التكنوقراط.. كيف فقدت الملكية في المغرب ثقتها بالأحزاب؟

12

طباعة

مشاركة

مع بداية أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وبعد مخاض عسير دام شهرين، أُعلن في المغرب عن حكومة جديدة يقودها سعد الدين العثماني، بعد تعديل وزاري قلص عدد حقائبها من 39 إلى 24.

التعديل جاء بأمر من الملك محمد السادس، الذي تحدث في خطاب بمناسبة الذكرى العشرين لجلوسه على العرش في أغسطس/آب عن جلب الكفاءات بهدف "تجديد مناصب المسؤولية".

التركيبة الحكومية الجديدة حصل فيها التكنوقراط على حصة الأسد (8 حقائب). وقال الكاتب الصحفي المتخصص في العلوم السياسية، إسماعيل حمودي: إن "التعديل يعكس تراتبية القوى الأساسية، وربما يراد به تعزيز ميزان القوى الجديد وتقويته لفترة ما بعد انتخابات 2021".

التكنوقراط في المغرب

في السابع من ديسمبر/ كانون الأول عام 1956 شكل ملك المغرب الأسبق محمد الخامس، أول حكومة بعد استقلال المغرب، برئاسة البكاي بن مبارك لهبيل، وهو عسكري مغربي دافع عن العرش خلال فترة الاستعمار وساند الملك في منفاه بمدغشقر.

كافأ الملك حينها البكاي، وهو رجل سياسة مستقل، لم ينتم لأي حزب سياسي، فأعطاه شرف تأسيس حكومة الاستقلال، التي قادها لمرتين متالييتن، وختم بتجربته نجاح الاستعانة برجال الدولة ممن يحملون كفاءات علمية وبعيدين عن صراعات الأحزاب السياسية.

كان البكاي أول رجل سياسة تكنوقراط في المغرب، فجاء بعده العشرات من النخب الذين تقلدوا مناصب عليا في البلاد، وأشرفوا على أكبر مؤسسات الدولة تنظيما وحساسية. هذه النخبة هي مجموعة من الأغنياء وأبنائهم الذين درسوا في فرنسا خلال فترة الاستعمار فعادوا إلى الوطن برصيد معرفي كبير ولسان تمرس على الحديث باللغات الأجنبية.

وضمت هذه النخبة على الأغلب رجال الأعمال، والمهندسين، وأكبر المقاولين، الذي يتوفرون على رأسمال معرفي اجتماعي وسياسي واقتصادي، راكموا تجربة في الوظيفة العمومية أو أكبر المؤسسات الخاصة داخل المغرب أو خارجه، خصوصا فرنسا، بالإضافة إلى ولائهم التام للقصر الملكي، حيث يلقبون بـ"ولاد المخزن" أي أبناء السلطة.

ستار الديمقراطية

بعد تربع الملك السابق الحسن الثاني على العرش خلفا لوالده، استعان برجال السياسة المستقلين، لكن هذه المرة تحت مسمى "التكنوقراط"، عقابا لأحزاب الحركة الوطنية التي ضمت نخبا سياسية كانت على صراع دائم مع النظام الملكي، حينها قرر الملك استبعادها من تدبير الشأن السياسي وتقليص دور الأحزاب التي تنتمي إليها.

فضل الحسن الثاني أن تكون حكومات عهده الأولى ترتكز بالأساس على التكنوقراط، فأوكل لهم أهم الوزارات في الحكومة، كوزارة الداخلية التي لم يحمل حقيبتها أي حزب سياسي نظرا لحساسيتها والدور الذي لعبته في عهد الحسن الثاني في تسيير البلاد، وأيضا وزارة الخارجية، بالإضافة إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي ضلت حكرا على التكنوقراط إلى يومنا هذا.

مع توالي الحكومات في المغرب، وتعاقب الملوك الثلاثة منذ فترة ما بعد الاستقلال إلى اليوم، لم تخل الحكومات المغربية من التكنوقراطيين، الذين يتميزون بقربهم من السلطة العليا التي تُسير الدولة، وبمؤهلاتهم العلمية العالية وكفاءاتهم الأكاديمية الاستثنائية، كل هذه معايير تجعلهم الأسهل لمسايرة اختيار الدولة في برنامجها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

لم يستسغ الحسن الثاني "اتهامه" بتشكيل حكومات غير ديموقراطية، تتشكل من نخب سياسية لا تنتمي لأي أحزاب، فقرر إطلاق فكرة إنشاء أحزاب جديدة ضم لها أكبر الكفاءات في البلاد حتى تحتمي بمظلة سياسية ويكون الاختيار ديمقراطيا، حينها أوكل الملك لصهره أحمد عصمان تشكيل أول حزب سياسي ضم أكبر الكفاءات في البلاد، هو حزب "التجمع الوطني للأحرار".

عبد الإله السطي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس في الرباط، يقول: إن ملوك المغرب استعانوا بخدمات التكنوقراط لتدبير الشأن العام بالمغرب، وهو خيار إستراتيجي اتبعته المملكة، لسد الفراغ المؤسساتي الذي كانت تعاني منه المؤسسات الدستورية جراء الصراع السياسي الذي كان قائما آنذاك بين المؤسسة الملكية وأحزاب الحركة الوطنية المعارضة. 

ونفى السطي في تصريح لصحيفة "الاستقلال": أن يكون اختيار التكنوقراط حلا ترقيعيا لجأت له السلطة، إذ اعتبره: خيارا منهجيا لتوطيد ثوابت الحكم والسلطة السياسية الملكية، في خضم ظروف سياسية واجتماعية تخللها صراع سياسي حول الحكم بالمغرب. ليتحول فيما بعد إلى أسلوب ملكي في تدبير الشأن العام من داخل الحكومة، وأيضا لترجيح موازين القوى داخل المؤسسة الحكومية.

على خطى السلف

استمرت ظاهرة التكنوقراط إلى عهد الملك الحالي، محمد السادس، فمنذ توليه الحكم اختار أن يستعين بكفاءات البلاد لتسيير الحكومات في عهده، خصوصا أول حكومة، التي عرفت إدماج المعارضين وقادها عبدالرحمان اليوسفي تحت مسمى حكومة التوافق.

بعد موجة الربيع العربي التي وصل صداها إلى المغرب، استقبل الملك محمد السادس، أول حكومة قادها الإسلاميون لأول مرة في تارخ المغرب. بعد الانتخابات التشريعية أوكل الملك إلى الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية"، عبدالإله بنكيران، مهمة تشكيل الحكومة التي تضمنت وزراء من أربعة أحزاب بالإضافة إلى 3 وزراء تكنوقراط، وهما الأمانة العامة للحكومة والوزارة المنتدبة لإدارة الدفاع الوطني ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.

لأول مرة أُولكت وزراتا الداخلية والخارجية إلى أحزاب سياسية منتخبة، وذلك بعد احتكارهما من طرف القصر لسنوات. بعدها تم رفع عدد التكنوقراط إلى 8 وزارات في حكومة بنكيران الثانية، مقابل 7 حقائب وزارية في حكومة العثماني الأولى.

في 30 يوليو/ تموز الماضي، طالب الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني بإعادة تشكيل الحكومة بالاعتماد على كفاءات.

حجزت حكومة العثماني المقلصة 8 مقاعد لوزراء تكنوقراط، الأمر الذي أعاد الجدل حول استعانة الدولة بـ"الكفاءات" وابتعادها عن الأحزاب السياسية التي اختارتها صناديق الاقتراع بشكل ديمقراطي.

أستاذ العلوم السياسية رأى أن: الاعتماد على التكنوقراط هو تنفيذ للخطاب الملكي، الذي كان حاسما في هذه النقطة، بل وكان الدافع نحو الإقدام على تعديل حكومي شامل، وبالتالي فإن النسخة الجديدة للحكومة هي ترجمة لتوجيهات ملكية رأت بأن الهيكلة الحكومية السابقة، تغيب عنها الفعالية والنجاعة في تنفيذ البرامج والمشاريع التنموية الكبرى.

ضد الدستور؟

لكن هل حصول التكنوقراط على أكبر عدد من الحقائب في التعديل الحكومي الأخير، قرار ديمقراطي؟

السطي قال في تصريحه للصحيفة: إن "وضع مسألة تعيين التكنوقراط مقابل حضور الديمقراطية أو غيابها لا يستقيم، لسبب بسيط هو أن اللجوء إلى كفاءات لتحمل حقائب وزارية من دون أن يكون لها غطاء حزبي أمر معمول به داخل أعرق الديمقراطيات".

وتابع: "ليس بالإمكان أن تتوفر جميع الأحزاب السياسية الفائزة بالانتخابات على جميع الكفاءات المطلوبة لتدبير الشأن العام، لكن الإشكال هنا هو: هل اللجوء لتوظيف كفاءات تكنوقراطية داخل حكومة السيد سعد الدين العثماني كان نابعا عن خيار وقناعة، أم هو نابع عن توجيه من خارج المؤسسة الحكومية؟".

واستطرد المتحدث: أن الاستعانة بالتكنوقراط لغياب الكفاءات في الأحزاب السياسية هو صلب النقاش الذي يجب أن يطرح داخل الأحزاب السياسية، فلماذا في كل نسخة حكومية يتم اللجوء إلى كفاءات من خارج تنظيماتها المؤسساتية؟ هل الأحزاب المغربية لم تعد قادرة على فرز نخب قادرة على خلق الفارق في تدبير الشأن العام؟

الجواب، بحسب السطي: نجده في تلقص دور الأحزاب في عملية التأطير والتعبئة، إذ كانت تلهم الأفكار والنقاشات السياسية الواعية بشأن هموم وانشغالات المواطنين، النخب للانخراط في المشاريع الحزبية، وهو ما أفرز لنا في سنوات سابقة كفاءات حزبية متمكنة من أدوات تدبير الشأن العام والسهر على احتواء مطالب وإرادة المواطنين. 

وردا على توقع الكاتب الصحفي إسماعيل الحمودي، بأن المغرب يقبل على حكومة تكنوقراط في انتخابات 2021، قال أستاذ العلوم السياسية: إنه مخالف للدستور المغربي الذي يعتبر واضحا في هذا الباب، "فتعيين رئيس الحكومة يكون من الحزب الفائز بأعلى نسبة من المقاعد الانتخابية، ومن صلاحيات هذا الأخير اقتراح أعضاء حكومته، وبالتالي مسألة حكومة تكنوقراط لا تستقيم مع روح الدستور ومضمونه".

وأضاف المتحدث: أنه من المرجح أو من المفروض أن يتم التركيز من طرف الأحزاب الفائزة على اقتراح نخب وكفاءات ربما يتم العمل من اللحظة على استقطابها وضمان انخراطها بمشاريعها الحزبية.