المال لا يحسّن السمعة.. كيف باعت السعودية فلسطين؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

رسمت مواقف القيادة الجديدة للمملكة العربية السعودية ممثلة بالملك سلمان بن عبد العزيز، ونجله ولي عهده محمد، تجاه القضايا الدولية والإقليمية، ولا سيما القضية الفلسطينية، صورة سيئة، تسعى السلطات إلى تحسينها من خلال ضخ الأموال. 

وبينما تنطلق السعودية علنا من كونها حاضنة للحرمين الشريفين وقبلة المسلمين وما لها من مكانة وقيمة روحية لديهم، في القضية الفلسطينية بكل قوة على مستوى التصريحات والخطب الرنانة، نجد أن مواقفها السرية بل وبعضها علني أيضا، يخالف ذلك، ويسعى إلى تصفيتها، مع صعود لافت لموجة التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي.

محاولات دعائية

ولعله من غير الممكن أن يُفسر الاحتفاء الإعلامي السعودي الحكومي والخاص بنبأ تسديد المملكة حصتها في ميزانية السلطة الفلسطينية، مؤخرا، سوى في سياق محاولات دعائية تسعى لترويج حرص السعودية وقادتها على القضية ودعمها الدائم على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والإنسانية، وفق ما صرح به أسامة نقلي السفير السعودي لدى مصر المندوب الدائم لدى جامعة الدول العربية.

"40 مليون دولار"، هي القيمة التي حولها الصندوق السعودي للتنمية لحساب وزارة المالية الفلسطينية نظير مساهمة المملكة عن شهري فبراير/شباط، ومارس/آذار الماضيين، في دعم موازنة السلطة، وفق ترتيبات شبكة الأمان المالية التي أقرتها قمة جامعة الدول العربية في الكويت عام 2010، بقيمة 100 مليون دولار شهريا لمساعدة السلطة الفلسطينية على الوفاء بالتزاماتها في حال حجز الاحتلال الإسرائيلي أموال المقاصة أي الضرائب التي تفرض على السلع الواردة للأراضي الفلسطينية.

على الورق وللوهلة الأولى تبدو تلك المساهمة المالية (20 بالمئة من إجمالي شبكة الأمان المالية العربية) كبيرة وفعّالة على نحو يستوجب الإشادة، لكنها ليست إلا ذرا للرماد في العيون ضمن دعاية لتحسين مواقف السعودية وولي عهدها مع الاحتلال والمناهضة للقضية الفلسطينية، كما سيأتي التفصيل لاحقا.

لم تتوقف تلك الدعاية عند مسألة الدعم المالي، بل تضمنت أيضا الخطابات الرسمية التي يلقيها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز في المناسبات المختلفة ذات الصلة، ولعل أحدثها الكلمة التي ألقاها خلال الدورة 30 للقمة العربية التي انعقدت في تونس 31 مارس/آذار المنصرم، حيث قال إن القضية الفلسطينية "ستظل على رأس اهتمامات المملكة حتى يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".

لكن ثمة مفارقة سجلتها كلمة الملك سلمان خلال القمة العربية الأوروبية بشرم الشيخ فبراير/شباط الماضي، ظن البعض خطأ، أن السعودية تصحح بها موقفها التاريخي، بل وتكتب تاريخا جديدا.

وقال العاهل السعودي حينها إن بلاده" تؤكد موقفها الثابت تجاه استعادة كافة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وعلى رأسها الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1937"، الأمر الذي أثار جدلا واسعا لأن التاريخ المذكور يشير إلى نتائج لجنة بيل البريطانية عام 1937 التي اقترحت تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أقاليم، أحدها يبقى تحت الانتداب البريطاني، وآخر هو الأكبر يخصص لدولة يهودية، وقسم ثالث لدولة عربية يضم إليه جزء من شرق الأردن.

إلا أن وكالة الأنباء السعودية الرسمية "واس"، حسمت الجدل وأعادت الأمور إلى نصابها، حيث نشرت نص كلمة الملك سلمان: "أعدنا التأكيد على موقفنا الثابت تجاه استعادة كافة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وعلى رأسها إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967م وعاصمتها القدس الشرقية".

مواقف متضاربة

المثير في الموضوع، أن الترجمة الفعلية لهذه الكلمات لم تكن متوافقة، بل كشفت عن مواقف متضاربة تناقض تماما ما تدّعي السعودية أنها تدافع عنه أو تتبناه وتعتبره قضيتها المركزية وعلى رأس اهتماماتها.

في 14 مايو/أيار الماضي، شهدت القدس المحتلة مراسم افتتاح السفارة الأمريكية الجديدة، بعد أشهر من قرار الرئيس دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى المدينة المقدسة، فتمخضت جامعة الدول العربية عن الدعوة لعقد اجتماع طارئ على مستوى المندوبين الدائمين، بعد يومين من تصريحات هجومية لها دعت تركيا إلى الكف عن "المزايدة" في القضية الفلسطينية بخطابات إنشائية.

لكن الحقيقة، أنه بعد أسبوع من القرار المفاجئ لترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول 2017، عقدت تركيا قمة حول القدس في إسطنبول بمشاركة العشرات من قادة الدول العربية والإسلامية، وبمشاركة واسعة جعلت منها رد الفعل الأقوى تجاه القرار، مقابل اجتماع عربي طارئ، لكنه على مستوى المندوبين الدائمين، ورد فعل على قرار دخل حيز التنفيذ بعد الإعلان عنه بأشهر كاملة.

وبينما قال العاهل السعودي، في القمة العربية التي انعقدت في أبريل/نيسان 2018 بمدينة الظهران السعودية، إن فلسطين في وجدان السعوديين، وأعلن تسميتها "قمة القدس" وتبرعه بقيمة 150 مليون دولار للأوقاف الإسلامية في القدس، فإن التمثيل المتدني للمملكة في قمة إسطنبول الطارئة لمنظمة التعاون الإسلامي، كشفت حقيقة الادعاء ودلت على هامشية قضية القدس بالنسبة لحكام السعودية، خلافا لما هو معلن.

الموقف السعودي لم يكن متجاهلا لقضية القدس فحسب، بل متواطئا فيها مع أمريكا والاحتلال الإسرائيلي، ولعل هذا ما كشفته القناة العاشرة بالتليفزيون الإسرائيلي، التي قالت إن قرار نقل السفارة "لا يمكن أن يتم دون التنسيق عربيا"، وكشف مراسل القناة العبرية أن كلا من السعودية ومصر "أعطيتا ترامب الضوء الأخضر لتنفيذ قراره ونقل السفارة الأمريكية إلى مدينة القدس، تمهيدا للقرار الكبير بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل"، ونقلت تقارير إعلامية عن وزير الاستخبارات الإسرائيلي "يسرائيل كاتس"، قوله إن ترامب أجرى سلسلة اتصالات مع الزعماء العرب، قبل إعلان قراره.

الأقصى بين ملكين

في أعقاب حريق المسجد الأقصى المبارك عام 1969، وقف العاهل السعودي حينها الملك فيصل بن عبد العزيز ملقيا خطابه الشهير الذي دعا فيه إلى إعلان الجهاد للدفاع عن مقدسات المسلمين التي ينتهكها الاحتلال تحت مرأى ومسمع الضمير العالمي، سائلا الله أن يرزقه الشهادة مجاهدا في سبيل الدفاع عن الأقصى، واتضح كمّ التأثر الذي بدا عليه.

وفي يوليو/تموز 2017، كانت المفارقة التاريخية التي تكشف مآلات الموقف السعودي من القضية الفلسطينية، فخرجت الهتافات المدوية من جنبات الحرم القدسي الشريف منادية "يسقط يسقط آل سعود"، إثر إعادة سلطات الاحتلال الإسرائيلي فتح المسجد الأقصى بعد إغلاق استمر لأسبوعين، شهدا احتجاجات واسعة.

الهتافات التي لهجت بها حناجر المقدسيين المرابطين على أبواب الأقصى لم تأت من فراغ، بل كانت ردا قاسيا على محاولات سعودية إرجاع الفضل إلى الملك سلمان في إعادة فتح المسجد، فبحسب بيان أصدره الديوان الملكي، فإن الملك "أجرى اتصالات هاتفية بالعديد من زعماء العالم وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب"، وهي الجهود التي "تكللت بالنجاح" في إشارة إلى قرار فتح أبواب الأقصى.

الشكوك التي أثيرت حينها حول هذا التدخل وجديته، عززت من الاتهامات التي وُجهت للسعودية بالسعي عبر هذا البيان إلى المتاجرة بالقضية، فهو خادم الحرمين الشريفين الذي يحظى بمكانة روحية ودينية كبرى توازي مقام خليفة المسلمين ويأبى أن يغلق الحرم الثالث ويُمنع المسلمين من الصلاة فيه، صورة ذهنية سعت السعودية أن ترسخها دوما في وجدان المسلمين حول العالم.

وفي هذا المقام لا يمكن تجاهل مواقف للملك فيصل، فهو صاحب قرار قطع إمدادات البترول عن الولايات المتحدة إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وبحسب مذكرات وزير الخارجية الأمريكي حينها هنري كسينجر، فإن الأخير تمنى من الملك فيصل باستحياء عودة إمدادات الوقود لتتحرك طائرته الهامدة في المطار، ليرد فيصل بتساؤل: "وأنا رجل طاعن في السن وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت فهل تساعدني على تحقيق هذ الأمنية؟".

وكانت حملة "ادفع ريالا تنقذ عربيا" في السعودية عام 1968 في عهد الملك فيصل أيضا، شاهدة على الاحتضان السعودي في ذلك الزمن للقضية الفلسطينية، عندما شرعت حملات شعبية، مدعومة من الدولة، للسعي نحو الوقوف مع الشعب الفلسطيني ماديا وسياسيا، وسار الحال على ما هو عليه في السنوات التي تلت.

التلفزيون السعودي الرسمي، سخّر بثه المباشر خلال الانتفاضتين الأولى (1987) والثانية (2000) بأمر من صانع القرار، في خطوة ذات مغزى، لجمع التبرعات من المواطنين على الهواء مباشرة كإشارة إلى سياسة الدولة حينها في عدم التراخي عن القيام بواجبها حيال فلسطين، امتدادا لأدوار أخرى سابقة كالمشاركة في حرب فلسطين عام 1948.

تطبيع وتآمر

الانتقال من تلك الصورة إلى الواقع الحالي، أشبه بالاستيقاظ على كابوس مفزع، فلم يعد الحديث عن عداء أو حتى جفاء، بل لم تعد قضية العلاقات والاتصالات بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي محل تكهنات، فقد بدأت تخرج إلى العلن من خلال التسريبات الصحفية والتصريحات المختلفة وخاصة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي أشار فيها إلى العلاقات الإستراتيجية التي تربط إسرائيل مع الدول العربية السنية المعتدلة، وكذلك الدعوات الإسرائيلية لشخصيات سياسية بضرورة تقوية العلاقات مع السعودية في مواجهة إيران والإرهاب الإسلامي.

في فبراير/شباط الماضي بثت قناة التلفزة الإسرائيلية الـ13 تحقيقا موسعا حول مراحل تطور العلاقة بين السعودية وإسرائيل، والتي تكرست منذ عام 2006 وتتواصل حتى الآن، وكشفت الاختلاف الكبير في الدوافع والضوابط التي حكمت تطور هذه العلاقة في عهد النظام السعودي الحالي، والذي يضطلع فيه ولي العهد محمد بن سلمان بدور طاغٍ.

ففي وقت اشترطت الرياض في عهد الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز تطوير علاقتها بإسرائيل بإحداث تقدم على صعيد حل القضية الفلسطينية، فإن "بن سلمان" لم يُبدِ أي اهتمام بحثّ إسرائيل على إبداء مرونة في تعاطيها بشأن الصراع مع الفلسطينيين، بل يراهن على دور إسرائيل في إنجاح رؤية 2030 وينطلق من افتراض مفاده، بأن تطوير العلاقة مع تل أبيب يحسن من قدرته على تجنيد دعم أمريكي لوصوله إلى الحكم، وفقا لتقارير إعلامية.

ونقل المستشار الأسبق لنتنياهو جويل روزنبرغ، عن السفير السعودي السابق في واشنطن، خالد بن سلمان، الذي التقاه عام 2017، قوله إن نظام الحكم في الرياض معني بتوثيق وتطوير العلاقة مع إسرائيل ليس لمواجهة إيران، بل بسبب الاعتبارات الاقتصادية، وإن السعودية "تعي أنه لا يمكنها إحداث تحوّل على واقعها الاقتصادي من دون الدعم الإسرائيلي، وتحديدا من دون العقول والتكنولوجيا الإسرائيلية".

خلال مقابلة مع مجلة "ذي أتلانتيك" الشهرية الأمريكية، قبل عام من الآن، قال ولي العهد السعودي، إنّه يعترف بحق الشعب اليهودي في "أرضه الخاصة" وبضرورة وجود دولة قوية لليهود في فلسطين، في تصريحات مدوية لأول مرة علنا تصدر من أعلى هرم الحكم في المملكة بشأن حق اليهود التاريخي والديني في فلسطين.

يبذل "بن سلمان"، كثيرا في ملف التطبيع مع الاحتلال، سواء ما كان معلن وما هو خلف الكواليس وتسربه وسائل الإعلام تباعا، ففي أواخر أبريل/نيسان 2018 نقلت القناة العاشرة الإسرائيلية تسريبات عن لقاء جمع ولي العهد السعودي ببعض رؤساء المنظمات اليهودية الرئيسية في نيويورك، وقالت إنه طالب الفلسطينيين بقبول ما يُعرض عليهم من تسويات، فيما تستعد واشنطن لتقديم خطة تندرج ضمن ما يطلق عليها "صفقة القرن" الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية.

وذكرت القناة في تقريرها، أن "بن سلمان"، قال خلال اللقاء الذي عقد في 27 مارس/آذار، إن القيادة الفلسطينية فوتت العديد من الفرص خلال العقود الأربعة الماضية، ورفضت كل المقترحات التي قُدمت لها، كما قال إن الوقت قد حان كي يقبل الفلسطينيون ما يعرض عليهم، وأن يعودوا لطاولة المفاوضات وإلا فليصمتوا وليتوقفوا عن التذمر.

وكشفت التسريبات، أن "بن سلمان" وجّه خلال اللقاء انتقادات لاذعة لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ونقلت القناة الإسرائيلية عن ولي العهد السعودي، قوله إن القضية الفلسطينية ليست في سلم أولويات الحكومة ولا الرأي العام في السعودية، وأن هناك قضايا أكثر إلحاحا وأهمية كإيران، فيما نقل موقع "إكسيوس" الإخباري الأمريكي عن مصدر اطلع على فحوى الاجتماع، أن "تعليقات ابن سلمان بشأن القضية الفلسطينية أسعدت مسؤولي المنظمات اليهودية الأمريكية".

الكشف عن فحوى اللقاء السري، جاءت بعد إعلان فريد من نوعه خلال زيارة "بن سلمان" لأمريكا، حيث أكد في تصريحات مستفزة أن بلاده "تتقاسم المصالح مع إسرائيل"، وأنه "للإسرائيليين الحق في العيش بسلام على أرضهم".

سياسة مزدوجة

في 8 فبرير/شباط 2007، وقعّت حركتا فتح وحماس -أكبر فصيلين فلسطينيين-، اتفاق مكة الذي رعته السعودية بدعوة من الملك الراحل عبد الله بن عبدالعزيز، بعد اشتباكات دامية بين الجانبين في قطاع غزة، وتضمن الاتفاق تعيين حكومة وحدة وطنية برئاسة القيادي في حماس إسماعيل هنية ويكون القيادي الفتحاوي عزام الأحمد نائبا له.

ورغم أن الاتفاق انهار سريعا، بعد تجدد الاشتباكات وسيطرة حماس على قطاع غزة في يونيو/حزيران 2007، إلا أنه كان علامة فارقة على الدور السعودي النافذ حينها في إجراء المصالحة الفلسطينية ولعب دور الوساطة التي تقف على مسافة متساوية من جميع الأطراف.

لكن الأوضاع تبدلت، فبينما استمر الدعم السعودي سياسيا وماليا لحركة فتح والسلطة الفلسطينية، توارى عن حماس، وصولا إلى خطاب رسمي يعادي الحركة ويصنفها "إرهابية"، الأمر الذي ارتفعت حدته في أعقاب ثورات الربيع العربي وخاصة بعد إطاحة الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي، المنتم لجماعة الإخوان المسلمين التي تُحسب عليها حماس.

وتصاعدت اللهجة العدائية أكثر وأكثر بعد اندلاع الأزمة الخليجية يونيو/حزيران 2017، والاتهامات التي وجهتها السعودية لقطر بدعم وتمويل "منظمات إرهابية" مثل حماس والإخوان المسلمين.