بين أمريكا والعالم.. الواقع الأمني وتهديد المصالح

أيمن خالد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

ما يجري في المنطقة العربية والشرق الأوسط تحديدا لا يخرج عن دائرة المتوقع ضمن القراءات الطبيعية لجملة المتغيرات التي يشهدها العالم، والكتابة بالتسلسل الطبيعي للأحداث تفتح الآفاق للتأصيل التاريخي، إذ ترتبط الحوادث التاريخية بعضها بالبعض الآخر، ما يفسر إلى حد كبير صحة مقولة الناقد الإيطالي الأشهر "بندتوكروتشه" وهي تقرر أن "التاريخ كله تاريخ معاصر". 

في رسالة وجهها الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور في 5 يناير 1957 إلى الكونجرس، بشأن الوضع في الشرق الأوسط، أوضح فيها أنه بمقدور أي بلد أن يطلب المساعدة الاقتصادية الأمريكية أو العون من القوات المسلحة الأمريكية إذا ما تعرضت للتهديد من دولة أخرى.

الرسالة كانت بمضمونها تمثل عرضا للدول العربية أكثر من غيرها، وقد خص أيزنهاور بالذكر، في مبدئه، التهديد السوفيتي والشيوعية، خشية ملء الفراغ الاستعماري في المنطقة العربية وبعض المناطق الهشة في العالم بدلاً من إنجلترا وفرنسا المتراجعتين.

يبدو أن العقلية الأمريكية ما زالت تدور حول فكرة ملء الفراغ أو بالأدق خلق الأجواء العالمية وتهيئتها لاستدامة فكرة أن العالم تتخلله مجموعة من الفراغات الإستراتيجية واجبة الملء والتغطية، ما يمنح الاندفاع الامبراطوري الأمريكي للاتساع عالميا أكثر فأكثر . 

لم يعد الاتحاد السوفيتي على قيد الحياة، ولم يعد التهديد الشيوعي ذا وزن يذكر، لكن بقي التهديد نفسه ولغة الخطاب لا تختلف كثيرا بين عهد أيزنهاور وبين عهد ترامب مرورا بكل رؤساء أمريكا. 

ذلك يفسر مفهوم ضرورة وجود العدو المفترض الذي على أساس وجوده تنطلق الامبراطوريات إلى مداها الأبعد. في كتابه (صنع العدو أو كيف تقتل بضمير مرتاح؟) للمؤلف الفرنسي بيار كونيسا، يورد مقولة  ألكسندر أرباتوف المستشار الدبلوماسي لميخائيل غورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي مخاطباً الغرب: "سنقدم لكم أسوأ خدمة.. سنحرمكم من العدو". ومنذ ذلك الحين تحاول أمريكا صناعة عدو يناسبها بعد أن أربكها غياب العدو النمطي (الاتحاد السوفيتي).

هي نفسها حكاية ملء الفراغ لأيزنهاور، فرضية الواقع الأمني وتهديد المصالح الأمريكية في العالم، لذلك تسعى القوى الكبرى اليوم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل دؤوب إلى مراقبة المناطق الإستراتيجية في العالم وإحكام السيطرة عليها كالمضائق والممرات المائية. كما تفوض لنفسها وفق مرونة القوة من إدارة مناطق الصراع، وإذا تطلب الأمر خلق تلك المناطق لإعادة تشكيل ما يوفر لها الحماية من تهديدات أمنية محتملة لمصالحها، على حد وصف صانعي السياسة الأمريكية.

الأمر لا يقتصر فقط على السياسات الأمريكية في العالم بقدر ما يمثل الفكرة العامة لكل دولة، ولكن يبدو عِظم الأمر بقدر عوامل القوة التي تحدد مراكز الدول وترتيبها في سلم التأثير الإستراتيجي. 

مثلا، استفادت فرنسا من توظيف الواقع الأمني في الساحل الإفريقي لتعود بقوة من خلال الأحداث التي وقعت في جمهورية مالي لتدفع بآلتها العسكرية هناك مطلع عام 2013، ثم في إفريقيا الوسطى مما أعاد تنشيط قواعدها العسكرية خاصة في النيجر ومالي وتشاد وإفريقيا الوسطى.

كذلك عزز حلف شمال الأطلسي بشكل تدريجي قواته في شرقي أوروبا، وأعاد انتشارها في رومانيا وبولندا ودول البلطيق، بعد احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014، بذريعة حماية دول شرقي القارة مما سماها الطموحات التوسعية الروسية.

لا يختلف الأمر اليوم في مجمل التحركات العسكرية والدبلوماسية الأمريكية في الشرق الأوسط والمنطقة العربية ضمن مفهوم الواقع الأمني وتهديد المصالح الأمريكية، ما يفسر جملة من الأهداف تنطوي عليها إدامة حالة الصراع في العراق وسوريا واليمن وليبيا والدفع بحالة القلق في السودان والجزائر ومصر وغيرها. 

وفي قراءة لسلسلة الحشد والاستعراض للقوات البحرية والجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، الذي تبرره واشنطن بتهديدات إيرانية جدية لمصالحها بالمنطقة، نرى أن لغة الخطاب تتكرر بصيغة الهجمات المحتملة التي ربما تستهدف مصالح أميركية في باب المندب، وفي كل من العراق والكويت، فضلا عن استهداف قواعد ودبلوماسيين.

ظاهر الأمر قد لا يثير الاستغراب، وذلك من خلال تبادل الاتهامات بين أمريكا وإيران والخلافات الظاهرة إعلاميا أكثر مما هي على أرض الواقع كما يراها الكثير من المراقبين والمحللين لطبيعة العلاقات الأمريكية الإيرانية في الشرق الأوسط. لكن ذلك لا يمنع من احتمالية استشعار أمريكا بأن إيران تجاوزت الخطوط المتاحة لها من لعب دور الشريك في بعض الملفات العربية الساخنة مثل العراق وسوريا واليمن. 

وبالنسبة لواشنطن في نهاية الأمر، وتحت مفهوم المخاطر التي تهدد مصالحها، لا تفرق كثيرا بين داعش والقاعدة وإيران وخصوصا أن أمريكا بنشاطها الاستخباري، تعتبر الواقفة أكثر على سر توالد الأعداء وديناميكية تحرك الأذرع، فإنها تراقب النفوذ الإيراني بحجمه الهائل في سوريا كما أقر به وزير الخارجية الأمريكية السابق تليرسون بقوله: "لقد عززت إيران وجودها في سوريا بشكل ملحوظ عبر نشر الحرس الثوري الإيراني ودعم حزب الله اللبناني واستقدام مليشيات تابعة لها من العراق وأفغانستان وباكستان وغيرها من الدول. وبفضل هذا الانتشار في سوريا أصبحت إيران في موقع أفضل لمهاجمة الأمريكيين ومصالح أمريكا وحلفائنا في المنطقة".

وفي كل أحوالها لا تخلو تحركات أمريكية بهذا الوزن والحجم من تحقيق جملة أهداف داعمة لإستراتيجتها في الشرق الأوسط والعالم، إذ يتمحور الحديث اليوم حول جملة تساؤلات!!

  • هل ترضخ إيران أم تغرق في مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية؟
  • وما الخيارات المطروحة أمام إيران وسط تحذيرات من اندلاع صراع عسكري بين الدولتين؟
  • كيف تصنع إيران أدوات مواجهتها مع الولايات المتحدة التي أرسلت منظومة صواريخ دفاع جوي من نوع باتريوت وحاملة طائرات إلى منطقة الشرق الأوسط، كما نقلت في وقت سابق قاذفات بي 52 الإستراتيجية إلى قواعدها العسكرية في الخليج مع الوجود الأمريكي بقواعده وجنوده في العراق؟ 

تبدو خيارات إيران صعبة، لكن ذلك لا ينفي القول بحجم التوغل الإيراني في مجموع الدول المحيطة بها وتعدد أذرعها وميليشياتها الموالية التى ممكن أن تلعب دور التهديد المباشر للمصالح الأمريكية وإرباك خطوطها.

بالمقابل لا يمنع التصور بأن الخيارات الأمريكية صعبة أيضا مع دائرة الكراهية والاشمئزاز من سياساتها الخارجية الملونة بالأحمر القاني، والقول بمواجهة مفتوحة وبحرب شاملة قد يكون أمرا مبالغا فيه، لأن جملة المصالح الدولية والأمريكية ممكن أن تتحقق من خلال حجم وقوة التلويح بالقوة لانتزاع المطلوب على قاعدة تذكير الأطراف المناوئة لأمريكا بأن الخيار العسكري ممكن أن يزيل الخصم من ساحة المعركة ويدمره كلياً.

وهذا شأن الامبراطوريات المتراجعة، حيث تبدو في هذه المرحلة في أخطر مظاهرها. ذلك ما تدركه إيران التي ستقبل بأي تسوية تحفظ لها عدم السقوط ومحاولة إعادة ترتيب أوراقها، وطبيعة الدور الذي لا يتقاطع مع الرغبة الأمريكية التي تبحث عن تحقيق هدف بطعم النصر يخدم إستراتيجيتها على الأمد القصير أو البعيد.

وهي رسالة أيضا لمجموع الدول المتناثرة مواقفها على بقاع مختلفة من الأماكن ذات الأبعاد الإستراتيجية في نظر الولايات المتحدة الأمريكية.