حصار وتهجير واعتقالات واغتيالات.. هكذا تحول إسرائيل الضفة إلى غزة مصغرة

حسن عبود | 24 days ago

12

طباعة

مشاركة

منذ بدء عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تصعد سلطات الاحتلال الإسرائيلي إجراءاتها الانتقامية في الضفة الغربية لتحولها إلى “غزة جديدة” عبر الحصار والاعتقال والتدمير والتهجير والقتل.

ومع انشغال دول المنطقة والعالم بحرب الإبادة الجماعية في غزة، تمعن قوات الاحتلال في تصعيد انتهاكات بالضفة الغربية بشكل غير مسبوق ضمن مخططاتها في توسيع السيطرة والاستيطان والتهجير.

وصعدت إسرائيل من انتهاكاتها في الضفة الغربية مباشرة بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، ليجهض أي احتمالات لتصعيد عسكري في هذه الجبهة التي تشهد تماسا كبيرا مع قوات الاحتلال.

اغتيال بالطائرات

وكان من أبرز شواهد تحويل الضفة الغربية إلى غزة جديدة، إدخال جيش الاحتلال سلاح الطيران في عملياته ضد المقاومين هناك.

وهو أمر لم يكن معهودا منذ سنوات بفعل انتشار الحواجز العسكرية وسهولة تنفيذ الاقتحامات والاغتيالات، مقارنة بقطاع غزة الذي انسحبت منه قوات الاحتلال بشكل كامل عام 2005.

وكان آخر تلك العمليات، شن جيش الاحتلال في 18 مايو/ أيار 2024، غارة جوية على منزل في مخيم جنين شمال الضفة الغربية، أسفرت عن استشهاد إسلام خمايسة القيادي في كتيبة جنين التابعة لـ"سرايا القدس" الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي وإصابة 8 آخرين.

وإسلام خمايسة هو أحد قادة ومؤسسي كتيبة جنين، ويتهمه جيش الاحتلال بتنفيذ عملية مستوطنة حومش شمال الضفة والتي أدت لمقتل أحد المستوطنين في مارس/ آذار 2024 وعمليات أخرى.

وقالت صحيفة يديعوت أحرونوت إن الغارة الجوية الإسرائيلية “غير الاعتيادية” استهدفت خلية كانت تستعد لما سمته تنفيذ عملية قريبة.

وهذه هي المرة الثانية التي تقصف فيها قوات الاحتلال مخيم جنين بطائرات مروحية، حيث عمدت خلال الأشهر الأخيرة على قصفه بالطائرات المسيرة.

ومنذ 7 أكتوبر، نفذ جيش الاحتلال عدة غارات أخرى بالطائرات المروحية والمسيرة استهدفت سيارات لمقاومين ومساجد ومنازل. وبالعموم، استشهد منذ ذلك التاريخ وحتى 19 مايو 2024، 506 فلسطينيين في الضفة الغربية.

وتقول وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" إن من أبرز مظاهر التصعيد في مخيمات الضفة الغربية، القصف عبر الطائرات المسيرة، الذي بات سياسة رسمية لدى قوات الاحتلال.

ولفتت في نهاية يناير/كانون الثاني 2024 إلى أن الاحتلال نفذ منذ 7 أكتوبر، نحو 40 عملية قصف جوية في الضفة، بينها اثنتان نفذتهما طائرتان حربيتان، واستهدفت مخيمات جنين وطولكرم ونور شمس وبلاطة ووادي برقين.

وسبق ذلك إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي في 21 يونيو/حزيران 2023، اغتيال خلية مقاومة بعد قصف مركبة بواسطة طائرة مسيرة شمال جنين.

وهذه هي المرة الأولى منذ عام 2006 التي يستخدم فيها الاحتلال الطائرات لتنفيذ هذا النوع من العمليات، فيما يؤشر لواقع جديد.

وكانت آخر عملية اغتيال بطائرة مروحية من نوع “أباتشي” نفذها الاحتلال في صباح 9 أغسطس/آب 2006 عبر إطلاق 3 صواريخ على منزل كان يوجد فيه المقاومان من سرايا القدس أمجد عجمي ومحمد عتيق، ما أدى إلى استشهادهما.

وسبق ذلك تنفيذ الاحتلال عدة عمليات اغتيال بالطائرات خلال فترة الانتفاضة الثانية (2000 - 2005).

وعادت الاغتيالات بالطائرات في الضفة الغربية بعد أن انتشر خلال السنوات القليلة الأخيرة، العديد من المجموعات العسكرية التابعة لحركتي حماس والجهاد الإسلامي وفصائل أخرى، والتي تنفذ بين حين وآخر عمليات تفجير عبوات وإطلاق نار تجاه قوات الاحتلال ومستوطناته.

وهو ما صعب من تنفيذ اقتحامات واسعة في المناطق الأكثر خطرا على قوات الاحتلال مثل مخيمات اللاجئين ودفعها لاستخدام سلاح الطيران بديلا.

ويقول الكاتب الفلسطيني علي حبيب الله إن استهداف مركبة تُقل فلسطينيين بواسطة سلاح جوي غير مأهول، يُنذر بالشكل الذي سيكون عليه شكل الاحتلال في الضفة الغربية مستقبلا. 

وأوضح في مقال نشره موقع “عرب 48” المحلي في 23 يونيو/حزيران 2023: “يبيّن لنا هذا التطور اللئيم شكل تطور مقاومة الاحتلال في شمال الضفة الغربية وتحديدًا في نابلس وجنين رغم محدودية إمكانياتها وتواضعها، خصوصًا، مع مواجهة المقاومين لاجتياحات الجيش”.

وأردف أنه “في هذا السياق العملياتي أولًا، يمكننا قراءة تحول الاحتلال القذر نحو الاستهداف عبر السماء في مناطق شمالي الضفة الغربية، إذ بات الاشتباك المباشر من على الأرض مكلفا بالنسبة له”.

وتابع: “نقول مكلفا، دون أن ننسى أن حديثنا هنا يجري عن جنين وليس غزة أو جنوب لبنان، بالتالي، وحسب تقارير عسكرية وأمنية نشرتها صحف ومواقع إعلام إسرائيلية نقلا عن قيادات في جيش الاحتلال، بأنه لم يعد ممكنا فرض قوة الردع والاستقرار في شمالي الضفة عبر الاجتياحات المباشرة على الأرض فقط، مما بات يتطلب اللجوء إلى السماء أيضا”.

ورأى أن “سياسة الاحتلال باتت واضحة بكل ما يعنيه الأمر من وضوح، استيطان وتهويد سينال كل شبر أرض في الضفة الغربية، وعدوانية عسكرية متعطشة للدماء حتى لو استدعى الأمر اللجوء للسماء”.

تشديد الحصار

ومن شواهد التصعيد في الضفة الغربية بعد 7 أكتوبر، إطباق الحصار على العديد من المدن والقرى الفلسطينية والإمعان في عزلها عن بعضها وتكثيف الحواجز الدائمة والمؤقتة.

ولم يبدأ تقييد الحركة وانتشار الحواجز في الضفة الغربية مع السابع من أكتوبر، ذلك بأن إجراءات العزل وتقطيع أوصال هناك جرى التأسيس لها منذ عقود طويلة، لكن أحكمت إسرائيل بعد التاريخ المذكور عملية التنقل بين المحافظات وزادت من التحكم بالحركة والتنقل.

وفي دراسة لها عن واقع الحركة بعد 7 أكتوبر، تقول مؤسسة الدراسات الفلسطينية: “بقيت الحواجز الإسرائيلية الثابتة، التي تفصل بين الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة سنة 1948، قائمة، مثل حاجز قلنديا، وحاجز 300 في بيت لحم، وحاجز الأنفاق، والجلمة، وغيرها”.

وتابعت خلال دراسة نشرتها في 26 ديسمبر/كانون الأول 2023: “كذلك زادت الحواجز التي تفصل بين المدن والتجمعات الفلسطينية، ومارست إسرائيل سياسات تقييد الحركة والتنكيل بالفلسطينيين”.

فمثلا أصبح المرور على حاجز الكونتينر، الذي يفصل جنوب الضفة الغربية عن وسطها، عبارة عن قصة نجاة.

إذ يتم إغلاقه لساعات طويلة ما يؤدي إلى زحمة مرورية خانقة، ويتعطل الفلسطينيون لساعات طويلة من دون القدرة على المرور أو حتى النزول من السيارات، والأمر نفسه يحدث على حواجز أُخرى غيره، وفق الدراسة.

وواصلت القول: “أما حاجز جبع شرق القدس، ويفصل هذه المدينة عن الضفة، فقد أصبح المرور عبره يشكل معاناة يومية للعابرين، كونه لا يمكن الدخول إلى مدينة رام الله مثلا من المناطق الأخرى وإنما عبر الحاجز فقط”.

فحاجز بيت إيل أغلق بالكامل بالسواتر الترابية، كما جرى إغلاق كل "الفتحات أو النوافذ" الترابية التي كانت تُستخدم كبديل من حاجز جبع أو للالتفاف عليه، والحال نفسها بالنسبة إلى أغلبية المنافذ الالتفافية على الحواجز. 

كذلك أصبح الدخول إلى مدينة أريحا أو الخروج منها مقيدين بشكل كبير، أما محافظة الخليل، فمنذ بداية الحرب وهي شبه مغلقة، والخروج منها أو الدخول إليها يحتاجان إلى أكثر من ساعتين.

إذ يسلك الفلسطينيون طرقا زراعية وترابية، وأحيانا يمشون عبر الجبال والحقول كي يتمكنوا من الوصول، وفي بعض الأحيان ينتبه الجيش الإسرائيلي لتلك الطرق ويغلقها بالسواتر الترابية، بحسب الدراسة.

وبهذا، زاد الاحتلال بعد 7 أكتوبر، من الإغلاقات ونصب الحواجز الجديدة أو التشديد على نظيرتها القائمة؛ مع ازدياد عدد الحواجز الطيارة (المفاجئة) التي تنكل بالفلسطينيين، فضلا عن إغلاق الطرق  بالمكعبات الإسمنتية أو السواتر الترابية أو البوابات الحديدية.

وعدد الحواجز الدائمة والمؤقتة المقامة في الضفة الغربية والتي تقسم الأراضي الفلسطينية وتفرض تشديدات على تنقل الأفراد والبضائع بلغ 840، منها أكثر من 140 أقيمت بعد 7 أكتوبر، وفق ما قالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان (حكومية) في 30 مارس 2024.

ونتيجة لتلك الحواجز، ارتفع عدد المعتقلين بالضفة الغربية إلى 8775 شخصا منذ 7 أكتوبر، بحسب إحصائية نشرتها هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني خلال بيان مشترك في 19 مايو/أيار 2024.

وعبر هذه الإجراءات تضمن قوات الاحتلال تحقيق هدفين، أولهما إطباق الحصار وشل الحركة وحصر المواطنين في أماكن معينة، في شكل مصغر عما يفعله في قطاع غزة، وثانيهما، زيادة صعوبة تنفيذ أي عملية فدائية.

تدمير وتهجير

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد انتقلت صورة الدمار والنزوح والتهجير الداخلي كذلك من قطاع غزة إلى الضفة الغربية ولكن بصورة مصغرة، نظرا لعظم المأساة في القطاع.

وقالت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في البيان المشار إليه سابقا إن إسرائيل صادرت نحو 27 ألف دونم من أراضي الضفة الغربية المحتلة، وأخضعت للدراسة 52 مخططا هيكليا استيطانيا، وأجبرت 25 تجمعا فلسطينيا على الرحيل منذ بدء العدوان على غزة.

ونقل البيان عن رئيس الهيئة مؤيد شعبان قوله، إن "دولة الاحتلال تسترت بستار العدوان الرهيب على شعبنا في قطاع غزة بتنفيذ عمليات مصادرة ممنهجة للأرض الفلسطينية طالت 27 ألف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)".

أضاف شعبان أن "مساحة الأراضي الفلسطينية الخاضعة فعليا للإجراءات الإسرائيلية بلغت 2380 كيلومترا مربعا تشكل 42 بالمئة من مجمل مساحة أراضي الضفة الغربية، و69 بالمئة من مجمل المناطق المصنفة (ج)، التي تخضع للحكم العسكري الاحتلالي".

وأشار إلى أن إسرائيل بدأت فعلا إنشاء مناطق عازلة حول المستوطنات بالضفة من خلال جملة أوامر عسكرية، محذرا من "عزل المزيد من الأراضي ومنع المواطنين من الوصول إليها بالحجج العسكرية والأمنية".

وبين أن "إجراءات الاحتلال وإرهاب مليشيا مستعمريه أدت منذ 7 أكتوبر إلى تهجير 25 تجمعاً بدوياً فلسطينياً تتكون من 220 عائلة تشمل 1277 فرداً من أماكن سكنهم إلى أماكن أخرى".

وتابع أن "إجراءات سلطات الاحتلال واعتداءات مليشيا مستعمريه منعت وصول المواطنين إلى أكثر من نصف مليون دونم من الأراضي الزراعية (كما تم) الاعتداء على أكثر من 9600 شجرة فلسطينية بالتحطيم والاقتلاع والتسميم، معظمها من أشجار الزيتون".

ولا يكتفي جيش الاحتلال بإطلاق مستوطنيه من أجل الاعتداء على الفلسطينيين بهدف تنغيص حياتهم ودفعهم نحو ترك أراضيهم ومنازلهم بل يعمد إلى تدمير البنية التحتية وهدم القرى لتحقيق هذا الهدف.

ومنذ 7 أكتوبر، لم تلتقط مخيمات اللاجئين في الضفة أنفاسها من وقع عمليات اقتحام قوات الاحتلال الإسرائيلي المتتالية، والتي تتخذ يوما بعد آخر طابعا أكثر دموية وتدميرا.

وإلى جانب عمليات القتل والاعتقال والتنكيل، تتعمد قوات الاحتلال، تدمير البنى التحتية وإحداث أضرار بالغة في الشوارع الرئيسة والفرعية في المخيمات وبمحيطها وتحفر بعضها بعمق متر أحيانا.

وهو ما يتسبب في إتلاف شبكات المياه، والصرف الصحي، والكهرباء، والاتصالات، وتدمير منازل المواطنين أو أجزاء منها، وتحطيم كل ما يأتي بطريقها من مركبات وممتلكات خاصة وعامة.

وبعد 7 أكتوبر، نفذ الاحتلال عدة اقتحامات دموية لمخيمي طولكرم ونور شمس أسفرت عن استشهاد وإصابة عدد من الشبان وتزامن معها تدمير كبير في البنية التحتية.

وقال رئيس لجنة الخدمات الشعبية لمخيم طولكرم فيصل سلامة، إن البنية التحتية للمخيم تعرضت لتدمير كامل، بعد تجريف وحفر الشوارع الرئيسة والفرعية المؤدية إلى المخيم، وإتلاف شبكات الصرف الصحي والمياه والكهرباء والاتصالات.

ولم تقتصر الأضرار على البنية التحتية في المخيم، فعدد كبير من منازل المواطنين تضررت بشكل بالغ خلال الاقتحامات الأخيرة.

فلا يوجد منزل في مخيم طولكرم إلا ونالته الجرافات أو تعرض للتفجير أو لإطلاق النار أو تحطيم محتوياته، بحسب ما أضاف سلامة لوكالة الأنباء الفلسطينية نهاية يناير 2024.

وبينت الوكالة أن ما جرى أخيرا في مخيم طولكرم، يشبه ما يحدث بشكل متكرر في مخيم نور شمس المجاور، وفي مخيم جنين الذي لم يعرف مواطنوه الراحة منذ مدة طويلة.

محمد ضبايا من لجنة الخدمات الشعبية لمخيم جنين، قال إن المخيم يعاني ظروفا في غاية السوء جراء البنية التحتية المدمرة والمنازل المتضررة والتي يزداد واقعها سوءا مع كل اقتحام جديد.

وأضاف للوكالة ذاتها ما يجرى في مخيم جنين وغيره من المخيمات، يؤكد أن الاحتلال ينفذ عقابا جماعيا لكسر إرادة وصمود المواطنين، الذين يعانون الأمرين ويتعرضون للقتل والاعتقال والتنكيل وتدمير منازلهم ومنشآتهم.

وقدرت اللجنة أن ما لا يقل عن 70 بالمئة من البنية التحتية ومنازل المواطنين، ونحو 90 بالمئة من المحلات والمنشآت التجارية، خاصة الموجودة على مداخل المخيم، تعرضت لتدمير كامل أو جزئي، خلال الاقتحامات المتكررة.

وأشار إلى أن قوات الاحتلال تتعمد في كل اقتحام اعادة تدمير ما أعيد إصلاحه وترميمه من شوارع وشبكة مياه وكهرباء، ما يؤكد النية المبيتة لتل أبيب في القضاء على سبل العيش وإحالة حياة المواطنين إلى جحيم.