لحظات الحقيقة بوصفها انتصارات مصغرة

أحمد اليعربي | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في عام 1978 قام الكاتب المسرحي والمناضل الثوري ورئيس تشيكوسلفاكيا سابقاً، فاتسلاف هافل، بنشر كتاب "قوة المستضعفين" (نشرت الترجمة العربية عام 2012، العربي للنشر والتوزيع، ت:خالد البلتاجي). ولد هافل في براغ عام 1936، وقد كان معارضاً للنظام الشيوعي القائم وقتئذ، وقد حالت معارضته هذه دون حصوله على القبول في أي من كليات العلوم الإنسانية، مما دفعه إلى الالتحاق بأحد المسارح، وترقى فيه، فمن سكرتير للمسرح إلى محاضر وكاتب مسرحي منذ عام 1968.

وفي فترة ربيع براغ (يناير-أغسطس 1968) كان هافل من الشخصيات المعارضة للنظام الشيوعي والمؤيد للجناح اللييبرالي، وقام في سبيل التعبير عن هذه المعارضة بالانضمام إلى تحركات أدبية وسياسية معادية للنظام الشيوعي، وأصبح في ذات العام رئيساً لرابطة الكتاب المستقلين، وكما وقع على مذكرة تناهض الاحتلال الروسي، ولذلك اعتبرت أعماله جميعها محظورة في فترة الاحتلال الروسي، ووجهت إليه عدد من التهم، تم على إثرها اعتقاله لمدة خمس سنوات من 1979 إلى 1983.

وفي سجنه قام بكتابة كتابه الشهير "رسائل إلى أولجا" الذي صدر في عام 1983، وفي عام 1989 ولدى تصاعد المد الثوري ضد النظام الشيوعي، عمل هافل متحدثاً رسميا عن المعارضة التي عرفت وقتئذ بـ"المنتدى الأدبي"، الذي ساهم في إجبار الحكم الشيوعي على اقتسام السلطة مع المعارضه، وانتخب رئيساً لجمهورية تشيكوسولوفاكيا عام 1989 بعد انهيار الشيوعية، وتم انتخابه مرة أخرى بعد تقسيم تشيكوسلفاكيا رئيساً لجمهورية التشيك عام 1993، ثم أعيد انتخابه عام 1998. وفي عام 2003 تقاعد هافل عن العمل السياسي، وتوفي  في الخامس عشر من ديسمبر 2011.

كتاب "قوة المستضعفين" هو عمل تحليلي يكشف من خلاله الكاتب عن الحركة الذاتية لهياكل الديكتاتورية وبالأخص الديكتاتورية التي أطلق عليها "ديكتاتورية ما بعد الشمولية"، وهي تسمية غير موفقة، ويمكن الاستعاضة عنها بـ"ديكتاتورية ما بعد الكلاسيكية"، وكيف أن فكرة المعارضة تقف على النقيض من حيث إن الحركة الذاتية لهياكل المعارضة –التي شاع وصفها في الإعلام الغربي بالمنشقين- تتجه بالضد من تلك التي للديكتاتورية.

يقول هافل، إن المعنى المتضمن في مصطلح الديكتاتورية الكلاسيكية يتمثل في وجود فرد/مجموعة من الأفراد يستولون بالقوة على حكم الأغلبية في بلد ما، أي أن سلطتها تستند فقط وبشكل كامل على القوة، وهي بذلك منفصلة اجتماعياً عن الأغلبية المحكومة، وهذا التصور يفترض أن نظاماً هذا شأنه، إنما هو نظام مؤقت وسريع الزوال، ومرتبط بذات الشخص/الأشخاص المتغلبين، وجوداً وعدما، وأن الخطر الأكبر عليها يتمثل في وجود متغلب آخر أكثر عدةً وعددا، يستطيع بما عنده استبدالها والجلوس على عرشها.   

على أن الديكتاتورية التي كانت في تشيكوسلوفاكيا ليست كلاسيكية، ذلك أن بها سمات تجعلها أكثر تعقيداً، يأتي أولها أنها ليست وحدة مفردةً، بل أنها جزء من منظومة أكبر، إحدى قطبا القوة في العالم، وهو المعسكر السوفيتي، فهي في حدود النطاق الداخلي لهذا المعسكر تتمتع بشبكة أدوات مناورة حول مركز القوة، وأما خارجياً فتتمتع باستقرار نتيجة لفكرة توازن القوى النووية في العالم بين القطبين.

ومن المميزات الأخرى، أن هذه الديكتاتورية تستند إلى مرجعية تاريخية تتمثل في أدبيات الحركة العمالية والاجتماعية في القرن التاسع عشر، وذلك على الرغم من الإقرار بحالة الاغتراب التي كان يعيشها النظام الديكتاتوري حيال هذه الأدبيات، وأهمية هذه المرجعية التاريخية هو في أنها تعطي النظام "فهماً جيدا" لتناقضات المجتمع. وينبني على هذا الفهم الجيد سمة أخرى، وهي أن النظام يستغل هذا الفهم الجيد لامتلاك أيدلوجية واضحة، وتكتسب طبيعة الدين العلماني، التي تضمن تقديم إجابة شافية لكل سؤال، وهو الأمر الذي يقدم ترياقاً مسكناً للقلق الوجودي الذي يعيشه العالم؛ "فيكفي أن تقبل بالإجابة ويصبح كل شيء واضحاً مرة أخرى، يصير للحياة معنى، وتختفي الأسرار والوحدة والقلق"، على أن ثمن هذا المسكّن هو تنازل الفرد عن عقله وضميره ومسؤوليته، على اعتبار أن تسليم العقل والضمير لهذا النظام الديكتاتوري هو جزء من هذا الأيدولوجيا.

وخطورة هذا الأمر أنه تماهي مركز القوة مع مركز الحقيقة، تماماً كحكم الكهنوت. ومن السمات التي تختلف بها هذه الديكتاتورية عن تلك الكلاسيكية تتعلق بتوظيف القوة، فتوظيفها للقوة ليس عشوائياً أو إرتجالياً، بل أن النظام و"نظراً لوجوده الطويل في كنف الإتحاد السوفيتي شكّل آليات قوية ومتقنة للمناورة المباشرة وغير المباشرة مع المجتمع بأكمله".

إن الأيدلوجيا القائمة على المرجعية التاريخية في هذا النوع من الدكتاتوريات عبارة عن وهم وكذب مجمع عليه من السلطة والأفراد، وقبول جمعي مصطنع للعيش بها ومعها، فيستطيع الفرد من خلال هذا الوهم التصور بأنه شخص كريم وصالح وطبيعي، أما النظام فتمنحه هذه الأيدلوجيا شرعية فعالة لوجودة ولأفعاله، بالإضافة إلى أنها ضمانة لتماسكه.

وتكون الأيدلوجيا ضمانة لتماسك السلطة داخلياً من حيث أنها تضمن استمراريتها، فمسألة الخلافة في النظم الديكتاتورية الكلاسيكية تكون دائما مسألة غير مستقرة وتحبل دائماً بتهديد للديكتاتورية ككيان، ذلك أن المرشحين لا يملكون أساساً لشرعيتهم ويكونون عرضة للتنازع، على أن هذا الأمر يغيب في الدكتاتوريات ما بعد الكلاسيكية، فعلى الرغم من الصراع على السلطة يتخذ أشكالاً أكثر عنفاً، إلا أن هذا الصراع لا يهدد جوهر النظام واستمراريته.

يملأ وهم/كذبة الأيدلوجيا الفجوة الحاصلة بين نوايا النظام الديكتاتوري ومقاصد حياة الأفراد، بزعم أن هذه النوايا تنطلق تماماً من احتياجات الناس، وما يحدث هو أنه باسم الطبقة العاملة يتم استعباد الطبقة العاملة، وإذلال الإنسان يفسر بأنه تحرير كامل له، أما حجب المعلومات فهو تداول المعلومات، والتلاعب بالقوة هو التحكم العام بالقوة، أما التعسف في استعمالها فهو حفظ للنظام العام، وقمع الثقافة هو تنمية للثقافة، أما الفرد فلا يطلب منه تصديق كل هذا الكذب والوهم، ولكن يجب عليه أن يتصرف على أنه يصدقها وأن يتعامل بصورة مقبولة مع من يتبعها.

ومن الأمثلة الجميلة التي أوردها هافل وتوضح هذه الفكرة، هو مثال بائع الخضار الذي يضع في دكانه لوحة مكتوب عليها "يا عمال العالم اتحدوا"، ويتساءل هافل، هل تراه يفهم فعلاً ما تعني هذه العبارة؟ هل تراه يدعو إلى ما تدعو إليه فعلا؟ هل يكترث بها؟ وماذا عن السيدة العجوز التي جاءت لتبتاع بعضاً من الخضروات، هل لاحظت العبارة؟ هل اكترثت بها؟ هل تعني لها شيئاً على الإطلاق؟ يقول هافل أن هذا الفعل أهميته في رمزيته في كونه دليلاً للبراءة وإعلاناً مستمراً على الموافقة مع البقية على الوهم/الكذبة.

ويدعونا هافل للتفكر في مثال بائع الخضار مرة أخرى، فماذا لو قرر الرجل أن يطرح لوحة "يا عمال العالم اتحدوا" أرضاً، سنجد أن النظام سيتحرك ضده مباشرة، بل إن الأفراد الآخرين سيقومون هم بأنفسهم بمعاقبته ومقاطعته باعتباره فرداً مارقاً رغبة في إثبات ولائهم للنظام، في نوع من الحركة الذاتية، وخطورة ما قام به بائع الخضار يكمن في رمزيته، في مخالفته لقواعد اللعبة، في كشفه للوهم، لفضّه الإجماع على الكذب، هذا الفعل البسيط دلالته تعري النظام وتفضحه، لأنه "أعلن أن الملك أصبح عارياً، ولأن الملك عارٍ فعلا، يكون الفعل غاية في الخطورة" بالنسبة للسلطة. 

ما يجب إدراكه هو أن خلف الواقع المغلف بالوهم والكذب ثمة واقع آخر خفي أو موازي ممتلئ بحاجات الفرد الحقيقية، وإدارك هذا الأمر أهم ما يكون بالنسبة للمعارضة، ذلك أن مناط عملها الحقيقي، وفعلها المعارض يجب أن يكون أساساً في هذا الجانب الخفي/الموازي، فالمواجهة الحقيقة لا على مستوى السلطة الواقعية الآنية، ولا تكون بقوة السلاح، بل تتخذ مكاناً في الوعي المجتمعي، والحاجة الدفينة للحياة، وفي الرغبات المكبوتة للإنسان، وفي الكرامة الإنسانية وتحقيق الحقوق الأساسية السياسية والاجتماعية الحقيقية. 

وبذلك فهي لا تستند على القوة والجنود بل تستند على ما يسمى "جنود الأعداء"، "أي على كل من يعيش في الخداع، والمعرّض للإصابة بقوة الحقيقة في أية لحظة"، يصور هافل هذا الأمر كنوع من الأسلحة البيلوجية التي يواجه بها مدني واحد سلاح فرقة عسكرية بأكملها. فهي ليست صراعا مباشرا على السلطة، "بل تعمل في مجال سلطة الوجود الإنساني الذي من الممكن أن يتبلور في شيء مرئي لا يمكن التنبؤ بزمانه أو بحجمه، ويمكن أن تتبلور في عمل سياسي حقيقي أو حدث أو حركة اجتماعية، أو انفجار غضب شعبي مفاجئ، أو في تغيير المناخ الاجتماعي أو النفسي".

وخلاصة فعل المعارضة الذي يريد الكاتب أن يوضحه، أن أي فعل إبداعي أصيل هو، بحكم تعريفه، فعل مضاد للكذب والوهم -مادة الأيدلوجيا الأساسية التي تحفظ للنظام الديكتاتوري تماسكه- ويعمل بشكل معاكس للحركة الذاتية لهياكل الديكتاتورية، وبصورة أكثر وضوحاً فـ"إن كل عمل جيد هو بالضرورة نقد غير مباشر للسياسة الفاسدة"، وكل "عمل جيد" هو لحظة من لحظات الحقيقة، وكل لحظة حقيقة هي انتصار مصغر، يغذي الجانب الخفي/الموازي من المجتمع المقموع. وهذه الانتصارات المصغرة قمينة بتشكيل حالة، وخلق حركة تنقض هياكل الديكتاتورية، والعمل الجيد هو لوحة الرسام، وأغنية المطرب، وكلمات الكاتب والشاعر، والتزام المدرس والعامل، وإبداع المخترع، هو الانتصار للحق، وقول لا للخطأ، هو الحلم والطموح، وهذا الأمر يصدق على كل الديكتاتوريات الحديثة، إذ أن عصر الديكتاتوريات الكلاسيكية ولّى وانقضى، و"الأيدلوجيا في كل مكان".

وهذا الفهم يقودنا إلى نقض فكرة الاستعداد للديمقراطية، فهي من الأفكار التي لا أوان لها، وإن انتظرتها حتى يأتي أوانها فهي لن تأتِ، ذلك أنها ليست سوى مخاض يقوم به شعب واعٍ لدوره التاريخي، ومستعد لتحمل مسؤوليتها، ومن القصص التي تتقاطع مع هذه المسألة ما قاله الناشر العربي لكتاب "قوة المستضعفين"، من أن صديق فاستلاف هافل ومترجمه إلى الإنجليزية بول ويلسون، قام بعرض فكرة ترجمة الكتاب إلى العربية قبل وفاته بفترة قليلة، فأجاب هافل: "هل تعتقد أن العرب مستعدون للديمقراطية؟" فرد عليه بول قائلاً: "وهل كنتم أنتم مستعدون لها عندما قمتم بثورتكم عام 1989؟ فأجاب هافل: "فهمت ما تعنيه".