بعد فترة صمت واكتفاء بالتصريحات الروتينية عن رفض العدوان الإسرائيلي على غزة ثم استكمال انغماس النظام في تشجيع وقيادة سلسلة من برامج الترفيه والانحلال، بدأ النظام السعودي يبدي اهتماما بحرب غزة.
بداية الاهتمام جاءت بالدعوة لقمة عربية إسلامية مشتركة طارئة في الرياض، ألقت الضوء رغم عدم أهمية قراراتها، على ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ثم طرح خطط لمستقبل المنطقة.
تقارير أجنبية قالت إن حرب غزة أجبرت ابن سلمان على تغيير خططه، خاصة بعدما أجهز "طوفان الأقصى" منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 على "حوافز" التطبيع مع إسرائيل.
وأشارت إلى ضغوط يعيشها ابن سلمان داخليا وخارجيا، حيث يدفع القادة الأميركيون والأوروبيون المملكة للقيام بدور قيادي في غزة ما بعد "حماس"، بينما تضغط عليه قوى محلية وإقليمية للعب دور قوي في دعم الفلسطينيين.
وأكد أستاذ الشؤون الدولية في جامعة تكساس "إيه آند أم"، جريجوري جوس، أن "ابن سلمان يعيش ضغوطا داخلية وخارجية، إذ يدفع القادة الأميركيون والأوروبيون المملكة للقيام بدور قيادي في غزة ما بعد حماس، ودعم الفلسطينيين بشكل أكثر فعالية".
وقال في تحليل نشرته مجلة "فورين أفيرز" الأميركية في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 أن "السعودية لن توافق على لعب دور مالي في مستقبل قطاع غزة، إلا إذا حصلت على مكاسب من أميركا كتلك التي كانت تسعى للحصول عليها من واشنطن مقابل التطبيع مع إسرائيل".
ورأى جوس أن "الحرب تضع ابن سلمان في موقف صعب على الأقل على المدى القصير، فهو يتوق إلى الاستقرار الإقليمي، بما يسهل عليه متابعة هدفه المتمثل في تنويع اقتصاد المملكة وتقليل اعتمادها على صادرات النفط، لكن التصعيد الأوسع يهدد تقدمه على هذه الجبهة".
واعترف أن حماس ستكون قادرة على تحقيق "عدد قليل جدا" من الانتصارات في حربها مع إسرائيل، "لكن الانتصار الذي حققته بالفعل هو التوقف المفاجئ في الزخم نحو التوصل إلى اتفاق بوساطة أميركية بين إسرائيل والسعودية"، وهو ما يبدو أنه أغضب ابن سلمان.
وأفاد جوس بأن "الاتفاق الإسرائيلي السعودي كان سيؤدي إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، وإدخال المملكة بقوة أكبر في الحظيرة الأمنية الأميركية، وانتزاع التزامات إسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية، وربما كانت المخاوف من التقارب الإسرائيلي السعودي أحد الدوافع الرئيسة لهجوم حماس في 7 أكتوبر 2023".
ووفقا لتقارير إعلامية أميركية وإسرائيلية، ترغب السعودية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل توقيع المملكة معاهدة دفاع مشترك مع الولايات المتحدة والحصول على أسلحة أكثر تطورا وتشغيل دورة وقود نووية كاملة، بما فيها تخصيب اليورانيوم داخل المملكة، بالإضافة إلى التزامات إسرائيلية نحو إقامة دولة فلسطينية.
وبحسب مراقبين، رغم الهزيمة الثقيلة التي منيت بها إسرائيل، وبدا ذلك واضحا وجليا بعد تخبط هجومها البري على القطاع، رغم ارتكابها مجازر وإبادة جماعية، تحلم أميركا وإسرائيل في التخلص من "حماس"، واستبدالها بإدارة القطاع بواسطة الأمم المتحدة، وبمشاركة دول عربية، أو إسناد حكم غزة للسلطة الفلسطينية العاجزة عن إدارة الضفة.
ويقول تحليل لموقع "ستراتفور" الأميركي في 26 أكتوبر 2023 إن رد الفعل المحلي العنيف في السعودية على العملية العسكرية الإسرائيلية ضد حماس عقّد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، وقد يغذي أيضا المعارضة والحركات المتطرفة داخل المملكة.
وأوضح أن "الإبادة الإسرائيلية في غزة أثارت ردود فعل داخلية وسياسية كبيرة في السعودية ما اضطر السلطة لـ(تجميد) التطبيع، وستظل كذلك طوال مدة الصراع في غزة".
وذكر الموقع أنه "حتى ولو قدمت إسرائيل تنازلات في نهاية المطاف، فمن المرجح أن يستمر المواطنون السعوديون في معارضة التطبيع، وقد تتصاعد انتقادات السعوديين للعائلة المالكة في أعقاب صراع غزة، وتظهر معها ردود أفعال من مجموعات متطرفة مثل الجماعات الجهادية".
وأشار إلى أن "الحلول السياسية المحتملة التي ستضطر إسرائيل إلى فرضها على قطاع غزة بمجرد انتهاء الصراع، ستزيد من إلحاح التنازلات الإسرائيلية بشأن القضية الفلسطينية قبل التوصل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي واسع النطاق".
وفي رصدها لردود أفعال دول عربية وشرق أوسطية حول حرب غزة، أوضح تقرير لـ"مجموعة الأزمات الدولية" في 4 نوفمبر 2023 أن المملكة "حافظت على مستوى أقل من الاهتمام".
ولفتت إلى أن "السعودية واصلت العمل كالمعتاد من خلال استضافة منتديات الترفيه والاستثمار، بدلا من إلغائها كتعبير عن التضامن مع الفلسطينيين".
لكن المجموعة أكدت أن "الرياض تشعر بالقلق من التداعيات الداخلية للحرب، نظرا للاحتجاجات في المملكة وبقية العالم العربي بشأن الحملة الإسرائيلية المدمرة".
وأوضحت أنه "رغم أن المواطنين السعوديين لم يخرجوا إلى الشوارع لدعم الفلسطينيين كما فعل العرب في أماكن أخرى من المنطقة، إلا أنهم ربما يبقون في ديارهم فقط لأنهم يخشون انتقام الحكومة".
ومع ذلك، فإن "الغضب الشعبي واضح بطرق لا يمكن أن تغفلها السلطات السعودية"، وفق "مجموعة الأزمات الدولية".
وأوضحت أن المملكة جمدت محادثات التطبيع مع إسرائيل، رغم الضغوط الأميركية المستمرة، "على الأقل حتى يهدأ الغبار"، خاصة أن البيت الأبيض ذكر أن السعودية أكدت للولايات المتحدة أنها ستستأنف مناقشة التطبيع بعد انتهاء الحرب.
وفي حالة استئناف المحادثات مرة أخرى، فإن معالجة القضية الفلسطينية -التي كانت بالفعل على قائمة رغبات الرياض للمفاوضات- ستقفز بلا شك إلى قمة كومة القضايا التي يتعين معالجتها، وفق مجموعة الأزمات الدولية.
وبدأ سعوديون ينشرون آراء علماء الدين الذين يعتقلهم ابن سلمان بسبب غزة و"الصهاينة العرب" وانتشرت على مواقع التواصل تعليقات تنتقد الموقف السعودي.
الشيخ المعتقل د. #ناصر_العمر يفكك ما سمّاه بـ "الخطاب المتـ.ـصهين" في إحدى الصحف السعودية التي قالت: "يستاهلون أهل غزة ما أصابهم لأنهم لم يقبلوا بالاتفاقية العربية". pic.twitter.com/FpwH5xyipE
— معتقلي الرأي (@m3takl) November 12, 2023
ودفع هذا المملكة لزيادة عدد من قوافل المساعدات السعودية إلى معبر رفح، تمهيدا لدخولها إلى قطاع غزة حين يسمح الإسرائيليون، والترويج لذلك إعلاميا.
وصول عدد من قوافل المساعدات #السعودية إلى معبر #رفح، تمهيداً لدخولها لقطاع #غزة.#الحملة_السعودية_لإغاثة_فلسطين pic.twitter.com/uAbH2iVmOx
— سفارة المملكة في القاهرة (@KSAembassyEG) November 12, 2023
لكن نشطاء أشاروا إلى استمرار التضييق والحصار على أي محاولة شعبية لإظهار الدعم لغزة خاصة في المشاعر المقدسة، مشيرين إلى اعتقال معتمر جزائري بالمسجد النبوي بتهمة "الدعاء لأهل غزة".
"تهمته الوحيدة الدعاء لأجل فلـ،،،طين".. معتمر جزائري يتحدّث عن احتجازه في المسجد النبوي ويوجّه رسالة إلى قاصدي مكة والمدينة pic.twitter.com/n0ga5uEnMH
— Tunigate - بوابة تونس (@Tunigate) November 12, 2023
يدور الحديث في مجلات السياسة الدولية حول دورين يمكن أن يلعبهما ابن سلمان، الأول يقوده القادة الأميركيون والأوروبيون لدفع المملكة للقيام بدور قيادي مستقبلي في غزة، ضمن حلفاء واشنطن الآخرين.
أما الدور الثاني، فتدعمه أيضا واشنطن حال رفض السعودية خيار التدخل، وهو بالدعم المالي للفلسطينيين لإعادة إعمار غزة أو تنفيذ الخطط الغربية لمستقبل غزة.
المحلل الأميركي جيسون باك، ذكر في تحليل نشرته مجلة "فورين بوليسي" في 7 نوفمبر 2023، إن "الغرب يجد في الحرب المستعرة في غزة، فرصة لا تعوض لإعادة ترتيب خارطة الشرق الأوسط السياسية".
وقال إن "الدبلوماسيين الغربيين الذين يخططون لليوم التالي بعد انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة يجدون أنفسهم في مواجهة خيارين، إما استثمار الحرب لإضعاف أعدائهم فقط، أو السعي إلى إعادة تشكيل تكتلات القوى القائمة في المنطقة".
وبالنسبة للخيار الثاني، يقترح باك أن الحل الأمثل لمرحلة غزة ما بعد الحرب هو تشكيل "إدارة قطرية مصرية سعودية إماراتية" للقطاع، لقطع الطريق على إيران التي تدعم حركة حماس، وتشكل تهديدا أساسيا لإسرائيل.
إلى جانب "تقليم أظافر روسيا التي تسعى لاستغلال ما يجرى لتوسع نفوذها في المنطقة".
ويرى "باك" أن هذا السيناريو "ينعش ويضفي الشرعية على محادثات السلام بين السعودية وإسرائيل، والتي توقفت بسبب الحرب والقصف الإسرائيلي العنيف والمدمر ضد المدنيين في غزة، والذي دفع الرياض إلى إدانته والدعوة إلى وقف فوري لإطلاق النار".
وخلال جولته ولقاءاته منذ العدوان الإسرائيلي الأخير، اقترح وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أن تلعب الدول العربية دورا في إدارة غزة ما بعد الحرب، وأجرى مناقشات دبلوماسية مع عدة دول، لكن غالبيتها رفض.
وتدعو المقترحات الأكثر طموحا السعودية إلى المساهمة بأفراد عسكريين وإداريين لحكم غزة بعد الحرب، وبعضها يسند للسعوديين دور تمويل إعادة إعمار غزة.
لكن أستاذ الشؤون الدولية في جامعة تكساس "إيه آند أم"، جوس، قال في تحليله بـ"فورين أفيرز" إن "السعودية لا تملك القدرة ولا الرغبة في نشر قوات على الأرض في غزة ما بعد الحرب أو تمويل إعادة إعمار غزة على نطاق واسع".
وأوضح أن "قوات الأمن الداخلي السعودية لا تتمتع بأي خبرة في العمل خارج حدودها، الذي أشار إلى أن الأداء الضعيف للجيش السعودي في اليمن لا يساهم في دعم فكرة نشره في أماكن أخرى، ولم تعمل القوات السعودية قط كقوات حفظ سلام تحت راية الأمم المتحدة".
وتابع: "من الممكن أن تكون السعودية على استعداد للعب دور مالي في الإدارة الانتقالية التي توافق عليها الأمم المتحدة والتي تؤدي إلى عودة سيطرة السلطة الفلسطينية على غزة.
ورجح جوس أن "يكون دور السعودية هو التمويل المالي فقط، لكن هذا الدور لن يشبه صفقات المساعدات السعودية السابقة، والتي كانت بمثابة إغراق نقدي على العملاء المفضلين".
وقال: "سيكون نهج السعودية تجاه غزة مماثلا، لموقفها مع مصر التي تعاني من ضائقة مالية وقالت السعودية أنها تفضل فرص الاستثمار، وليس التحويلات النقدية".
وشدد جوس على أن "الرياض، مثلها مثل مصر والإمارات، لا تُكن الكثير من الحب لحماس، فقد كان السعوديون يخشون ويعارضون المكاسب السياسية التي حققتها الجماعات التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في مصر وتونس وأماكن أخرى خلال الربيع العربي (بداية من 2011)، وحماس هي الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان".
واستدرك: "هذا لا يعني ألا يقفوا ساكنين وغزة تُباد، بسبب ردود الأفعال الداخلية".
وختم جوس بقوله إن "لدى الرياض مصلحة في إنهاء القتال وإحراز تقدم نحو تسوية سلمية للقضية الإسرائيلية الفلسطينية، لكن ليس لديها حاليا سوى القليل من الأدوات التي يمكنها أو ستستخدمها لتحقيق هذا الهدف".
فيما شدد تقرير "مجموعة الأزمات الدولية" في 4 نوفمبر 2023 أنه "ليس من الواضح إن كانت المملكة لديها حتى الآن رؤية واضحة حول الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه الحل المرضي للصراع الإسرائيلي الفلسطيني".
لكنه أوضح أنه "حتى من دون مثل هذه الرؤية، يبدو أن الرياض تدفع بقوة من أجل استئناف عملية السلام، من دون حماس (التي انتقدتها من خلال قنوات غير مباشرة على الأقل ليس علنا) ولكن مع إشراك السلطة الفلسطينية في رام الله".
ورغم ربط محللين غربيين بين خطة مستقبل غزة ودور السعودية فيها وبين استئناف المفاوضات الخاصة بالتطبيع مع إسرائيل، يرى آخرون أن الأمر سيكون صعبا للغاية بسبب الغضب الداخلي، كما أن ضربة حماس لإسرائيل وحملة الإبادة الإسرائيلية في غزة ستعرقل ذلك.
ويرون أنه لتحقيق التقارب مع الرياض، ستحتاج إسرائيل إلى بذل مزيد من الجهد مما فعلته في الفترة التي سبقت "اتفاقيات أبراهام".
فيما يرى فريق منهم أن "دوافع التطبيع باقية" بدليل أن السعودية لم تُصعد ضد إسرائيل أو الغرب، كما أن نتائج القمة العربية الإسلامية التي استضافتها "كانت ضعيفة للغاية" ولم تصدر منها أي قرار واحد ضد إبادة غزة، وقيل إن الرياض وأبو ظبي والقاهرة "عرقلت ذلك".
ولم تظهر السعودية أي استعداد لاستخدام الأدوات المتاحة لها، مثل قدرتها على خفض إنتاج النفط أو صادراته للضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، ما يشير إلى رغبتها في عدم قتل فكرة التطبيع بل تريد إبقاءها حية.
وفي أغسطس/ آب 2023، عينت السعودية أول سفير لها لدى الفلسطينيين، وهي خطوة فسرها مراقبون على أنها دليل على نية الرياض التطبيع والضغط من أجل الحصول على ضمانات إسرائيلية نيابة عن الفلسطينيين لتمرير اتفاق التطبيع.
وفي هذا الصدد، يعقد أستاذ الشؤون الدولية، جوس، أنه "طالما ظلت إسرائيل منشغلة بغزة وما دام الرأي العام العربي يتم حشده لدعم الفلسطينيين، فإن الصفقة الإسرائيلية السعودية لن تكون ناجحة".
لكنه لا يستبعد التطبيع لاحقا بقوله إن "أزمة غزة ستنتهي، كما تنتهي كل الأزمات، ومن المرجح أن يستغرق ذلك أشهرا وليس أسابيع، مما يؤدي إلى تعليق أي جهود دبلوماسية أخرى في الشرق الأوسط".
فالعوامل التي دفعت لمفاوضات التطبيع لم تتغير، وفق جوس، "حيث ترغب إسرائيل بشدة في إقامة علاقة أوثق مع السعودية، ويرغب السعوديون في أن يكونوا قادرين على الاستفادة من الاقتصاد الديناميكي لإسرائيل، كما فعلت الإمارات منذ توقيع اتفاقيات أبراهام".
وأشار تقرير لموقع "ذا كونفرزيشن" الأميركي في 11 أكتوبر 2023 أن "خطة اللعب السعودية في الشرق الأوسط تعتمد على رغبة ابن سلمان وضع المملكة كقوة دافعة للشؤون الإقليمية، والتأكد من أن لديه القوة الاقتصادية لتحقيق تحول المملكة في (رؤية 2030) بعيدا عن الاعتماد على النفط".
وأكد أن "القيام بذلك، يحتاج إلى معالجة المخاوف الأمنية الإقليمية، وهو بدأ ذلك بالفعل مع إيران، ويحاول فعله ضمنيا مع إسرائيل منذ عدة سنوات في حوارات عبر القنوات الخلفية، والكثير من التعاون تحت الطاولة، وهو ما جاءت حرب غزة لتقلب طاولة خطة اللعب هذه".