الريع.. مأكولٌ ومذمومٌ

أحمد اليعربي | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

من المعضلات الكبيرة المتعلقة بإشكالات الإصلاح في دول الخليج العربي هو تغول الريع في بناء هذه الدول، وطغيانه على كافة أوجه الحياة فيها، بدءً من الحياة السياسية التي تفيض من جوانبها سلطة واحدة، وظيفتها الأساسية الإشراف على عملية استخراج وبيع الثروات الطبيعية، والنفط أولها، ومن ثم توزيع الريع المتحصل من بيع هذه الثروات الطبيعية كيفما شاءت إدارتها، ويتم ذلك عن طريق نظم مؤسسية غير متطورة، تحتاج إلى الكثير من الإصلاح لضمان عملها على أسس ثابتة، وسياسات طويلة الأمد مستقلة عن شخوص القائمين عليها، وغير قابلة للتعطيل والتعديل الجوهري إلا إذا وجد تبريرا مفهوماً له من داخل سياساتها الخاصة فقط.

مروراً بتعطيل فكرة المواطنة، التي تغيب لصالح فكرة الأتباع والرعايا، المنتظرين عطياتهم ونصيبهم من الريع، وفي ذلك ما فيه من تعطيل ملكة الإبداع والإنتاج والمبادرة والجرأة، بل وحتى التدجين، والاستئلاف، وغياب فكرة المجتمع المحتج الذي ينبغي أن يكونه بعكس ما هو شائع في المناخات السياسية الأكثر اعتدالاً ونضجاً، وشيوع ثقافة المطالبة المحضة الكسولة التي لا ترتبط بالمسؤولية، أي وجود المواطن كوحدة مسؤولة ومشاركة ومنتجة تساهم بشكل معلوم في بناء واستمرار الدولة، وهذا الأمر ينسحب كذلك على الاقتصاد الذي يعتمد أساساً على واردات النفط والصناعات والأسواق المرتبطة بها، وما سوى ذلك هي أنشطة أقرب إلى أن تكون هامشية.

بل حتى إن الاستثمارات الخاصة، يلاحظ أنها استثمارات لا تتسم بالجرأة والمبادرة، هي أقرب إلى أن تكون استثمارات جبانة، تركز على كُلِ مجرَّبٍ قتل تجريباً، مضمونٌ ربحه وإن قلّ، ولم تستطع خلال العقود الماضية من صنع حالة عامة من الجسارة الاقتصادية التي تخوض في الصناعات الإنتاجية الكبيرة والدقيقة بما في ذلك الصناعات المرتبطة بتقنية المعلومات، وحالة الاستثمارات الخاصة هذه مفهومة جداً لا سيما وأن القائمين عليها هم أبرز منتجات الريع وأكثرهم حظوة.

عادة ما يفتح ملف الإصلاح عن طريق دوائر الإصلاح الشعبية، التي هي نخبوية في معظمها، تنجح أحياناً ولا تنجح أحايين أخرى في لفت انتباه الشعب، ممثلاً في الإنسان العادي، إلى أهمية الخطاب الذي تقدمه، وضرورة الإصلاح، لا سيما في الحالات التي يتضح فيها للإنسان العادي ارتباط هذه الأفكار بهمه اليومي، وأنها ليست أفكارا تَرَفِيّة. إلا أن هذا النوع من الإصلاح تقوم أمامه صعوبات ضخمة، ذلك أنه بحكم موقعه يجد نفسه يعمل على أكثر من جبهة، ويفتقر إلى القوة أو بالأحرى إلى الأدوات السياسية التي تمكنه من العمل وتقديم أجنداته الإصلاحية بصورة طبيعية، وهو بذلك إصلاح عصي.

على أن ثمة نوع آخر من محاولات الإصلاح، تأتي هذه المرة من داخل الأنظمة نفسها، وتركز بشكل عام على الجانب الاقتصادي، وهذ الأمر يمكن فهمه على أنه متطلب براجماتي صرف، ذلك أنه وعلى مدار العقود المنصرمة تمدد رجال الحكم في السوق، وأصبحت لهم وظيفة مزدوجة، وهذه الممارسة الاقتصادية التي يمارسها رجال الحكم شكّلت حالة من إدراك الصعوبات التي يفرزها نظام الريع وبيرقراطية مؤسساته أمام السوق، وبالتالي استشعار الحاجة الملحة لمعالجة هذا الأمر، ولإدراك السلطة أن أي محاولة إصلاح جوهرية تستلزم بالضرورة أن تكون عامة وتشمل كافة الجوانب، وهذا الأمر فيه تهديد للسلطة من منطقها الضيق، ولذلك تلجأ السلطة إلى حلول جزئية لم تثبت كفاءتها، وهذا الأمر يجعلنا نبسط المسألة، ونطرح السؤال بكل بساطة: "هل بإمكان الدول الريعية إصلاح نفسها؟". 

قدم الباحث الياباني ماكيو يامادا بحثاً بعنوان "حول صعوبة التطور المؤسسي في الدول الريعية" ضمن ملف "سياسة الدول الريعية في الخليج" التابع لمشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط الصادر في يناير 2019، وطرح فيه السؤال الذي تمت الإشارة إليه في آخر الفقرة السابقة، وهذا السؤال تابع للحالة الملاحظة من الاهتمام المتزايد بمسائل الحوكمة، ومحاولة إخراجها من مجرد مرئيات ونظريات عامة إلى وضعها في صورة خطط وسياسات وبرامج مدروسة تبين اتجاهات التغيير المطلوب إحداثها خلال جداول زمنية أشارت إليها هذه الخطط.

والهدف منها أساساً الارتقاء بجودة وفاعلية مؤسسات الدولة وإصلاحها، وبالطبع فإن التركيز على مبادئ الحوكمة هو إقرار ضمني بافتقار هذه المؤسسات لهذه المباديء في ممارساتها، وبالتالي المساهمة بشكل جوهري في حالة "الركود الاقتصادي"؛ وذلك بسبب استشراء مشاكل مؤسسية مثل الفساد، فغالباً ما "تميل هذه المؤسسات إلى الإبقاء على حالة عدم الكفاءة وقلة الجدارة، فهذه الحالة أدعى أن تواصل في ظلها شبكات المحسوبية الموروثة والمستنسخة تعزيز السلوكيات الريعية وعدم إعطاء الأولوية اللازمة للجهات أو اللاعبين المنتجين".

وفي ظل هذا الوضع، ورغبة في الالتفاف على هذا الإشكال دون معالجة، قامت كثير من الدول الريعية والدول النامية بخلق ما يسمى بـ"الجيوب الإنتاجية" أو "جزر الكفاءة"، وهي بكل بساطة مناطق إنتاجية/صناعية مستقلة، تعمل وفق لوائح وأنظمة ومؤسسات خاصة بها فقط، وذلك بالتوازي مع المؤسسات القائمة في الدولة دون الحاجة إلى تفكيكها، بل وتكون "في العادة معزولة ومحمية من بقية المؤسسات الوطنية بموجب قرار سياسي قوي لتحقيق نمو بشكل فعلي وفوري"، والمثال الأبرز هو في المناطق الصناعية/الاقتصادية الحرة المنتشرة في كثير من هذه الدول.

تفيد دراسة ماكو يامادا بأن المراهنة على هذه الحلول الجزئية هي مراهنة خاسرة، ذلك أن ما سيحدث أن اللاعبين والمستفيدين من الأوضاع في الضفة التي تقبع فيها المؤسسات البيروقراطية غير المتطورة ستمدد بشكل طبيعي بحكم عقليتها المرتبطة بفكرة الريع صوب هذه المناطق الصناعية/الإنتاجية المعزولة، إذ أنها تشكّل عامل جذب بالنسبة لهم، وستنجح في هذه العملية من خلال عمل تحالفات جديدة لهذا الغرض، وبالتالي، فإن الذي سيحدث وجود مؤسسات موازية فاشلة هي الأخرى وغير متطورة، أو على الأقل غير قادرة على تحقيق الأهداف التي انشأت من أجلها أساساً.

والحل الفعلي بحكم تعريفه لا بد وأن يكون حلاً شاملاً، أي برنامجا إصلاحيا موسعا يشمل المؤسسات القائمة فعلا، ويعالج المشكلة من جذورها. 

وفي هذا السبيل يدعو الباحث إلى اختبار التجربة التاريخية للدول في الغرب وشرق آسيا بالإضافة إلى  المناطق الأخرى التي استطاعت تجاوز هذه المعضلة، ذلك أن اختبار هذه التجارب يقودنا إلى فهم أعمق للعملية، التي لا تقتصر فقط على تطبيق نظام حوكمة يحقق عنصر المساءلة فقط من خلال التشريعات المختلفة، إذ أن المسألة أعمق بكثير، وما حصل تاريخياً أن الجماعات المستفيدة من الريع بشكل مباشر والمتربعة على السلطة بدأت تشكّل نوعاً من الإدراك أن نظام الريع يتطور بطريقة تضر بمصالحهم على المدى البعيد.

وأن نتيجته فيما لو استمر بما هو عليه ستكون بطردهم من المعادلة، وانتهاء تاريخهم الخاص، فنظام الريع نظام يفترض جماعة خاملة تنتظر عطيات وريعا من السلطة المتحكمة فيه، فهذه الجماعة هي عبء بشكل فعلي، وهذا بالمناسبة ليس حكماً أخلاقيا، وأن أي اختلال في تدفق هذا الريع سيؤدي بلا شك إلى عواقب غير حميدة على السلطة، ذلك وبكل بساطة لأن الريع هو الأساس الذي تقوم عليه هذه السلطة ومصدر شرعيتها، بل أن أي اختلال في نظام الريع سيكون بدافعية، ولنتذكر جميعا صيحة "لا ضرائب بدون تمثيل".

التجربة التاريخية تفيد أن تغيير الأنماط المعرفية للاعبين الرئيسيين في تثبيت نظام الريع أدى إلى خلق إمكانية إنشاء مساحة للتحالف الإصلاحي في تقديمه لأجندات الحوكمة بطريقة أكثر استقلالية وتأثيراً، وأدت تدريجياً إلى التخلي عن النظرة قصيرة المدى إلى أخرى طويلة المدى وتضمن عدم خروجهم من المعادلة، "وتحقيقهم مكاسب أكبر من فطيرة اقتصادية أكبر مترتبة من تطوير قدرات الدولة"، وتغيير نمط العلاقة بحيث تكون الدولة من "مكان لتقاسم الريع إلى مكان لتشارك الألم".

إن المفارقة القائمة لدى السلطة في الأنظمة الريعية المتمثلة في التمسك بنظام الريع باعتباره أساس شرعيتها من جهة، ورغبتها في تجاوز سيئاته وبيرقراطية مؤسساته وتعطيله لتطور الاقتصاد من جهة أخرى، ومن ثم محاولة إيجاد حلول تلفيقة غير فاعلة، تذكرنا "بالعومة"، والعومة هذه نوعية من أنواع الأسماك، لذيذ طعمها سيئة رائحتها، ولذلك قال عنها المثل الشعبي "العومة، مأكولةٌ ومذمومة".

الكلمات المفتاحية