحية خلال معركة كورونا.

مع بداية الأزمة ظهر المكي في مؤتمر صحفي بعد يومين فقط من تسلمه حقيبة وزارة الصحة العمومية لإعلان ظهور أول حالة إصابة مؤكدة بالفيروس في تونس، تلاها ظهور شبه يومي في أكثر من مرة لتوجيه التونسيين وتفسير الإجراءات المتخذة.

ربما كانت تجربة الرجل في إدارة هذه الحقيبة الوزارية عام 2012 في حكومة "الترويكا" ومعرفته الدقيقة بمختلف ملفاتها وخفاياها سبب كل هذه الثقة والاتزان اللتين ظهر عليهما.

لاحقا صار خطاب وزير الصحة الأكثر هدوءا وطمأنة لعموم التونسيين الحائرين المتسائلين حول هذا الفيروس وحول حقيقة الإصابات في البلاد.

الكاتب والمحلل السياسي بولبابة سالم يرى أن "صعود أسهم عبد اللطيف المكي في استطلاعات الرأي كان منتظرا، بالنظر إلى قيمة الرجل كقيادي من الصف الأول داخل حركة النهضة والمنافس القوي للغنوشي على زعامة الحركة خاصة أنه يحمل رؤية مختلفة في التعامل مع المنظومة القديمة ولوبيات الفساد، مع مزيد تونسة الحزب وتطوير البعد الاجتماعي فيه".

وأضاف سالم في حديث للاستقلال: "نجح المكي حتى الآن في كسب ثقة التونسيين على رأس وزارة الصحة بخروجه الإعلامي المقنع ودفاعه عن رؤيته وتحقيقه نتائج جيدة في مكافحة فيروس كورونا ما جعل حتى فرنسا تسعى الاقتداء بالتجربة التونسية".

القادم من بعيد

منذ استقالة حكومة علي العريض في يناير/كانون الثاني 2014، غادر إلياس الفخفاخ موقعه في وزارة المالية، والذي تولاه بعد تحالف حزبه "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات"، الذي كان يقوده رئيس المجلس الوطني التأسيسي مصطفى بن جعفر.

لم ينجح الحزب في حصد أي مقعد في انتخابات 2014، وكذلك في انتخابات  2019، كما أن مرشح الحزب إلياس الفخفاخ لم يحصل سوى على 0.4 % من أصوات التونسيين في انتخابات الرئاسة.

إلا أن الخلافات التي نشبت بين الأحزاب الفائزة في الانتخابات، ومنعت تشكيل الحكومة لمدة زادت على 3 أشهر، سمحت لرئيس الجمهورية بأن يختار الفخفاخ بين جملة من المترشحين الذين قدمتهم الأحزاب والكتل النيابية.

لكن أداء الفخفاخ خلال هذه الفترة أقنع جزءا كبيرا من التونسيين، خاصة من خلال قدرته على توضيح قرارات الحكومة وتبليغها بشكل سهل للتونسيين، بالإضافة إلى الإجراءات الاجتماعية التي حاولت الحكومة من خلالها تطويق الأزمة الاقتصادية الناتجة عن قرار الحجر الصحي العام وحظر التجول.

وهو ما أكده المحلل السياسي بولبابة سالم في حديث للاستقلال قائلا: "ارتفعت أسهم الفخفاخ، لأن أداءه التواصلي جيد وهو سياسي معروف كما لفت انتباه التونسيين في تبنيه للبعد الاجتماعي للدولة التي تنسجم مع توجهات حزبه الليبرالي الاجتماعي، حيث برز مدافعا عن الفئات الضعيفة والفقراء واتخذ إجراءات لصالحهم فترة الحجر الصحي".

مازال قيس سعيد يحتل صدارة هذا المؤشر بـ59 %، عندما يجيب المستطلع آراءهم عمن يرغبون في لعب دور هام في المستقبل، يليه الفخفاخ وعبد اللطيف المكي بـ51 % لكل منهما.

يرى البعض أن هذه المعطيات الأولية قد تغذي تنافسا محتملا بين رأسي السلطة التنفيذية (سعيد والفخفاخ) في وقت قريب، أو قد تغري رئيس الحكومة في اتجاه إنشاء تنظيم سياسي جديد على غرار ما فعله رؤساء حكومات سابقين، مثل المهدي جمعة الذي أسس "البديل التونسي"، ويوسف الشاهد الذي أسس "تحيا تونس" على أنقاض "نداء تونس"، بعد خلافه مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي ونجله حافظ.