جولة بن سلمان في آسيا.. السعودية تولي وجهها نحو المشرق

منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

منذ مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي، في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حاول ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إذابة الجليد والغضب العالمي، تجاه نظام حكمه المشوب بقصص مأساوية ومروعة في مجال حقوق الإنسان، وإزالة آثار قضية خاشقجي.

لكنّ الغضب الغربي، وتحفظ قادة الدول الأوروبية على لقاء بن سلمان، دفعه إلى التوجّه شرقاً، وتولية وجهه شطر الدول الآسيوية القريبة، فقام بجولة لثلاث عواصم، شملت باكستان والهند والصين.

عزلة بن سلمان

في 30 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، خلال افتتاح قمة الـ20 للدول الصناعية الكبرى بالعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، كان مشهد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مثيرا للجدل. إذ وقف في ركن بعيد لصف من قادة وزعماء العالم، الذين رفض غالبيتهم مصافحته والتحدث معه، بسبب حرج موقفه بعد جريمة مقتل خاشقجي، والانتهاكات الحقوقية في المملكة.

بن سلمان كان أول المغادرين، في موقف غير معتاد لممثل واحدة من أهم الدول المحورية في الشرق الأوسط، لا سيما بعد الحوار الحازم الذي دار بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما قال له الأخير بحسب ما كشفه قصر الإليزيه: "أنا أشعر بالقلق، أنت لا تصغي إلي إطلاقا"، قبل أن يجيبه ولي العهد: "لا تقلق، سأصغي إليك طبعا، كل شيء سيكون على ما يرام".

الحديث الذي دار بين ماكرون وولي العهد السعودي

قبلها بأيام، خلال مؤتمر "دافوس الصحراء" بالعاصمة السعودية الرياض في 23 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، على شرف محمد بن سلمان، الذي جهّز له تجهيزات غير مسبوقة، وسعى أن يكون حملة ترويجية ضخمة لذاته كـ"أمير شاب مجدّد"، يحمل لواء التغيير والنهضة داخل المملكة، عرف المؤتمر مقاطعة أممية كبيرة من معظم زعماء العالم المدعوين، ما مثّل صدمة له، وقال: "إنه بات يعرف صديقه من عدوه".

إلى باكستان بحقيبة مليارية

في 17 فبراير/ شباط 2019، انطلق سرب طائرات مقاتلة من طراز "JF-17 Thunder" ليستقبل دخول طائرة ولي العهد السعودي الأجواء الجوية الباكستانية؛ معلنا ترحيبه بالوافد الملكي، في مطار عسكري في روالبندي القريبة من العاصمة إسلام أباد.

ووقف رئيس الوزراء عمران خان، وقائد الجيش قمر جاويد، مستقبلين ولي العهد السعودي بحفاوة غير مسبوقة، في أجواء احتفالية باذخة عقدتها الدولة الفقيرة التي تعاني من أوضاع اقتصادية متدهورة.

مظاهر استقبال محمد بن سلمان في باكستان

فور نزول ولي العهد السعودي إلى الأراضي الباكستانية،  أطلقت المدافع العسكرية 21 طلقة، وبسطت له سجادة حمراء، وحرص رئيس الوزراء عمران خان بنفسه على قيادة السيارة إلى مقر الإقامة الرسمي.

أما الرئيس الباكستاني عارف علوي، فقد منح ولي العهد السعودي في اليوم الأخير من الزيارة، وسام "نيشان باكستان" وهو أرفع وسام مدني بالبلاد.

في المقابل أعلن محمد بن سلمان أن المملكة عقدت اتفاقيات استثمار مع باكستان بمبلغ قياسي بلغ 20 مليار دولار، ثم صرّح: "أنه ضخم بالنسبة للمرحلة الأولى، وسيزيد بالتأكيد كل شهر وكل سنة وسيفيد كلا البلدين".

وتمثّل باكستان أهمية بالغة للسعودية، وتمتد العلاقات العسكرية والاقتصادية بين البلدين إلى عقود سابقة، مع وجود اعتبارات أمنية، فإذا تعرضت السعودية لخطر، فإن القوة العسكرية الباكستانية ستكون حاضرة، وهي القوة النووية المسلمة الوحيدة، وواحدة من أقوى الجيوش في العالم.

كذلك في ظل سابقة تاريخية عندما اقتحمت جماعة جهيمان العتيبي الحرم المكي عام 1979، كانت القوات الباكستانية في طليعة القوات التي تولت القضاء على هذه المجموعة.

ولكن العلاقة أيضا لم تستمر على هذا المنوال، ففي 10 أبريل/نيسان 2015، صوّت البرلمان الباكستاني لصالح عدم الانضمام للتحالف العسكري الذي تخوضه السعودية في اليمن، المعروف بـ"عاصفة الحزم".

جانب من جلسة البرلمان الباكستاني لرفض المشاركة في عاصفة الحزم

وتحتاج باكستان إلى الأموال السعودية، في ظل اقتصاد متدهور وعدم امتلاك البنك المركزي إلا لـ8 مليارات دولار، فضلا عن عجز في ميزانية المدفوعات.

وعززت الرياض دعم إسلام آباد خلال هذه الزيارة بعدد من الاتفاقيات في قطاعات النفط، والطاقة المتجددة والمعادن، وشملت مصفاة "أرامكو" في ميناء جوادر الباكستاني.

وتعد السعودية هي المصدر الرئيسي لتحويلات الباكستانيين في الخارج من العملة الصعبة؛ والتي تقدر بنحو 4.5 مليار دولار سنويا.

وكذلك يعد ملف العلاقات الباكستانية الإيرانية المتميزة، من الاعتبارات الشائكة، التي تؤرق السعودية، فإسلام آباد تعتبر أن طهران من حلفائها، ولكن الساسة الباكستانيين وصناع القرار، ومنهم رئيس الوزراء عمران خان، يعطون دائما الأولوية للسعودية، ولا يصطدمون بإيران.

ما وراء زيارة بن سلمان إلى الهند

من باكستان إلى الهند، حرص ولي العهد السعودي على زيارة الجارة النووية في 19 فبراير/شباط المنقضي، إذ استقبل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي في المطار محمد بن سلمان، الذي يرغب في إقناع الهند، أسرع الاقتصادات الكبيرة نموا، باستهلاك المزيد من النفط السعودي. مع اختلاف السياقات والدلالات عن زيارته الباكستانية؛ فالهند من أقوى الاقتصادات في العالم، وتمتلك قوة عسكرية فائقة.

وتعتبر الهند أحد الأسواق الاقتصادية الهامة للسعودية، في مجالات النفط والطاقة المتجددة، ومن المقرر أن تعمل زيارة ولي العهد على تعزيز تلك المجالات وتنميتها، وإمكانية زيادة تزويد الهند باحتياجاته من النفط، حيث تستورد الهند 20% من نفط المملكة، كما أن 32% من احتياجات نيودلهي من غاز البترول المسال يأتيها من الرياض.

ورغم حفاوة الاستقبال، إلا أن ذلك لم يمنع متظاهرين هنود من الخروج بمظاهرات حاشدة في العاصمة نيودلهي، رافعين صورا لولي العهد السعودي ويداه ملطختان بالدماء مع عبارات تنديد بسياساته، وجريمة قتل الصحفي جمال خاشقجي و جرائم حرب اليمن.

وندد المشاركون في الاحتجاجات بسوء تعامل السلطات السعودية مع العمالة الهندية الموجودة في مدن المملكة المختلفة. وكانت وسائل إعلام هندية قد أبرزت خلال الأشهر الأخيرة صعوبة الأوضاع المعيشية لأعداد كبيرة من العاملين الهنود في السعودية، ولا سيما من يتعرضون لأذى مستمر ويواجهون تهما وأحكاما بالسجن على خلفية قضايا تتعلق أساسا بقوانين الإقامة.

فيديو مظاهرات بالهند تندد بزيارة محمد بن سلمان

ويحاول محمد بن سلمان أن يلعب دورا يتجاوز أبعاد الزيارة والتعاون مع الهند، إلى دور إقليمي ودولي بسبب الصراع الدائر بين الجارتين النوويتين، خاصة وأن الزيارة جاءت وسط توترات بينهما بسبب هجوم انتحاري في إقليم كشمير الحدودي أسفر عن مقتل العشرات من عناصر الأمن الهندية. والذي تبناه تنظيم "جيش محمد" المتمركز في باكستان، ما أثار دعوات في الهند إلى الرد بشكل حاسم.

رسائل الصدمة من أمام سور الصين العظيم

قال الكاتب الأمريكي والتر راسل، في صحيفة "وول ستريت جورنال"، تعليقا على زيارة محمد بن سلمان إلى الصين وتجاهله لمأساة مسلمي الأويغور: "قد يكون الله عظيما بالنسبة لمحمد بن سلمان، لكن الرئيس الصيني شي جين بينغ أعظم أو على الأقل أكثر فائدة بالنسبة له".

وفي 21 نوفمبر/ تشرين الثاني، وصل ولي العهد السعودي إلى الصين، وكان في استقباله  نائب رئيس المجلس الاستشاري والسياسي في جمهورية الصين الشعبية خي لي فونغ، وبعدها التقى الرئيس الصيني شي جينبينغ.

واحتفت وسائل الإعلام السعودية بتلك الزيارة، والتزمت بكين الحياد، فيما يتعلق بالعلاقات المتوترة بين الرياض وعدة أطراف دولية خاصة طهران، وغضّت الطرف عن الانتهاكات الحقوقية لولي العهد السعودي، وجريمة مقتل الصحفي جمال خاشقجي. وعززت العلاقات الاقتصادية والثقافية على وقع عقد عدد من الاتفاقيات والمبادرات.

واتفق البلدان على البدء في وضع خطة لإدراج اللغة الصينية كمقرر دراسي على جميع المراحل التعليمية في المدارس والجامعات السعودية، لأول مرة في تاريخ المملكة، وفقاً لوكالة الأنباء السعودية.

وقررت شركة "أرامكو" السعودية للنفط عقد صفقة بقيمة 10 مليارات دولار في مشروع  بناء مجمع تكرير وبتروكيماويات في بانجين، بمقاطعة لياونينغ، وكذلك وقعت المملكة 35 اتفاقية تعاون اقتصادي مع بكين بقيمة 28 مليار دولار.

يذكر أن المملكة العربية السعودية، ليست فقط ثاني أكبر مصدر للنفط نحو الصين، وإنما هي أيضا سوق ضخمة للأسلحة الصينية ومشاريع البناء والاتصالات، وفي السنة الماضية 2018، بلغت قيمة المبادلات التجارية بين الدولتين 63.3 مليار دولار.

بن سلمان يتخطى أعناق الأويغور

شهدت مجموعات الأويغور العرقية المسلمة المضطهدة في الصين مآسي مروّعة خلال الفترة السابقة، وسط استغاثات للعالم الإسلامي والدولي بإنقاذهم من توحش السلطات الصينية، وكان يحدوها الأمل في أن يذكرهم ولي العهد السعودي؛ لإنهاء محنتهم مع القيادة في بكين، للاعتبارات الرمزية والدينية للمملكة.

وكالمستجير من الرمضاء بالنار، فوجئت الأقليات المسلمة، بإعلان بن سلمان عن تأييده لـ"حملة التطهير الديني" في منطقة شينغيانغ، المتمتعة بالحكم الذاتي شمال غرب الصين، حيث يتم هناك احتجاز أكثر من مليون مواطن صيني مسلم، معظمهم في "معسكرات إعادة التثقيف" أشبه بالمعسكرات النازية التي عقدت إبان اندلاع الحرب العالمية الثانية.

وجرى الإبلاغ بشكل مستمر عن حالات الضرب والاغتصاب الجماعي، والقتل المنظم ضد المعتقلين، وقال ولي العهد السعودي: إن "الصين لديها الحق في القيام بأعمال مكافحة الإرهاب من أجل أمنها القومي"، وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ لبن سلمان: "إن بكين والرياض يجب أن يعملا معا؛ لمنع تسلل وانتشار الفكر المتطرف".

مقطع مصور عن معاناة أقلية الأويغور

وجاء في تقرير نشرته مجلة "نيوزويك" الأمريكية عن موقف ولي العهد السعودي، مفاده "بدلا من أن يستخدم زيارته الحالية إلى الصين لمحاولة الضغط لتحسين ظروف نحو مليون من المسلمين الأويغور المحتجزين داخل معسكرات اعتقال وحشية في إقليم شينجيانغ (تركستان الشرقية، فوجئ الجميع بمحمد بن سلمان يبرر الممارسات الصينية، ويعتبرها حقا أصيلا لبكين من أجل الدفاع عن أمنها القومي ضد الإرهاب".

تذبذب الأمير.. وترقب الغرب

وجاء في مقال نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" عن الجولة الآسيوية الأخيرة لولي العهد السعودي، ليؤكد على "أن الاستنتاج الذي لا مفر منه هو أن بن سلمان مستعد، ليس فقط لشطب الأويغور ومعاناتهم من قاموسه، وإنما لشطب الولايات المتحدة نفسها لو اضطر إلى ذلك في سبيل تحقيق مصالحه الشخصية.

وقالت صحيفة "إندبندنت" البريطانية إن محمد بن سلمان خلال زيارته إلى الشرق يبحث عن حلفاء جدد، في الوقت الذي تتصاعد فيه الاتهامات عن ضلوعه بمقتل الكاتب السعودي جمال خاشقجي.

ويبدو أن النظام السعودي أراد أن يبعث رسائله إلى العالم الغربي بأن "لدينا أصدقاء آخرون حول العالم"، في ظل قلق مستمر من تداعيات حادثة خاشقجي التي باتت تؤرق قصر الحكم في الرياض.